من انتهاك الحقوق المدنية وقمع المعارضة الداخلية إلى دعم الجماعات الإرهابية وغزو سورية مروراً بالانتهاك المتواصل لحدود العراق وابتزاز الاتحاد الأوروبي بملف اللاجئين السوريين إلى تأجيج الصراع في ليبيا وإشعال أزمة دولية وإقليمية في حوض المتوسط إلى تأجيج الخلاف بين أرمينيا وأذربيجان، هكذا يواصل نظام الرئيس التركي رجب أردوغان منذ الانقلاب الفاشل في منتصف يوليو 2016 سلوكه البربري في التعاطي مع جميع الملفات الداخلية والخارجية التي تدور في فلك عدم الالتزام بالقوانين والأنظمة الدولية وانتهاك سيادة الدول وعدم احترام الأعراف الدبلوماسية في التعامل مع دول الجوار، التي من آخر مهازلها إعلان النيابة التركية العامة في أواخر شهر سبتمبر الماضي لائحة اتهام جديدة حول قضية مقتل المواطن السعودي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، وهي محاولة بائسة لمواصلة توظيف القضية سياسيا من قبل نظام أردوغان ضمن سياق نهجه السياسي المضطرب، فهو يريد أن يحشر أرنبة أنفه في قضية وقعت داخل الحدود السيادية للمملكة وتخص أطرافا سعودية، وتم حسمها من قبل القضاء السعودي المستقل القائم على منهج الشريعة الإسلامية، ومع ذلك لا يفتأ عن مواصلة التدخل في شأن قضائي لا يخصه في إطار سياسته المتأزمة مع الجميع، ومتغافلا عن الوضع البائس الذي أصبح عليه القضاء التركي المخترق من قبل سلطة أردوغان وحزبه الحاكم التنفيذية التي أدت على اختلال السلك العدلي في بلاده والقضاء على السلطة التشريعية والقانونية.
أردوغان أنشأ محاكم جزائية لاستهداف خصومه ومعارضيه
فضيحة الفساد المالي الكبير في 2013 هي السبب وراء تداعيات الأحداث الحالية في تركيا
«القضاء الأوروبي» علّق عضوية القضاء التركي بسبب الانتهاكات المفزعة والتعذيب
تركيا علّقت العمل بالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان لتستبيح حقوق الموقوفين
قضاء أردوغان حاكم من يحمل دولاراً في محفظته بالإرهاب واعتبره دليل إدانة.. و7 سنوات سجناً لمن يحمل تطبيق «بايلوك»
النظام ألقى بقاضٍ أممي في السجن وانتهك حصانته.. فماذا سيكون حال القضاة المحليين؟
هذا استعراض مختصر للحالة التركية منذ الانقلاب الفاشل في منتصف يوليو 2016 الذي بات يطلق عليه «الانقلاب المزعوم» و«الانقلاب المدبر» و«مسرحية الانقلاب»، وهي الأوصاف السائدة في الشارع التركي ووسائل الإعلام التركية المعارضة والإعلام العالمي بعد أن تغير انطباعها عن تلك المحاولة الانقلابية وفقاً لمنطق «فتش عن المستفيد».
حتى المحاكم التركية لم تعد تحكم بسجن من يصف العملية الانقلابية بـ«المسرحية» أو «سيناريو مدبر من قبل الرئيس أردوغان»، إذ قضت المحكمة العليا التركية منذ أغسطس 2019 بعدم تجريم ومعاقبة من يطلق تلك الأوصاف على العملية الانقلابية في 2016، ورفضت مطالب وزارة العدل التركية بإيقاع عقوبات في هذا الشأن لأسباب منطقية فهي تدرك أنها لو فتحت الباب لمحاكمة كل من يشك في أن الانقلاب المزعوم دبره الرئيس التركي للتخلص من خصومه، فسوف تغرق في إجراء محاكمات لا حصر لها، وكذلك لم يعد بإمكان 366 سجناً في أنحاء تركيا استيعاب المزيد من السجناء في ظل امتلائها بما يفوق الحد الأقصى من السجناء بأكثر من 9% وفقاً للإحصاءات الرسمية، كما أن النظر في محاكمة من هذا النوع يعد أمراً تافهاً مقابل كم هائل من القضايا الأخرى المتدفقة على المحاكم يوميا والمتعلقة بالمعارضين السياسيين لنظام أردوغان الذي سحق سياسة «صفر مشاكل» التي أعلن عنها أحمد داوود أوغلو في 2013 حين كان وزيراً للخارجية ومفادها أن بلاده تتوق لمرحلة متوازنة في مسألة الأمن والحريات وبناء علاقات إيجابية مع دول الجوار والمجتمع الدولي، ولكن تلك السياسة انقلبت إلى «البحث عن أي مشكلات». أمام هذه الحالة السياسية المضطربة التي أغرقت تركيا بشكل غير مسبوق في صراعات داخلية وإقليمية ودولية، أكد خبراء علم النفس في تقرير نشرته «عكاظ» في 18 سبتمبر الماضي بعنوان «رجل أنقرة المريض.. سيكوباتي»، أن الرئيس أردوغان الذي يحكم بلاده بسلطة مطلقة يعاني بشكل واضح من «بارانويا جنون العظمة» وهو ذات الداء الذي قضى على جميع من سبقوه من الزعماء الديكتاتوريين مثل هتلر وموسيليني وتشاوتشيسكو وصدام حسين ومن على شاكلتهم، إلا أن هذه الحالة المرضية العرضية التي أفضت إلى اختلال على جميع النواحي السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية في تركيا، ظهرت عقب فضيحة الفساد الكبرى في 2013، التي كشفت تورط أردوغان ونجله وأفراد من أسرته وعدد من وزرائه وأبنائهم ونواب من الحزب الحاكم في قضايا فساد وغسل أموال بالمليارات، فمنذ أن تكشفت خيوط تلك الفضيحة الكارثية كان من الواضح أن أردوغان وقع في شراك خيارين «أحلاهما مر»، فإما الاستسلام لقبضة العدالة أو الخوض في مغامرة سحق العدالة وما يصاحبها من عمليات سحق للمعارضة والإعلام والمؤسسات الحقوقية من أجل إطالة أمد بقائه. والخيار الأول لم يكن اتخاذه ممكناً في ظل أنه لن يدفع الثمن وحيداً بل سيجر معه أسرته وأقرباءه وأعضاء حكومته وحزبه والبوتقة الفاسدة المحيطة به، أما الخيار الثاني الذي لا نزال نعيش تبعاته، فدفع بأردوغان إلى الاستيلاء على السلطات الثلاث (التشريعية، والتنفيذية، والقضائية)، إذ استطاع من خلال مراسيم الطوارئ الموضوعة عقب مسرحية الانقلاب من عزل كل من يعارضه من القضاة ووكلاء النيابة والمحامين الحقوقيين ومن ثم فرض تعديلات دستورية في 2017 وتحويل نظام بلاده من برلماني إلى جمهوري ليمتلك سلطة تنفيذية مطلقة، وهو ما مهد له الساحة لتحويل بلاده إلى ديكتاتورية يتحكم فيها أردوغان كيفما يشاء.
محاكم أردوغان التي تسعى حالياً بشكل سافر للتدخل في قضية مقتل المواطن السعودي جمال خاشقجي، وإجراء محاكمة صورية لا قيمة قانونية لها، تتغافل عن أحكام «قاراقوش» الجائرة التي طالت كل من اعترض على انتهاكات أردوغان ضد القوانين والحقوق المدنية، وطالت القضاة والمدعين والمحامين، وشرعت قوانين أطلقت يد السلطة الحاكمة حتى يواصل أردوغان بسلطاته المطلقة هروبه للأمام من «فضيحة فساد 2013» أو ما نصفه بـ«الأزمة الأم» التي قادت إلى جميع هذه التخبطات التي تعاني منها تركيا. وفي هذا التقرير سنسلط الضوء على وضع القضاء والسلك العدلي في تركيا تحت مظلة الأوتوقراطية والديكتاتورية الأردوغانية التي تتبجح بمحاولة توسعة نطاق المحاكمات المشبوهة التي تجريها ضد المعارضين لتستخدم هذه المحاكم في برامجها السياسية بعد أن أصبح القضاء أداة يتلاعب بها النظام الحاكم.
القانون رقم 7145
لم يكن فرض حالة الطوارئ لمدة عامين في الفترة ما بين يوليو 2016 إلى يوليو 2018 كافياً لقمع معارضي نظام أردوغان بالرغم من أن مراسيم الطوارئ أفضت إلى التحقيق مع أكثر من 400 ألف شخص وتوقيف أكثر من 80 ألفاً، وكذلك عزل نحو 175 ألف مواطن تركي عن وظائفهم في مختلف المؤسسات العامة والخاصة، كل ذلك كان بحجة تطهير البلاد من «حركة الخدمة» التي يتزعمها فتح الله غولن والتي اعتبرتها الحكومة التركية منظمة إرهابية وكيانا موازيا يخل بأمن البلاد، وبعد انقضاء عامين تم رفع حالة الطوارئ بتاريخ 15 يوليو 2018 لامتصاص الضغوطات الأوروبية والدولية الأخرى.
ولكن بعد 9 أيام فقط من رفع حالة الطوارئ في تركيا التي استمرت لعامين متتاليين عقب المحاولة الانقلابية المزعومة، أقر البرلمان التركي «قانون مكافحة الإرهاب» (القانون رقم 7145) بتاريخ 24 يوليو 2018، وهو بمثابة البديل القانوني لمراسيم الطوارئ، وكان استمرار تمديد حالة الطوارئ خلال تلك الفترة الطويلة التي بدأت بـ3 أشهر وجرى تمديدها 7 مرات متتالية محل انتقادات واسعة من قبل المنظمات الحقوقية في الداخل والخارج بسبب توظيفها كمقصلة للقضاء على المعارضين، لدرجة أنه قبل 24 ساعة من إلغائها أصدر أردوغان آخر مراسيم الطوارئ رقم 701 وعزل بموجبه المزيد من المعارضين، إذ نص المرسوم الأخير للطوارئ على فصل 18 ألفا و632 موظفاً حكومياً، وتضمنت القائمة 1052 موظفاً في وزارة العدل التركية، ثم حل قانون مكافحة الإرهاب كنسخة بديلة للطوارئ وتحمل ذات المزايا القمعية في التخلص من المعارضين، إذ أبقى على ذات السلطات التعسفية الممنوحة للرئيس أردوغان خلال مرحلة حالة الطوارئ، إضافة إلى أنه يسمح باحتجاز بعض المشتبه بهم لمدة تصل إلى 12 يوما دون توجيه تهم إليهم، ويمنح الحكومة التركية برئاسة رجب أردوغان سلطة عزل أي مسؤول عام أو قاض أو مدع.
ولذلك حذرت الأمم المتحدة أخيراً عبر رسالة مشتركة بعثها مقررون أمميون إلى الحكومة التركية بتاريخ 26 أغسطس الماضي من قوانين مكافحة الإرهاب في تركيا من أنها تنتهك حقوق الإنسان ولا تتوافق مع التزاماتها بموجب القانون الدولي.
استهداف القضاة منذ 2013
بدأ أردوغان مشروعه لأدلجة وتطهير القضاء من أي قاض ووكيل نيابة ينساق في أحكامه ضد النظام الحاكم بعد فتح التحقيقات في قضايا الفساد الكبرى في حكومته عام 2013، إذ أطاح مطلع يناير 2014 بأكثر من 120 قاضياً ووكيل نيابة، وهو ما دفع رئيس المحكمة الدستورية السابق هاشم كيليتش، قبل استقالته في مارس 2015، لتوجيه انتقادات حادة إلى أردوغان والحزب الحاكم، محذراً من خطورة تحول القضاء إلى أداة انتقام على يد السلطة السياسية بعد أن عززت شخصيات مدعومة من الحكومة قبضتها على محاكم رئيسية في تركيا.
وبدأت عملية توظيف السلطات القضائية لخدمة مصالح الرئيس أردوغان والحزب الحاكم من خلال تأسيس ما يسمى بـ«محاكم الصلح الجزائية» التي انطلقت في 28 يونيو 2014، وأصبحت وسيلة للقضاء على كل من يشكل خطراً على سياسة الرئيس أردوغان أو توجيه الانتقادات له سواء عبر وسائل الإعلام أو التواصل الاجتماعي، وأصبحت قرارات هذه المحكمة خاضعة كلياً للسلطة التنفيذية لرئيس الدولة، وقد سبق وأن تحدث عن هذه المحكمة نائب رئيس حزب الوحدة الكبرى «رمزي جايير» الذي انضم لاحقاً إلى حزب العدالة والتنمية، وقال في لقاء تلفزيوني في مارس 2015 إن الرئيس أردوغان قال له في تلك الفترة من 2014: «لقد قدمنا اقتراحا بإنشاء نوع خاص من المحاكم سنسميه (محكمة الصلح الجزائية)، وقدمنا طلبا للرئيس عبدالله جول من أجل إقرارها»، وأضاف جايير أن أردوغان قال له: «سأقوم بمحو حركة غولن خلال أسبوع أو 10 أيام من إقرار هذه المحكمة».
وفي 2014 مرر البرلمان التركي قانوناً يعزز الرقابة التنفيذية على السلطة القضائية، ويمنح وزارة العدل سلطة تعيين أعضاء المجلس الأعلى للقضاء، وبالتالي يكون القضاة وأعضاء النيابة العامة تحت سيطرة النظام الحاكم، وهذا بكل وضوح ضد مبدأ الفصل بين السلطات.
وفي مطلع أبريل 2015، تم اعتقال قاضيين بتهمة الانتماء إلى تنظيم إرهابي بعدما حكما بإطلاق 74 متهماً على ذمة قضية تشكيل إرهابي يتزعمه غولن، رغم أن القاضيين استندا إلى عدم كفاية الأدلة، وإمكان إكمال سير التحقيقات من دون استمرار احتجاز المتهمين، إلا أن حكومة أردوغان اعترضت على الحكم وعلقت تنفيذه، وهذا يدل على استهداف أردوغان للقضاء والسلطات التشريعية قبل عملية الانقلاب التي حولها على الفور إلى فرصة ذهبية للتخلص من باقي القضاة غير الموالين له.
قوائم جاهزة قبل الانقلاب
توجد مؤشرات ودلائل قوية وواضحة تؤكد أن الاعتقالات التي طالت أروقة القضاء لا علاقة لها بمحاولة الانقلاب الفاشل بل كانت القوائم جاهزة ومعدة مسبقاً، والهدف الرئيسي من اعتقال وإقصاء هذا الكم الكبير من القضاة ووكلاء النيابة كان مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالقضاة الذين شاركوا في تحقيقات الفساد المالي الكبير في 2013، أو بسبب تذمر جهاز الرئاسة من القضاء نتيجة أحكام أو تحقيقات وقضايا تمس السلطات وتقف ضد مصالحها وتؤثر عليها.
وقد كشف تصريح قديم لنائب رئيس مجلس القضاء التركي الأعلى متين يندرماز لصحيفة حرييت في مارس 2016، أي قبل 4 أشهر من الانقلاب، أن الحكومة التركية أعدت قائمة مسبقة لعدد هائل من القضاة ووكلاء النيابة لإبعادهم، وذلك بسبب شكاوى قدمت ضدهم من قبل السلطات التركية، حيث قال: «إن الهيئة العليا للقضاء قد أعدت قوائم بأسماء 5000 قاض ووكيل نيابة، تمهيدا لعزلهم بسبب شكاوى قدمت ضدهم من قبل جهاز الرئاسة ورئاسة الوزراء»، وهو ما يقدم دلالة واضحة على أن محاولة الانقلاب الفاشل لم تكن سوى ذريعة للقيام بفصل جميع القضاة الذين وقفوا حجر عثرة أمام الحكومة التركية، ومحاولة لفرض سلطة النظام الحاكم على القضاء. ر وبتاريخ 16 يوليو 2016، أي بعد مرور 24 ساعة فقط من عملية الانقلاب الفاشلة، تم شطب عضوية أكثر من 2500 قاض ومدعٍ عام من نقابة القضاة، وتم على الفور تجميد حساباتهم البنكية قبل توجيه التهم إليهم، وهو ما يبرهن على وجود جاهزية واستعداد مسبق لاتخاذ هذه الإجراءات قبل أحداث مسرحية الانقلاب التي كانت بمثابة «ساعة الصفر» التي تنطلق عندها السلطات لتأدية مهمة السيطرة على السلطة القضائية.
وفي منتصف ديسمبر 2016 قال وزير العدل التركي بكري بوزداغ إن القضاة ووكلاء النيابة الذين رفعت ضدهم دعاوى قضائية بلغ عددهم 3820، مؤكدا حينها أن 2430 منهم كانوا لا يزالون في السجون، معتبراً أن هذه الأعداد الكبيرة القابعة في السجون سبب جوهري لفتح المجال لتعيين 3940 قاضياً ووكيل نيابة جددا، وذلك وفقاً لمعايير أعدتها الحكومة التركية مسبقا، وهو ما يعطي المزيد من الدلالات على أن النظام التركي كان يسعى مسبقاً لإحلال القضاة والسلك العدلي مجملاً بقضاة ووكلاء نيابة موالين لسلطة الحزب الحاكم.
قضاة في غياهب السجون
تؤكد العديد من التقارير والتغطيات الإعلامية أن الحملات التي يقودها الرئيس أردوغان ضد سلطة القضاء التركي والتي أفضت إلى إيقاف وفصل أكثر من 4 آلاف قاض ووكيل نيابة عقب الانقلاب الفاشل في 2016 لا علاقة للكثير منها بعملية الانقلاب على وجه التحديد بقدر ما هي مرتبطة بقضية تحقيقات الفساد الكبرى في ديسمبر 2013 التي أسفرت حينها عن تورط عدد من وزراء الحكومة وأبنائهم، بمن فيهم أردوغان وبعض أقربائه، وتمثلت أولى ردود الفعل الحكومية في شطب قاض و4 وكلاء نيابة في 12 مايو 2015، وكانوا جميعاً من الأسماء التي شاركت في تلك التحقيقات، أما القضاة الذين ترأسوا دعاوى ضد الرئيس أردوغان في المحكمة الجنائية العليا، فقد تم خسف درجاتهم الوظيفية، إضافة إلى ورود أسمائهم لاحقاً ضمن القوائم المعدة مسبقاً لفصل أكثر من 2600 قاض ووكيل نيابة بتهمة الانتماء للكيان الموازي.
وفي مطلع مايو 2015 تم القبض على القاضيين متين أوزجليك، ومصطفى بشر، لإصدارهما أوامر بالإفراج عن 63 شخصا محبوسين احتياطيا، بينهم زوجات المشتبه بهم في قضايا تتعلق بالارتباط بالكيان الموازي أو «حركة فتح الله غولن». وعلق المتحدث باسم الحكومة التركية حينها بنبرة حادة على هذه الحادثة، متسائلاً: «كيف يتجرأون على الإفراج عن المشتبه بهم؟». وأسفرت الواقعة عن فصل القاضيين وعدم الإفراج عن المتهمين، وهو نموذج بسيط لما تتعرض له السلطة القضائية في تركيا، التي تم التدخل في شؤونها وانتهاك سيادتها من قبل حزب العدالة والتنمية الحاكم وتحويلها تدريجيا إلى أداة سياسية ضد الخصوم وما يشبه محاكم التفتيش في القرن الخامس عشر، إذ تم استحداث محاكم خاصة لخدمة السلطة الحاكمة وجميع أعضائها، إما من المحسوبين على حزب العدالة والتنمية مباشرة أو من الموالين له، وقام هؤلاء بتوظيف «حالة الطوارئ» لإصدار حزمة قرارات ومراسيم قوضت صلاحيات سلطة القضاء وجعلتها خاضعة للسلطة التنفيذية. وقام أردوغان بتعيين مستشار خاص له قاضيا في المحكمة الدستورية في 25 أغسطس 2016.
ويعد «سليمان كاراجول» ضمن قائمة طويلة من القضاة الذين دفعوا ثمناً باهظاً نتيجة المشاركة في تحقيقات الفساد المالي الشهيرة في ديسمبر 2013، فقد تم اعتقال كاراجول لاحقاً بتهمة عضويته في جماعة إرهابية والسعي إلى قلب نظام الحكم. وفي 2016 تم اعتقال اثنين من قضاة المحكمة الدستورية العليا وهما ألب أرسلان ألتان، وأردال ترجان، في انتهاك صارخ للقانون الذي يقر باختصاص المحكمة الدستورية وحدها بحق اتهام ومحاكمة أحد أعضائها.
وفي يونيو الماضي حكمت السلطات التركية بسجن القاضي العسكري العقيد المتقاعد أحمد زكي أوزجوك 6 أعوام و7 أشهر بسبب اتهامه لوزير الدفاع التركي خلوصي آكار وقادة الجيش بمسؤوليتهم عن محاولة انقلاب 2016. والمثير في قضية أوزجوك أنه ساهم في إقالة آلاف العسكريين من القوات المسلحة التركية عقب محاولة الانقلاب، وتمت محاكمته حينها بسبب التقارير الزائفة التي أعدها، وحُكم عليه ثم تمت تبرئته لاحقاً. وأعلنت السلطات أن كل الاتهامات الموجهة إليه ما هي إلا مؤامرة.
ولا شك أن القضاة في تركيا تعرضوا لشتى أنواع الانتهاكات التي قضت على استقلالية القضاء، ولعل من الأمثلة المثيرة التي تدل على ذلك هي قضية الأزمة الدبلوماسية بين الحكومة التركية والأمم المتحدة التي أحدثتها عملية القبض على القاضي آيدين صفا أكاي وهو قاض منتدب لدى الأمم المتحدة، وتم اتهامه عقب الانقلاب الفاشل بالانتماء لجماعة إرهابية مسلحة بسبب مزاعم بارتباطه بمنظمة فتح الله غولن، وأدانت المحكمة آكاي لاستخدامه تطبيق «بايلوك»، وهي خدمة اتصال تقول السلطات التركية إنها أنشئت خصيصا لأنصار غولن، بحسب وكالة دوغان للأنباء، إلا أن القاضي أنكر استخدامه أي كلمة سر للدخول في التطبيق، أي أنه اطلع على المعلومات المتاحة للجميع، ومع ذلك تم الحكم عليه بـ7 سنوات على رغم أنه قاض دولي ولديه حصانة دبلوماسية من الأمم المتحدة، وذات الأمر ينطبق على رئيس منظمة العفو الدولية السابق في تركيا تانر كيليش، الذي أدين بالعضوية في منظمة إرهابية، وحكم عليه في شهر يونيو بالسجن أكثر من 6 سنوات، فكيف سيكون عليه الوضع مع القضاة المحليين بل ومع الأفراد العاديين سواء من حيث إجراءات التوقيف أو المحاكمة أو في غياهب السجون لاحقاً.
ونتيجة لهذه الانتهاكات المفزعة وفقدان القضاء التركي لاستقلاليته بشكل تام وفاضح، علَّق مجلس القضاء الأعلى الأوروبي منذ 8 ديسمبر 2016 عضوية مجلس القضاء التركي الذي كان عضوا مراقبا، وأصدر بياناً أكد فيه عدم رضا المجلس عن الوضع الحالي للقضاء الأعلى في تركيا.
حتى المحامون لم يسلموا
بينت العديد من التقارير الإعلامية التي تداولت أوضاع المعتقلين منذ محاولة الانقلاب الفاشل نقلاً عن محاميهم أنهم تعرضوا للكثير من الانتهاكات القانونية، ومن أخطر تلك الممارسات هو ما تعرض له المحامون أنفسهم من تهديدات، بل وتم إجبار البعض منهم على الاعتراف بالتهم الموجهة ضد موكليهم، ما دفع بعض المحامين للهرب خارج تركيا.
وتطرق إلى هذه الانتهاكات تقرير صادر عن اللجنة البرلمانية لمجلس أوروبا (PACE) بعد أشهر من الانقلاب المزعوم، تحت عنوان: «ضمان تأمين اتصال المحتجزين بالمحامين»، وأكد من خلال إفادة قدمتها الصحفية الفرنسية مارياتا كارامانلي أنه إضافة إلى سوء معاملة المحتجزين المتهمين بالضلوع في عملية الانقلاب الفاشل في تركيا فإنهم غير قادرين على إيجاد محامي دفاع يمثلهم أمام المحاكم، أو حتى القدرة على دفع تكاليف المحاماة لأن الحكومة التركية تقوم بمصادرة أموال وممتلكات الكثير من المحتجزين بلا حكم قضائي حول التهم الموجهة إليهم. وأشارت كارامانلي إلى أن بعض المحامين أصبحوا نتيجة للتهديدات يعملون ضد مصلحة موكليهم، إذ اكتشف الكثير منهم أن المحامين الممثلين لهم لم يتقدموا بالأوراق القانونية المطلوبة إلى المحكمة الدستورية إلا بعد انقضاء المهلة القانونية.
وقبل أيام قليلة عاودت السلطات التركية اعتقال 60 محاميا بعد إخلاء سبيلهم مع إخضاعهم للرقابة القضائية وذلك بعد أن طعنت النيابة في قرار إخلاء سبيلهم، وتتهمهم السلطات التركية بالدفاع عن المعتقلين المنتمين إلى حركة غولن المحظورة وتعتبر الدفاع عنهم جريمة رغم أن المبادئ التي أقرتها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تعتبر أن الدفاع يعد مساوياً للنيابة العامة في جلسات المحاكمة العادلة، وعقب الانقلاب الفاشل في 2016 احتجزت الحكومة التركية أكثر من ألف محام واعتقلت 114 آخرين، وكانت أبرز التهم الموجهة ضدهم هي أنهم متواطئون مع موكليهم في الجرائم التي تم ارتكابها، ووصل الأمر إلى اتهام بعض المحامين بسبب دفاعهم بشدة عن موكليهم.
ذرائع سخيفة للإدانة
خلال وبعد حقبة مراسيم الطوارئ استخدمت السلطات ذرائع غريبة كدليل إدانة ضد من لا يروق للنظام، وامتدت الإدانات بتلك الذرائع لتشمل القضاة ووكلاء النيابات والمحامين، وهو ما يعد انتهاكاً للمواثيق الدولية الموقعة عليها تركيا، إضافة إلى انتهاك ما ينص عليه الدستور التركي بذاته، ومن بين أبرز الذرائع العجيبة التي استخدمت كدليل إدانة، هي الاشتراك في «صحيفة زمان» التركية التي كانت من أبرز الصحف الجماهيرية في الشارع التركي قبل إلغاء ترخيصها واعتبارها جريدة معارضة للنظام منذ 4 مارس 2016، واستخدم الاشتراك فيها كدليل جنائي من قبل المدعين، وذلك بعد تضمين الاشتراك في الصحف المعارضة في لائحة الاتهام بالإرهاب باعتباره دليلاً. ومن الذرائع الغريبة على الأنظمة القانونية التي استخدمت كدليل إدانة بالارتباط بالمنظمات الإرهابية، هي حمل دولار أمريكي فقط، فحكومة أردوغان تؤمن بوجود نظرية مؤامرة في هذا الشأن، وتستغل وجود دولار في محفظة المقبوض عليهم كدليل إدانة، فالسلطات تدعي أن أعضاء حركة غولن التي تصنفها أنقرة منظمة إرهابية، يستخدمون كودًا سريًّا موجودًا في الأرقام التسلسلية المسجلة على الدولار، رغم أن هذه الأكواد يحددها البنك الاحتياطي الحكومي الذي تصدر منه العملة، وأياً كانت المبررات فهي لا ترقى لمستوى دليل إدانة في الاجراءات العدلية الأساسية، مع ذلك استخدمت كدليل إدانة لاعتقال عالم الفيزياء الأمريكي من أصل تركي سيركان غولج (36 عاما)، الذي يعمل بوكالة ناسا، بعد مسرحية الانقلاب الفاشل، واتهم حينها بأنه عميل في المخابرات الأمريكية والدليل أنه «يحمل دولاراً».
ويعتبر تحميل تطبيق «بايلوك» (Bylock) في الهواتف الذكية وهو تطبيق مشفر لحماية معلومات التواصل بين الأفراد، من ضمن الذرائع التي استخدمت كدليل إدانة لارتباط المدعى عليهم بالإرهاب، حيث تدعي السلطات التركية أن حركة غولن استخدمته للتواصل بين اعضائها والمشاركة في تدبير الانقلاب، وبسبب هذا التطبيق أدين القاضي التركي أيدين صفا أكاي، رغم أنه قاضي أممي رفيع في المحاكم الجنائية الدولية التابعة للأمم المتحدة، بتهمة الإرهاب والمشاركة في انقلاب 2016 الفاشل، وتم الحكم عليه بـ7 سنوات. هذه مجرد نماذج بسيطة لما أصبح عليه القضاء في عهد أردوغان.
تعذيب المحتجزين
أكدت مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة هيومان رايتس ووتش في تقرير لها صادر في أكتوبر 2016، وجود حالات تعذيب مفزعة للمحتجزين في السجون التركية، ووثق التقرير عددا من الحوادث التي عجز فيها محامو الدفاع عن وقف تعذيب موكليهم في أقسام الشرطة، من بينها شهادة محامية تركية رأت أمام عينيها موكلها يتعرض للضرب بعصا على وجهه وفي أماكن عدة من جسده، وسلب الاعترافات منه بالقوة ولم تستطع فعل شيء خوفاً من تهديدات ضباط الشرطة، مؤكدة أنها لم تعد تقبل الدفاع في هذه القضايا لعدم وجود جدوى من ذلك.
وفي أكتوبر 2017 أصدرت «هيومان رايتس ووتش» تقريراً إلحاقياً عن حالات التعذيب الوحشي للمعتقلين في تركيا على خلفية قضية الانقلاب المزعوم، وجاء في التقرير الذي حمل عنوان «رهن الاعتقال: التعذيب والاختطاف على يد الشرطة في تركيا»، المكون من 43 صفحة، ووثق التقرير خلال الأشهر السبعة الأولى من العام الذي صدر فيه التقرير، 11 حالة تعذيب بشع أثناء الاحتجاز لانتزاع الاعترافات، وتفاوتت درجات التعذيب ما بين الضرب المبرح والتهديد والاعتداء الجنسي، كما وثق التقرير 5 حالات أخرى تم فيها اختطاف وإخفاء قسري لأفراد وشخصيات اعتبارية احتجزوا من قبل السلطات ولكنها تنكر ذلك وترفض تقديم معلومات عنهم.
وكان نائب رئيس الحكومة التركية السابق نعمان كورتلموش قد أعلن بعد أيام قليلة من الانقلاب المزعوم أن تركيا علقت العمل بالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان بسبب فرض حالة الطوارئ، وهو ما يعني ضمنياً استباحة حقوق الموقوفين بما في ذلك إتاحة التعذيب، كما تسمح تلك الخطوة لتركيا بتجنب إدانات محتملة جديدة لاتهامها بانتهاك حقوق الإنسان في الوقت الذي تجري فيه حملتها المفزعة في سحق القضاة ووكلاء النيابة والإعلام والتعليم والجامعات والجيش من كل من تعتقد السلطات أنهم ضالعون في الانقلاب الفاشل. وتحججت الحكومة التركية حينها بقيام فرنسا بتعليق الاتفاقية ذاتها بعد الاعتداءات الإرهابية في نوفمبر 2015، إذ يسمح البند 15 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان للحكومات بتعليق بعض الحقوق والحريات التي تكفلها في الظروف الاستثنائية وبشكل مؤقت ومحدود ومنضبط، ولكن شتان وفرق شاسع بين الآلية التي اتبعتها فرنسا وما يجري في تركيا، فالحكومة الفرنسية حين أعلنت حالة الطوارئ أبلغت الأمين العام للمجلس الأوروبي ثوربيورن ياغلاند بالإجراءات التي اتخذت في إطار حالة الطوارئ التي فرضت بعد الاعتداءات الإرهابية الواسعة في باريس، وأوضحت أن هذه الإجراءات «يمكن أن تتطلب مخالفة بعض الحقوق التي تتضمنها الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان»، وعلق مجلس أوروبا حينها بأن الاتفاقية تبقى مطبقة في فرنسا ولا يمكن السماح بمخالفة بعض هذه الحقوق وخصوصا حق الحياة ومنع التعذيب والعقوبات أو المعاملة غير الإنسانية أو المهينة، وهو ما لم يتم في الحالة التركية، إذ أدانت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تركيا في العديد من الانتهاكات التي مارستها ضد الموقوفين ووضعتها في القائمة السوداء التي احتلت فيها تركيا المرتبة الثانية بعد روسيا بأكثر من 1500 قرار لم يتم تطبيقها حتى الآن بحسب تقرير عام 2018 الذي نشرته لجنة وزراء المجلس الأوروبي في أبريل العام الماضي. وأشار التقرير إلى أن تصدر تركيا لقائمة القرارات غير المنفذة إلى كونها أكثر الدول التي أصدرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قرارات ضدها. وكتبت منظمة العفو الدولية إلى السلطات التركية بشأن مزاعم ذات مصداقية بأن رجلين، عثمان شيبان وسيرفت تورغوت، تعرضا للتعذيب أو غيره من ضروب سوء المعاملة بعد أن اعتقلهما رجال الدرك في 11 سبتمبر الماضي بإحدى مقاطعات مقاطعة فان الشرقية، وكان من المزاعم الخطيرة الادعاء بأن الرجلين أُلقي بهما من طائرة هليكوبتر، إذ تشير التقارير الطبية التي اطلعت عليها منظمة العفو الدولية إلى أنهما أصيبا بجروح تتفق مع السقوط من ارتفاع.
بيع البطيخ أشرف من قضاء أردوغان
في 19 مايو الماضي نشر القاضي السابق عن منطقة كهكلي في تركيا محمد كور أوغلو صوراً له وهو يبيع البطيخ في أحد الشوارع، قائلاً: «لا أخجل من بيع البطيخ، لكن أخجل من بيع نفسي وضميري لأي شخص».
ووجه حديثه لحكومة العدالة والتنمية والرئيس أردوغان، قائلا: «أبعدتموني عن وظيفتي، لكن لا أحني رأسي مطلقاً، فأنا أعرف جيداً كيف أقف وأنهض مجدداً». وذكر أنه «رفض أن يفعل شيئاً ضد القانون، أو أن يصبح عبداً للحكومة».