الكاتب والأكاديمي عبدالله بن محمد الرشيد، يرى أنّ ظهور تنظيمات الإسلام السياسي في منتصف القرن العشرين كان سبباً في ما وصفه بالشذوذ الفكري والثقافي في الحالة الدينية المعاصرة، لأنّ طموح هذه الجماعات هو الوصول إلى السلطة، والسيطرة على العالم الإسلامي وأنّ هذه التنظيمات لم تكن في بادئ الأمر ذات عناية بعلوم أصول الدين، ومبادئ الشريعة، ومذاهب الفقهاء، بل كانت نشازاً وحركة طارئة عن نسيج التقليد الفقهي، بل تحولت لاحقاً لأحد أكبر أعداء الإسلام الكلاسيكي. ويؤكد في هذا الحوار أنّ الحركات الإسلامية قد رفعت من الدين شعاراً لثورتها السياسية، وعمدت شيئاً فشيئاً إلى استخدام التراث الإسلامي لتحقيق أهدافها، وصياغة التاريخ الإسلامي من جديد كي يبدو وكأنها امتداد له وهذا زيف وادعاء. المزيد من الآراء الجريئة التي يطرحها الرشيد عن التراث العربي والإسلامي وموقفه من تراث أحمد بن حنبل وابن تيمية ورأيه في مواقف بعض الحداثيين من التراث الإسلامي في هذا الحوار.. فإلى نصّه:مللنا جلد الذات والأمم الأخرى تتقاتل على آثار حضارتنا العظيمة
أكبر مشكلات العقل بناء التصورات على آراء الوسطاء
الإمام أحمد ثار على الوضع القائم وطالب بعودة النصّ النقيّ
صورة الشاب المتدين في الخطاب الصحوي أثرت على الحالة الشرعية
المؤلفات الدينية في التراث الإسلامي ثورة علمية
ربط الحركات الإسلامية نفسها بالتاريخ والتراث الإسلامي زيف وادعاء !
تنظيمات الإسلام السياسي.. حالة من الشذوذ الفكري
لست ضد النقد والمراجعة لكنني ضد أن ننظر لتاريخنا بازدراء
• دعنا نبدأ أولاً من الخطاب الصحوي الذي اختطف التراث العربي والإسلامي -كما تقول- ووظّفه لصالحه.. كيف حدث هذا الاختطاف ؟
•• حين بدأت تنظيمات الإسلام السياسي تظهر إلى العلن منذ منتصف القرن العشرين، بدأت لحظة كبرى من الشذوذ الفكري والثقافي في الحالة الدينية المعاصرة، كان طموح هذه الجماعات هو الوصول إلى السلطة، والسيطرة على العالم الإسلامي، ورفع حسن البنا شعار «أستاذية العالم». هذه التنظيمات لم تكن في بادئ الأمر ذات عناية بعلوم أصول الدين، ومبادئ الشريعة، ومذاهب الفقهاء، كانت نشازاً وحركة طارئة عن نسيج التقليد الفقهي، بل تحولت لاحقاً لأحد أكبر أعداء الإسلام الكلاسيكي.
المكون النفسي والثقافي لهذه التنظيمات السرية هو خليط من التشنجات المشحونة في لحظة فشل العالم الإسلامي، إضافة للأطماع السياسية، والرغبة في استعادة سلطة كهنوتية وفق منطق العالم المسيحي القديم، يضاف إليها خليط من الأفكار اليسارية والتنظيمات الشيوعية، وشعارات البعث الأيديولوجي، ولأن الحركات الإسلامية قد رفعت من الدين شعاراً لثورتها السياسية، فقد عمدت شيئاً فشيئاً إلى استخدام التراث الإسلامي لتحقيق أهدافها، وصياغة التاريخ الإسلامي من جديد كي يبدو وكأنها امتداد له.
الحركات الإسلامية اجتهدت على مدى عقود طويلة في ربط نفسها بالتاريخ الإسلامي، وتحويله كنموذج تستغله لتشريع أفعالها وسلوكها، فصوروا للناس أن تاريخ الحضارة الإسلامية هو تجسيد لمشروعهم الحركي الأصولي، وأنهم هم الامتداد المثالي لهذا التاريخ.. وبالطبع هذا زيف وادعاء، فالتاريخ أكبر منهم، والتراث أوسع من أن تحتكره طائفة، وإن كان لأمثالهم أسلاف في تاريخ الإسلام، فإنها جماعات التعصب والتزمت الديني التي كانت أحد عوامل انحطاط وتقهقر الحضارة الإسلامية.
لم يكن الإسلاميون معنيين بالقراءة الحقيقية للتراث الإسلامي، أو التبصر العلمي في تاريخ وآداب العرب، كل ما يهمهم تطويع هذا التراث ليكون أداة ووسيلة لترويج أفكارهم، فصاغوا قصص التاريخ في قوالب وعظية مرتبطة بالحلال والحرام، والعقاب والثواب، وصبغوا أحداث التاريخ بصبغة دينية متكلفة، فحاولوا حجب مظاهر التسامح والانفتاح، وسعوا جاهدين إلى إخفاء مساحة التنوع، فأسقطوا نظرتهم الفقهية السياسية على حركة التاريخ، وقالوا هكذا كان مجتمع الأسلاف، فظن البعض عن جهل أو كسل أن الحركات الأصولية المتشددة تمثل التراث الإسلامي، لكن أقرب قراءة بسيطة للتاريخ تكشف أن هذه الفئة أبعد ما تكون عن روح الحضارة الإسلامية، بل لو عاشوا في زمانها لقضى عليهم السلطان وشردهم وفرق جمعهم.
• كيف يمكن إعادة فهم هذا التراث وتقديمه من جديد؟
•• بقي التراث العربي الإسلامي في العقود الأخيرة رهين حالة من الشد والجذب بين طرفين، طرف يقدسه ويقرأه بطريقة دينية، وطرف يهاجمه وينتقده ويحمله المسؤولية عن التخلف والتشدد والتنطع، وبين هذين الطرفين المتصارعين ضاعت الحقيقة.
أولاً يجب أن نحرر المصطلحات بشكل دقيق، فكلمة التراث العربي الإسلامي لا تعني فقط التراث الديني، أو مؤلفات الفقه وعلوم الشريعة، هذه النظرة القاصرة للتراث التي تحصره في هذا المجال تسببت في قلة الوعي بتنوع التراث الإسلامي وتعدده واختلاف ألوانه ومشاربه، فهو فضاء واسع كبير يشمل كل ما قدمته الحضارة الإسلامية في كافة العلوم والفنون والمعارف.
المؤلفات الدينية في التراث الإسلامي هي أحد تجليات هذا التراث، وهي تشكل ثورة علمية مثيرة للإعجاب في تاريخ الفكر الديني على مستوى العالم، استطاع الفقهاء والعلماء المسلمون تأصيل وتأسيس علوم دينية مذهلة في عمقها وثرائها، سواء على مستوى علوم الفقه والأصول، والمصطلح والحديث، أو التفسير، كما صاغوا لغة شرعية محكمة أصبحت أحد أهم الأدوات المفيدة لدارس القانون والباحث في علوم اللغة واللسانيات.
إذا أردنا أن نستوعب عظمة هذا التراث وتنوعه علينا أن نقرأه في سياق التطور الحضاري الثقافي، ونبتعد عن «منطق الحلال والحرام»، فهذا مكانه الإفتاء ودراسة الأحكام، لكن حين ندرس تشكل المذاهب والاتجاهات الفقهية، ونشأة علوم الأصول، والمصطلح، واللغة والبلاغة والبيان، وعلوم الآلة تتبين لنا ملامح ثورة ثقافية مذهلة متصلة بجميع الحقول المعرفية.
هذا في سياق التراث الديني، أما لو انتقلنا لعطاء التراث العربي في المجال الأدبي والفني والعلوم الطبيعية، والفلك والفيزياء، والفلسفة، والرياضيات والتاريخ، والرحلات.. فإن الحضارة الإسلامية قد انفتحت بشكل متعطش على ثقافات الأمم الأخرى وفنونها وآدابها، استوعب العرب والمسلمون فنون الفرس وعلوم اليونان، واستقبلوا تجارب الحضارات وعصارة أفكارهم، صهروا كل هذا في قالب واحد جديد، ثم ضخوا فيه الروح العربية بكل عنفوانها وفتوتها المتقدة.
قدم بيت الحكمة في بغداد حركة ترجمة كبرى للمعارف، وأعلن يعقوب بن إسحاق الكندي بدء الفلسفة العربية، ووضع جابر بن حيان أسس الكيمياء، وقدم ابن سينا القانون في الطب، كتاب ألهم العالم، ووضع الخوارزمي علم الجبر والخوارزميات، وقام ابن الهيثم بثورة في حركة العلوم التجريبية وأبحاث الضوء، وعلم المناظر، وفي خضم ذلك كان أبو الفرج الأصفهاني يكتب ويدون في مجلدات ضخمة الحياة الاجتماعية والأدبية في كتابه «الأغاني»، وقدم الطبري أعظم المؤلفات في «تاريخ الأمم والملوك»، وغيرهم الكثير من الأمثلة والنماذج في كافة الحقول والعلوم.
إن التراث العربي الإسلامي هو من التنوع والثراء العلمي المعرفي ما لا يمكن لأحد أن يحصره، أو يحتكره، أو أن يلونه بلون واحد.. هكذا يجب أن ننظر إليه، وهكذا نقدمه.. إنه مظلة تجمعنا وتوحدنا.
• تقديمك لابن تيمية وأحمد بن حنبل في كتابك: «حنابلة وعلمانيون» على أنهما كانا منفتحين على الحياة، وأنّ ما ينسب إليهما اليوم من التشدد الفكري والمذهبي ليس صحيحاً، هل كنت تريد تحسين صورة هذين العلمين في أذهان الناس من خلال تمجيد أفكارهما أم أننا أمام واقع فعلي لم يُقرأ في سياقه العام؟
•• ليست المسألة تمجيداً ولا تحسين صورة، القضية تتعلق في الأساس بمحاولة الفهم والاستيعاب لشخصيات تراثية هي من أهم وأكبر الشخصيات الكبرى والمؤثرة في تاريخ الإسلام.
الصراع المذهبي والعقائدي، يسبب على مدى الزمن تشوشاً في الصورة، فتصبح الأفكار والشخصيات المتنازع حولها ملبدة بكثير من الغيوم التي تحجب عنا رؤية الصورة كما هي، بغض النظر عن موقفنا النهائي أو حكمنا عليها.
ما يجري مؤخراً في السجال الثقافي هو انشغال محموم بإصدار الأحكام، وإطلاق النتائج، في مقابل غياب كبير للدراسة الموضوعية المحايدة التي تريد أن تستكشف الحقيقة وتفهم سياقاتها التاريخية، وتعيد تركيب جزيئات المشهد بعيداً عن حلبة الصراع والشد والجذب.
الإمام أحمد بن حنبل واحد من أكبر الشخصيات المؤثرة في التاريخ الإسلامي خاصة على مستوى الفقه والحديث، كما أن له رمزية كبرى في الوجدان المسلم تتعلق بموقفه وصبره أيام محنة خلق القرآن.. جاء الإمام أحمد في عصر تموج فيه الخلافات الكلامية، وأصبح الطريق نحو نصوص القرآن والسنة مليئاً بالعراقيل والعقبات والحواجز، تلك الجدالات التي بدأت تتضخم شيئاً فشيئاً، فابتعدت عن روح النص العربي، وانغمست في سجالاتها المتشعبة التي امتلأت بعناصر أجنبية فارسية، ويونانية وغيرها، جاء الإمام أحمد وثار على الوضع القائم وطالب بعودة مباشرة نقية للنص بعيداً عن كل هذه العناصر الدخيلة.. ألا يعد هذا مشروعاً حقيقياً للإصلاح الديني؟!
كان مذهب أحمد آخر المذاهب الفقهية نشأة، وكان أتباعه منفتحين على المذاهب الفقهية بشكل مثير للانتباه، لأن الإمام المؤسس قد أصل لفكرة تحاول أن تتجاوز ضيق المذهبية وتتجه نحو سعة النص، ولذلك سموا بأهل الحديث والأثر.. كان أتباع أحمد على اتجاهات متعددة ومختلفة، بل إن داخل المذهب يمكن أن نقول إنّ هناك حنبليات متعددة وليست واحدة، قدم رموز المذهب الحنبلي مصنفات جليلة في شتى العلوم، وحققوا انتشاراً ووجوداً تاريخياً في عدد من البلدان العربية، ومن بينهم علماء كبار أجلاء، في الفقه والحديث، والتفسير، والتصوف، والتاريخ والأدب، أمثال عبدالقادر الجيلاني، وأبو إسماعيل الهروي، وابن رجب، وابن الجوزي، وأبو الوفاء بن عقيل، وابن قدامة، وابن مفلح، ونجم الدين الطوفي، وابن تيمية، وغيرهم.. هل بعد هذا يمكن أن نختزل هذه الحالة الثقافية الكبرى بأحكام مطلقة، وتعميمات جائرة؟!
• كنا نظن أنّ العامة أكثر انسياقاً وراء ما يثار من قصص وحكايات لا تثبت، لكننا اكتشفنا في كتابات المثقفين والكتّاب انسياقاً وراء مقولات العامة دون تحقّق، ولعلّك أشرت في كتابك «حنابلة وعلمانيون» إلى مقولة «علماء الحيض والنفاس»، التي انساق وراءها كتاب ومثقفون دون تحقّق من أصل هذه المقولة.. إلى ماذا تعزو هذا الأمر؟
•• كما قلت لك، حين تكون الحالة الثقافية منشغلة بإطلاق الأحكام، فإن المقولات الخاطئة، والإطلاقات المشوهة تجد رواجاً، لأن الرغبة في الهدوء، والبحث والتحقق لم يعد لها متسع من المجال في ظل هذا الجو المشحون، أكثر ما يساهم في التضليل هو الصورة النمطية التي تتغذى في ظل السجالات وصراع التيارات.. كسر الصورة النمطية مهم، وعدم الاستسلام لها يحتاج إلى شجاعة وصدق وموضوعية.
من الخطأ المنهجي والفكري أن تبني رأيك وموقفك على معلومات خاطئة أو ظنون شائعة لا أصل لها، لأن هذا يعني بالضرورة أن رأيك النقدي قد بُني على أساس ليس له أصل ولا صحة، مما يؤدي في الأخير إلى سقوطه وبطلانه.
من أكبر المشكلات التي تشوش على العقل، وتشوه المنطق، الاعتماد في تكوين التصورات تجاه النظريات والأفكار الحديثة، على رأي «الوسطاء» الذين نقلوا أيضاً عن وسطاء، بدورهم نقلوا عن وسطاء، ثم نكتشف أن هناك كماً هائلاً من المعلومات المغلوطة والمفاهيم المشوهة قد شاعت وانتشرت في الفضاء دون أن يكون لها أصل أو سند، ودون أن يكلف أحدهم عناء البحث والرجوع إلى قول صاحب الشأن، إلى المصدر الأصلي المعتبر.
• جمعت بين الأصوليين المعاصرين والحداثيين في الموقف من الحضارة الإسلامية، وأشرت إلى أنّ موقف الحداثيين من هذه الحضارة كان نتيجة لهذه الدعاية المشوّهة، هل يعني هذا أنّ آراء الحداثيين ومواقفهم كانت مجرّد رد فعل، ولم تبنَ على أفكار ومرتكزات ثابتة؟
•• لقد استسلم بعض الحداثيين أمام الحركات الأصولية المتشددة وسلموا لهم بأنهم «المعبر عن حقيقة الإسلام».. وظنوا أن هذه الحركات هي الأقرب تمثيلاً للتراث الإسلامي، وانجروا بكل طواعية إلى حالة الاختطاف الجائرة التي فرضتها الجماعات الأصولية على التراث والتاريخ الإسلامي. نتيجة لذلك افتعل بعضهم عداوة مع التراث الإسلامي ظناً منهم أن هذا التراث هو المورد والمؤصل لحركات التشدد والتطرف.. بينما في الحقيقة أن مشكلتهم هي مع الحركات المتطرفة، وليست مع التراث الإسلامي.
لك أن تتخيل حضارة على مدى قرون تضرب في عمق التاريخ، امتدت على رقعة كبيرة من العالم، وانضوى تحت لوائها العديد من الأمم والأقليات والقوميات والإثنيات الفاعلة حتى اليوم، اندمجوا بشكل كبير في حياة الحضارة العربية الإسلامية، فاختلطت العلوم والمعارف وتطورت، وتنوعت وتعددت المذاهب والاجتهادات والطوائف إلى أعداد لا حصر لها، تنبع من النص الديني وتسعى إلى فهمه وتمثله، وتحقيقه على أرض الواقع، سواء قاربت الصواب أو ابتعدت. فزخرت المكتبة الإسلامية بآلاف الكتب والمؤلفات التي عجت بالتفسيرات الدينية المختلفة، وصل إلينا منها جزء، وفُقدت أجزاء، في حالة من الحراك والجدال العلمي الذي أثرى الحضارة الإسلامية بشكل كبير، وجسد صورة فريدة عن التنوع المذهل الذي عبر بصدق عن التحضر الإسلامي في عصور مجده ورقيه. بعد هذا كله.. هل يمكن أن يقال بعد مرور أكثر من 1400 سنة إنّ فصيلاً إسلامياً متطرفاً هو المعبر عن روح الإسلام والتراث؟!
• تتحدث كثيراً عن تجليات الفنون والموسيقى في تاريخ الحضارة الإسلامية، برأيك لماذا حاربت الصحوة الموسيقى بشكل شرس؟
•• رغم أن مسألة الغناء والموسيقى والمعازف تعتبر من المسائل الخلافية الاعتيادية، مثلها مثل كثير من المسائل الفقهية التي تُطرح في كتب الفقه، ويتداول الفقهاء فيها الرأي بين محلل ومبيح أو كاره، وكل صاحب رأي يستعرض أدلته، ويرجح قوله، ويرد على آراء مخالفيه دون تشنيع أو استنكار، فالآراء بتعددها في المسألة ذات وجهة سديدة وأدلة قوية؛ إلا أن قضية الموسيقى والمعازف تضخم حجمها من مسألة خلافية فقهية إلى مسألة أصبح يُحكى فيها الإجماع، وكأن الموقف منها بات يقارب مسائل الاعتقاد!
ربما يعود سبب ذلك إلى صورة الشاب المتدين التي دأب الخطاب الصحوي على رسمها منذ وقت مبكر، فأثر ذلك في الحالة الشرعية، ومنه تسلل إلى فقه الأحكام والسلوك. كانت العلامات الفارقة التي تحدد المسلم العاصي -وفق التصور الصحوي- تتمحور حول صفات محددة، من أشهرها (حلق اللحية، شرب الدخان، إسبال الثياب، سماع الأغاني)، ولذلك تكون تذكرة الانضمام الفعلي إلى ركب «التدين» والصحوة بنبذ هذه الصفات والبراءة منها، ومن ثم إعفاء اللحية، والإقلاع عن التدخين، وتقصير الثياب، وترك سماع الغناء. ولك أن تراجع قصص التائبين الكلاسيكية وستجد أن المعاصي المقصودة في مجملها تدور حول هذه الأفعال.
مع مرور الوقت أصبح حكم تحريم هذه الأفعال أشبه بالمقدسات التي لا يمكن الجدال حولها، ولا يتصور اجتماعها أو وجودها في شخص متدين، فكان من الطبيعي أن تضغط السطوة الاجتماعية على الحالة الفقهية فيصبح القول بما يناقضها، أو حتى الإشارة إلى أنها من المسائل الفرعية الجزئية الهامشية أمراً مرفوضاً، ومثاراً لغضب ديني واجتماعي.
مما يشير إلى خروج مسألة حكم الغناء والموسيقى من طبيعتها الفقهية الاعتيادية إلى حالة وسطوة اجتماعية، هو خوف بعض العلماء من التصريح برأيهم، والتهرب من الإجابة، أو تقديم إجابات ملتوية جداً لا يؤخذ منها حق ولا باطل، مع أنهم يقولون رأيهم المخالف في آراء فقهية أخرى أكبر وزناً وأشد أثراً.
• المتابع لما تكتب في «تويتر» أو في مقالاتك يلحظ تقديمك للتاريخ العربي والإسلامي على أنه تاريخ بلا أخطاء، فيما يرى آخرون أنّ ما تعرضه يغيّب الوجه الآخر في هذا التاريخ.. ما رأيك؟
•• لقد عاش العالم العربي والإسلامي دهراً يعاني من أزمات الجهل والفقر والتخلف، واكتوينا بنار التطرف والإرهاب، وعانينا من جماعات الإسلام السياسي والأصولية.. هذه الحالة من الأزمات خلقت نوعاً من الكآبة والنفور من التراث والتاريخ على اعتبار أنه أحد أسباب الأزمة.. وبدأت عوامل الهدم تضرب في هذا التراث من قبل الأصوليين الذين اختطفوه وشوهوه وكرّهوا الناس فيه، ومن قبل بعض الحداثيين الذين أعملوا فيه معاول النقد، والاتهام، والتشريح.
لست ضد المراجعة والنقد والتمحيص، لكن قبل ذلك يجب أن نعي أن هذا تراثنا قبل كل شيء، هذا كنزنا الثقافي، إنه مكون أساسي من هويتنا، جزء من نسيجنا، من روحنا وأفكارنا، جزء أصيل من حكايات أجدادنا، وخيالات أحلامنا. المنجز الثقافي العظيم الذي قدمته الحضارة الإسلامية هو أحد أكبر المحطات الكبرى في تاريخ الفكر الإنساني، وأهم حلقة ربطت علوم الشرق والغرب، والوقود الفكري الذي أمد النهضة الأوروبية بحرارة التحرر والانطلاق. لقد مللنا من جلد الذات، حتى أصبحنا نستنكر أنفسنا، وننظر لتاريخنا بازدراء، وبتنا نعيش في حالة من الاغتراب الثقافي، والانفصال عن الهوية والذات.. في الوقت الذي تتقاتل فيه الأمم على حيازة مآثر وآثار هذه الحضارة العظيمة.
ما أتمناه هو إحياء روح الاعتزاز بهذا التراث المتنوع الخلاق، الإيمان بعظمته، وجماله، وعمقه، وثرائه. إن كنا نعاني اليوم من أزمات فكرية وثقافية، فإن في هذا التراث من نماذج الاستنارة والإبداع والتسامح والتعايش ما يستحق أن يكون نموذجاً ملهماً، ومصدراً للتجدد والعطاء.