-A +A
أسماء الزهراني
رضى الناس غاية لا تدرك، عبارة غلّف بها أحد القراء انتقاده المهذب لمقالي السابق، «كلام كبير جدا». وكنت قد كتبت في المقال السابق عن ظاهرة إعلامية تكررت كثيرا حتى كادت تشكل خطّا إعلاميا موحدا في الفضائيات العربية، أعني البرامج التي تقدمها محجبات، وتتناول موضوعات لا تصلح للمعالجة على الهواء، ويزيد الطين بلة أن يتم فعل تلك الأمور الخارجة عن الذوق قبل الشرع باسم الشرع ذاته، وامتدادا لهذه الموجة جاء الحديث عن الإعلامية التي وضعت كتابا مليئا بالمغالطات عن ما أسمته «الحب والجنس في حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم». وقد تلقيت ردود فعل متنوعة على هذا المقال بشكل استوقفني بشدة، لأنه أثار لدي قضية أخرى على درجة من الأهمية. فبقدر ما امتدح بعض القراء القضية التي أثارها المقال، وقف آخرون موقف استياء بالغ، ومن البريد أنقل لكم مواقف أولئك المستائين، التي دارت حول نقطة واحدة مع اختلاف التناول، وهي ما أسموه: تعمد الجرأة والإثارة في المقال، بقصد جذب اهتمام القراء، وقد حدد أحد المعلقين الجرأة باستخدام ألفاظ بعينها، وقدم لي آخر نصيحة أخوية بالبعد عن منهج الإثارة والاستفزاز. وهناك تعليق جاء على صيغة نصيحة أخرى بعدم الانسياق وراء دعاة تحرير المرأة. وأنا أورد هذه التعليقات ليس على سبيل الانفعال والتأثر، فحرية الرأي مكفولة للجميع، بل بقصد مناقشة قضية تهم أي منشغل بالمجتمع وأزماته، كما أن التعليقات جاءت في شكل اهتمام أخوي ونصح مخلص من قراء متابعين، أقدم لهم كل الشكر والتقدير عبر هذا المنبر.
وتتلخص القضية في فعالية الرأي العام، في صناعة التنمية واختبارها، والتي كنا نأمل أن يؤدي الإعلام المكتوب الدور الأبرز فيها، كونه الوسيلة التي توفر أكبر مساحة من التواصل والحوار بين المجتمع وصناع القرار. ونحن على الدوام نلقي باللائمة على أصحاب القرار وحدهم، في تجاهل شكاوى المواطن وهمومه النازفة على أقلامنا نحن الكتاب، وفي زوايا وأعمدة الصحف. لكن تعليقات القراء نبهتني هذه المرة على الطرف الآخر في صناعة الرأي العام، أعني المجتمع نفسه. إذ وجدت أن هناك كثيراً من الممارسات التي تحكم وعي القراء، وتجعلهم يتخذون موقفا سلبيا مما يطرح، فيسهمون في إجهاض القضية، وإغلاق النوافذ التي تفتح لهم بدلا من إثراء ساحة الحوار، وامتصاص أي نقاط اختلاف هامشية، قد تؤثر في نمو تلك الساحة. ومن تلك الممارسات تحويل الاهتمام من الموضوع إلى الكاتب نفسه، وفق نظرية المؤامرة. وهي نظرية تقودنا لتصنيف الآخر وإقصائه، ومن ثم خسارة الكثير من الحوارات المنتجة، مع أن تراثنا الديني وحضارتنا بأكملها قامت على عكس ذلك، فبالحق يعرف الرجال ولا يعرف الحق بالرجال. وقد يأخذ هذا الإقصاء أشكالاً متعددة، ليس بالضرورة أن يكون هجوما على صاحب الرأي، ففي تجربتي -مثلا- كان الإقصاء في شكل تعاطف، جعل القراء ينصرفون عن القضية التي أثرتها، إلى شخصي المتواضع، الذي يخشون أن يسقط في يد الأعداء المتربصين، دعاة تحرير المرأة مثلا، أو زمرة العلمانيين وأحزابهم. وهذا الإقصاء يجيء أيضا في شكل تصنيف المقال وبالتالي تصنيف القلم الكاتب، بأنه استفزاز رخيص لجذب الجمهور، وهو تصنيف غريب في ظل علمنا جميعا بأن النشاط الإعلامي لدينا لا يحقق أي مكسب مادي يشار إليه، وما يحققه من تقدير رمزي تقدمه الصحيفة للكاتب لا يتأثر بالمبيعات ولا بالجمهور الذي بدوره لا يقدم الكثير لميزانية الصحف المدعومة من الدولة بشكل أساس. وأيا كان شكل انصراف القارئ من الرأي إلى قائله فهو انصراف يأتي على كل أحلامنا بتغذية بذرة رأي عام يؤثر في القرار لصالح الوطن والمواطن.

يفترض التواصل عبر الصحف فلكل أنواع التواصل ردود فعل متنوعة، غير أن التقنية أضافت بعدا مثريا لهذه الاستجابات، حين تجدها مسجلة على المواقع الالكترونية للصحف، فتمنح مساحة للتفاعل المتسلسل، الذي يختلف طول تسلسله بين موضوع وآخر. ومن يحلل أثر هذا التفاعل بين الكاتب والقارئ ويلقي عليه نظرة من الأعلى سيجده يشكل ما يشبه حلقات حوار نشطة، فالصحف تفتح كل يوم حلقات حوار بعدد المواضيع التي تشرعها أمام عقول القراء، وعلى مدار النهار يتنقل القراء بحسب اهتماماتهم وخبراتهم بين تلك الحلقات فيثرونها بالتعليقات والمداخلات، وبقدر ثقل الموضوع وعمق تغلغله في الهم المجتمعي سيضطر الكاتب وقد يشارك كتاب آخرون في إثارة القضية من جديد، وفي النهاية تتحدد خطوط عامة تشكل خارطة لاهتمامات الناس ومشاكلهم، من المفترض أن تؤثر في صناعة القرار وفي التخطيط التنموي على أقل تقدير. ما أردت قوله: إن المجتمع هو البيئة التي تستطيع أن تحتضن أي فعل حضاري ناجح، فدعونا لا ننشغل عن قضايانا بأي شيء، ولنجتهد قليلا في تنشيط حلقات حوار أكثر ثقلا وفاعلية.
asma@alzahrani.com
للتواصل ارسل رسالة نصية sms إلى الرقم 88548 تبدأ بالرمز 103 مسافة ثم الرسالة