كانت البحرين منذ القرن التاسع عشر موطناً للعديد من الشخصيات والأسر النجدية التي انتقلت إلى المنامة، ولاسيما من مدينة عنيزة بالقصيم؛ بهدف العمل في التجارة أو الالتحاق بالتعليم النظامي الحديث. هؤلاء، ومنهم القصيبي والبسام والزامل والذكير والشبل والعجاجي والعليان والتميمي والروق والخنيني، اتخذوا من فريج الفاضل بالمنامة بالقرب من السوق التجاري القديم مكانا للإقامة، وعـُرفوا عند العامة باسم «النيادة» (النجادة)، وكانت لهم إسهاماتهم المشهودة في تاريخ البحرين التجاري والأدبي والثقافي والاجتماعي. لكن حديثنا في هذا المبحث سيقتصر على آل الذكير وعميدهم طيب الذكر الشيخ مجبل (مقبل) بن عبدالرحمن الذكير.
وقبل أن نتوسع في سيرة هذه الشخصية، من المهم أن ننبه إلى ضرورة التفريق بينه وبين ابن أخته «مقبل بن عبدالعزيز الذكير» لأن الكثيرين يخلطون بينهما. فالأخير من مواليد المدينة المنورة في عام 1882، وانتقل من عنيزة إلى الكويت عام 1914، حيث درس، قبل أن يأتي إلى البحرين ليعمل فيها بالتجارة ويتنقل بسبب ذلك بينها وبين العراق والهند، لكنه اشتهر في مجالي التأريخ والتأليف أكثر من المجال التجاري (من أشهر مؤلفاته كتاب «مطالع الصعود في تاريخ نجد وآل سعود»، وكتاب «العقود الدرية في تاريخ البلاد النجدية»). وقبل وفاته في عام 1941 عن 63 عاما، كان قد تولى ما بين عامي 1929 و1930 مالية الأحساء بتكليف من الملك عبدالعزيز آل سعود خلفا لمحمد أفندي.
أما الشيخ «مجبل عبدالرحمن الذكير» فقد ولد في عنيزة سنة 1843م، ونشأ وتعلم القرآن ومبادئ القراءة والكتابة فيها، وتوفي ودفن بها عام 1923 عن عمر ناهز الثمانين. حينما شبّ قرر العمل في التجارة فغادر مسقط رأسه إلى جدة التي كانت في تلك الحقبة المبكرة من المراكز التجارية الهامة في الجزيرة العربية. وهناك راح يشتغل في تجارة اللؤلؤ التي كانت رائجة آنذاك، وبسبب ذلك راح يتردد على الهند لبيع محصوله من اللآلئ الطبيعية في سوق «موتي بازار» في بومباي، كما راح يتردد على البصرة لأعمال تجارية أخرى ولزيارة أقاربه من آل الذكير المقيمين هناك. وكان خلال أسفاره إلى البصرة يتوقف في البحرين فأغرم بها وبطبيعة شعبها، وقرر بدءا من عام 1877 أن يستقر بها ويتخذ منها مقرا لتجارته، خصوصا أن البحرين كانت في تلك الأيام من أهم مراكز صيد وبيع وتصنيف اللؤلؤ، فضلا عن موقعها الاستراتيجي وازدهار أسواقها.
فخر التجار
وهكذا قدر للرجل أن يقيم في المنامة، ويتعرف على تجارها وأعيانها، ويعمل في تجارة اللؤلؤ، بل ويتصل بالشركات التجارية الأوروبية المرموقة في مجال صناعة المجوهرات والنفائس، مثل شركة كارتييه الفرنسية التي استضاف الذكير صاحبها «مسيو جاك كارتييه» بمنزله في المنامة سنة 1911 أو 1912. وقد وفقه الله وأفاء عليه بخير وفير، ما جعله من الأعيان وأصحاب العلاقات الوثيقة بعلية القوم، حتى أنه لقب بـ«فخر التجار» بسبب ثرائه وسعة اطلاعه وعلاقاته الطيبة مع كل أطياف المجتمع، فضلا عن أعماله الكثيرة في مجال البر والإحسان والتثقيف وحماية هوية البحرين العربية الإسلامية. فمن أعماله الخيرية قيامه بتجديد مسجد بالمنامة وحفر بئر للماء. أما المسجد الذي عرف باسمه، والواقع في جنوب فريج الفاضل بشارع الحضرمي، فيقال إن من بناه هو شخص من الجناعات (القناعات) الكويتيين الذين سكنوا البحرين قبل عودتهم إلى الكويت، غير أن المؤكد هو أن من بنى منارته هو «يوسف بن أحمد الخاجة» يوم أن وصل البحرين من بلاد فارس وامتهن البناء أي قبل أن يصبح تاجر أقمشة معروفا في سوق البز بالمنامة ويجعل من أحد دكاكين السوق وقفا على مؤذني المسجد. ومن الذين خصصوا عدة دكاكين في عام 1935 كوقف على هذا المسجد الأثري الوجيه عبدالعزيز العلي البسام. أما الشيخ خليفة بن محمد بن خليفة بن سلمان بن أحمد (الفاتح) فكان وقفه على المسجد المذكور عبارة عن نخل مشاع بقرية عالي.
لقب الذكير
ينتسب الشيخ مجبل إلى الفراهيد من الأساعدة من عتيبة، علما بأن الأساعدة من القبائل غير الوثنية قبل الإسلام ومنهم الصحابة: سهل بن سعد الساعدي، وأبو أسيد الساعدي، وأبو حميد الساعدي. أما الذكير فمعناه الذكي الفطن وهو لقب جدهم مقبل بن ماجد بن محمد بن صالح بن راشد بن محمد الأسعدي العتيبي. وفي هذا السياق يخبرنا المؤرخ العراقي «كاظم فنجان الحمامي» في مقال له منشور في أحد المواقع الإلكترونية بتاريخ 12 يناير 2014 أن سبب هذا اللقب هو أنه في إحدى رحلات القوافل التجارية في عام 1747 كان الجد مقبل بن ماجد صبيا موهوبا ومفعما بالحركة والحيوية والنشاط، وتصادف وجود صبي آخر في القافلة نفسها يحمل اسم مقبل ويعمل كخادم، لكنه كان كسولا متقاعسا، فإذا ما نادوا عليه جاءهم مقبل الآخر ليلبي الطلب دون تأخير، ومنعا للالتباس أطلقوا على الأخير لقب الذكير كناية عن ذكائه ونباهته ووعيه، فكان اللقب في مكانه لأنه سرعان ما تألق بفطنته وذكائه في عالم التجارة وأورث تلك الخصال لأبنائه وأحفاده.
جذور أسرة الذكير
وأسرة الذكير متوسطة العدد انتقل جدهم في أواخر القرن الثاني عشر الهجري من الزلفي إلى عنيزة حيث أقاموا وعملوا بالتجارة، قبل أن تهاجر فروع من الأسرة من القصيم نحو مناطق أخرى مجاورة للاستقرار والعمل. فبالإضافة إلى فرع الشيخ مجبل الذي حل بالبحرين في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، هناك فرع آخر للعائلة استقر أفراده في الزبير والبصرة وبغداد، ومنهم الإخوان محمد وعبدالرحمن وأحمد الصالح الذكير، وكذلك الأخوان سليمان وحمد المحمد الذكير وذلك طبقا لما كتبه المؤرخ والإعلامي السعودي المرحوم عبدالرحمن بن صالح الشبيلي في صحيفة الشرق الأوسط اللندنية (20/11/2011) الذي أكد أن فروع العائلة، رغم توزعها، كانت على تواصل دائم قبل أن تعود إلى موطنها الأصلي وتسكن عنيزة أو تنتشر في كل من الرياض وجدة والهفوف والخبر. وهناك من آل الذكير من نزح من البصرة إلى الكويت وتصاهر مع عائلات كويتية معروفة مثل: السهلي والغانم والعجيل والشملان الرومي والناجم والنامي والشويع والسرحان والعلي وغيرها. واستطراداً لما ذكره الشبيلي عن الأخوين سليمان وحمد المحمد الذكير اطلعتُ على ما كتبه عن الرجلين المؤرخ العراقي الحمامي في المقال المشار إليه آنفا، حيث قال عنهما إنهما عُرفا عند الناس بالصدق في الوعود والعفة والنزاهة والكرم، وعدم التعالي على الناس قبل أن يصف سليمان بالوداعة وسعة البال والبشاشة ويصف شقيقه حمد بالصرامة والانضباط والإنصاف والعدالة. وطبقا للحمامي فإن سليمان ولد في نجد في عام 1875 واشتغل بالتجارة البرية في مدينة الكوت في عام 1886 ثم انتقل إلى البصرة في عام 1892 حيث اشتغل بخطوط السفن البحرية المترددة ما بين البصرة والموانئ الهندية بدلا من العمل في تجارة القوافل البرية. أما حمد فجاء العراق من نجد في عام 1893 وعمل في التجارة مع أشقائه متنقلا بين ضاحية الحي في الكوت، وسوق الشيوخ في ذي قار، وقلعة صالح في العمارة، والزبير، والبصرة. ومما ذكره الحمامي أيضا أن آل الذكير في البصرة توسعت أعمالهم وأحرزوا سلسلة من النجاحات المتواصلة في المجالات التجارية والملاحية والزراعية والثقافية والاجتماعية خصوصا حينما صار النجل الأكبر لسليمان واسمه عبدالله عميدا للعائلة. إذ «كان هذا الرجل من النخبة المنتخبة في البصرة، وكان ديوانه عامراً بالقضاة والأدباء والسياسيين وكبار التجار وأصحاب الوكالات البحرية العالمية، وكان مركزه التجاري مصمماً على الطريقة الأوربية المعاصرة، حيث تلمس ملامح التخطيط الإداري المتحضر، وتجد السجلات المنظمة، والحسابات المبوبة، ووصولات التسليم والاستلام، والملفات الموحدة، والطابعات والمكاتب والدواليب والخزانات الحديثة، والموظفين الأكفاء من حملة الشهادات العليا».
نشاط علمي ومعرفي
لم يقتصر نشاط الشيخ مجبل في البحرين على الجانب التجاري فقط، إذ إنه اهتم أيضا بطباعة العديد من كتب الفقه والتفسير واللغة والعقائد على نفقته الخاصة في مصر والهند ووزعها في عموم بلدان الخليج، وبادر في ثلاثينيات القرن الماضي إلى تأسيس أول مكتبة عامة في مسقط رأسه في عنيزة وهي المكتبة التي اضطر إلى نقلها إلى الرياض بسبب اعتراضات بعض المتشددين، وساهم مساهمة جمة مع صديقه رجل الأعمال البحريني يوسف بن أحمد كانو في التصدي لمحاولات التنصير التي كانت تقودها الإرساليات التبشيرية الإنجليزية والأمريكية في البحرين في مطلع القرن العشرين من خلال مكتبة ومدرسة ومستشفى، وذلك عبر تأسيس «النادي الأدبي الإسلامي» في عام 1913 في سوق المنامة في مواجهة مكتبة الإرسالية الأمريكية. وقد تفرع عن هذا النادي مدرسة إسلامية حرص الذكير وصديقه كانو على توطيد أركانها وترغيب جمهور المثقفين في دروسها وفعالياتها بتولية إدارتها إلى شخصية معروفة ذات علم وبصيرة وكفاءة إدارية، فجلبوا لها من البصرة كمدير العلامة محمد بن عبدالعزيز المانع (تولى لاحقا رئاسة المديرية العامة للمعارف في السعودية ورئاسة القضاء في قطر)، علما بأن العلامة المانع كان أحد تلامذة المصلح المصري المعروف الإمام محمد عبده، وهو ما أدى إلى استقطاب المدرسة والنادي المذكورين للمزيد من طلبة العلم والمعرفة على حساب مكتبة ومدرسة الإرساليات الأجنبية. ومما يذكر عن هذه المدرسة أنها كانت تدرّس العلوم الرياضية والفلكية إلى جانب العلوم الفقهية واللغوية والقرآنية، وكان من ضمن طلابها أحمد حسن إبراهيم وعبدالرحمن مقبل الذكير وأحمد بن قاسم المهزع وغيرهم.
الدور الثقافي والاجتماعي
إلى ما سبق، كانت للذكير مواقف وطنية تجسدت في دعمه للمجاهدين الليبيين ضد الطليان بقيادة الشريف أحمد السنوسي بالمال والسلاح، كما كانت له أياد بيضاء كثيرة على الفقراء والمحتاجين في البحرين؛ تمثلت في الصدقات الجارية وإغاثة المعسرين وعمارة بيوت الله وحفر الآبار. فلا غرابة بعد ذلك أن يصفه العلامة المانع بـ«الطاهر النقي، والعابد التقي، الناسك البر الأواه، الباذل في سبيل الله طلبا لرضاه» ويقول عنه إن له من أعمال الخير والبر والإحسان ما يعجز عن القيام به غالب الناس.
إن هذا الدور الثقافي والاجتماعي الناصع للشيخ مجبل، إضافة إلى علاقاته الوثيقة مع ثلة من الشخصيات المعروفة في الدول العربية، هو الذي دفع الشيخ الأديب إبراهيم بن محمد آل خليفة في عام 1890 إلى تكليفه بجلب المجلات المصرية إلى البحرين وتوفيرها للمتعطشين للعلم ومعرفة ما يدور في العالم من تطورات وحراك، وذلك نزولا عند رغبة رواد مجلس الشيخ إبراهيم بالمحرق. وهكذا صار منزل الذكير في شرق المنامة وناديه الإسلامي ومجلس الشيخ إبراهيم في المحرق مقصداً لمن يريد قراءة مجلات المقتطف والمنار والمقطم والهلال والعروة الوثقى وغيرها من المجلات المصرية التي لعبت دوراً في تشكيل وعي رجالات البحرين من الرعيل الأول. وفي هذا السياق، يورد الباحث المهتم بأعلام البحرين «بشار يوسف الحادي» في مدونته نقلا عن الشيخ الأديب المتنور محمد صالح بن يوسف خنجي أن الذكير قام بما كُلف به خير قيام بفضل علمه أولا ثم بسبب وجود وكلاء له في الهند وشرق أفريقيا والبلاد العربية وأوروبا.
العودة إلى مسقط رأسه
بقي أنْ نتطرق إلى الأسباب التي دفعت الشيخ مجبل، وهو في سن الشيخوخة، إلى ترك البحرين، التي أقام فيها قرابة 40 عاما وعشقها وبادله أهلها الود بالود، للعودة إلى مسقط رأسه في عنيزة؛ حيث لقي وجه ربه في ليلة القدر المباركة بعد أن بنى فيها مدرسة وسكناً لمدرسيها. هنا تتضارب الأقوال! فالبعض يقول إن السبب عائد إلى خسائره التجارية الكبيرة بسبب ظروف الحرب العالمية الأولى وكساد أسواق اللؤلؤ، الأمر الذي جعله يؤثر العودة إلى أهله وعشيرته قبل أن يفقد كل شيء، بينما البعض الآخر يحمل المسؤولية إلى السلطات البريطانية التي ربما كانت تضايقه بسبب نشاطه المعادي لمحاولات التنصير، خصوصا أن الإنجليز أغلقوا ناديه الأدبي عام 1917.
اعتماد الملك المؤسس على مجبل
وكجزء من دوره الثقافي والتنويري، عُرف عن الشيخ مجبل تواصله مع أقرانه من تجار وأعيان ومثقفين في الخليج والدول العربية عبر المراسلات. وقد نشر بشار الحادي في مدونته بعضاً من هذه المراسلات؛ التي شملت رسائل إلى الشيخ محمود شكري الألوسي في العراق في عامي 1893 و1909، وإلى الشيخ محمد بن عبدالرزاق آل محمود في قطر في عام 1903، وإلى الشيخ أبوبكر بن عبدالله الملا في الأحساء في الأعوام 1912 و1913 و1919، وإلى صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا في مصر في عام 1903.
وكان للرجل دور سياسي أيضا أثناء إقامته في البحرين في سنوات شهدت الكثير من التحولات السياسية في الجزيرة العربية. وفي هذا السياق أخبرنا الأستاذ عبدالرحمن الشبيلي (مصدر سابق) نقلاً عما ورد في وثائق محفوظة في خزانة الوثائق الوطنية بدارة الملك عبدالعزيز آل سعود أن الملك المؤسس اعتمد على الشيخ مجبل في حدود عام 1914 وكان يستخدمه كهمزة وصل مع الأتراك العثمانيين في الأحساء خصوصا أن الذكير كان من رعايا الدولة العثمانية حتى تاريخه؛ طبقا لأرشيف حكومة الهند البريطانية الخاص بأعلام الخليج في تلك الحقبة، والذي ورد فيه أيضا أن الذكير كان يحظى باحترام حكام البحرين من آل خليفة الكرام، ويجيد الهندية، ويملك مساكن في البحرين ونجد، وكان ضمن من اقترحوا إنشاء أول بنك تجاري في البحرين، ناهيك عن الإشارة إلى ثرائه وامتلاكه إحدى أوائل السيارات التي جُلبت إلى البحرين من أوروبا. ويُعتقد أن دور الذكير السياسي المشار إليه توطد بعد زواج الملك عبدالعزيز في عنيزة من ابنة أخيه «لولوة اليحيى بن عبدالرحمن الذكير»، بدليل أن الملك المؤسس اعتمد على الشيخ مجبل في مسائل تصدير المواد التموينية إلى نجد. ويضيف الشبيلي: «تشير المعلومات التاريخية إلى أن سليمان وحمد الذكير في البصرة، السابق ذكرهما، كانا أيضا على صلة بالملك عبدالعزيز من خلال تلبية أوامره بتزويد البلاد باحتياجاتها التموينية في مرحلة تأسيس المملكة العربية السعودية».
وقبل أن نتوسع في سيرة هذه الشخصية، من المهم أن ننبه إلى ضرورة التفريق بينه وبين ابن أخته «مقبل بن عبدالعزيز الذكير» لأن الكثيرين يخلطون بينهما. فالأخير من مواليد المدينة المنورة في عام 1882، وانتقل من عنيزة إلى الكويت عام 1914، حيث درس، قبل أن يأتي إلى البحرين ليعمل فيها بالتجارة ويتنقل بسبب ذلك بينها وبين العراق والهند، لكنه اشتهر في مجالي التأريخ والتأليف أكثر من المجال التجاري (من أشهر مؤلفاته كتاب «مطالع الصعود في تاريخ نجد وآل سعود»، وكتاب «العقود الدرية في تاريخ البلاد النجدية»). وقبل وفاته في عام 1941 عن 63 عاما، كان قد تولى ما بين عامي 1929 و1930 مالية الأحساء بتكليف من الملك عبدالعزيز آل سعود خلفا لمحمد أفندي.
أما الشيخ «مجبل عبدالرحمن الذكير» فقد ولد في عنيزة سنة 1843م، ونشأ وتعلم القرآن ومبادئ القراءة والكتابة فيها، وتوفي ودفن بها عام 1923 عن عمر ناهز الثمانين. حينما شبّ قرر العمل في التجارة فغادر مسقط رأسه إلى جدة التي كانت في تلك الحقبة المبكرة من المراكز التجارية الهامة في الجزيرة العربية. وهناك راح يشتغل في تجارة اللؤلؤ التي كانت رائجة آنذاك، وبسبب ذلك راح يتردد على الهند لبيع محصوله من اللآلئ الطبيعية في سوق «موتي بازار» في بومباي، كما راح يتردد على البصرة لأعمال تجارية أخرى ولزيارة أقاربه من آل الذكير المقيمين هناك. وكان خلال أسفاره إلى البصرة يتوقف في البحرين فأغرم بها وبطبيعة شعبها، وقرر بدءا من عام 1877 أن يستقر بها ويتخذ منها مقرا لتجارته، خصوصا أن البحرين كانت في تلك الأيام من أهم مراكز صيد وبيع وتصنيف اللؤلؤ، فضلا عن موقعها الاستراتيجي وازدهار أسواقها.
فخر التجار
وهكذا قدر للرجل أن يقيم في المنامة، ويتعرف على تجارها وأعيانها، ويعمل في تجارة اللؤلؤ، بل ويتصل بالشركات التجارية الأوروبية المرموقة في مجال صناعة المجوهرات والنفائس، مثل شركة كارتييه الفرنسية التي استضاف الذكير صاحبها «مسيو جاك كارتييه» بمنزله في المنامة سنة 1911 أو 1912. وقد وفقه الله وأفاء عليه بخير وفير، ما جعله من الأعيان وأصحاب العلاقات الوثيقة بعلية القوم، حتى أنه لقب بـ«فخر التجار» بسبب ثرائه وسعة اطلاعه وعلاقاته الطيبة مع كل أطياف المجتمع، فضلا عن أعماله الكثيرة في مجال البر والإحسان والتثقيف وحماية هوية البحرين العربية الإسلامية. فمن أعماله الخيرية قيامه بتجديد مسجد بالمنامة وحفر بئر للماء. أما المسجد الذي عرف باسمه، والواقع في جنوب فريج الفاضل بشارع الحضرمي، فيقال إن من بناه هو شخص من الجناعات (القناعات) الكويتيين الذين سكنوا البحرين قبل عودتهم إلى الكويت، غير أن المؤكد هو أن من بنى منارته هو «يوسف بن أحمد الخاجة» يوم أن وصل البحرين من بلاد فارس وامتهن البناء أي قبل أن يصبح تاجر أقمشة معروفا في سوق البز بالمنامة ويجعل من أحد دكاكين السوق وقفا على مؤذني المسجد. ومن الذين خصصوا عدة دكاكين في عام 1935 كوقف على هذا المسجد الأثري الوجيه عبدالعزيز العلي البسام. أما الشيخ خليفة بن محمد بن خليفة بن سلمان بن أحمد (الفاتح) فكان وقفه على المسجد المذكور عبارة عن نخل مشاع بقرية عالي.
لقب الذكير
ينتسب الشيخ مجبل إلى الفراهيد من الأساعدة من عتيبة، علما بأن الأساعدة من القبائل غير الوثنية قبل الإسلام ومنهم الصحابة: سهل بن سعد الساعدي، وأبو أسيد الساعدي، وأبو حميد الساعدي. أما الذكير فمعناه الذكي الفطن وهو لقب جدهم مقبل بن ماجد بن محمد بن صالح بن راشد بن محمد الأسعدي العتيبي. وفي هذا السياق يخبرنا المؤرخ العراقي «كاظم فنجان الحمامي» في مقال له منشور في أحد المواقع الإلكترونية بتاريخ 12 يناير 2014 أن سبب هذا اللقب هو أنه في إحدى رحلات القوافل التجارية في عام 1747 كان الجد مقبل بن ماجد صبيا موهوبا ومفعما بالحركة والحيوية والنشاط، وتصادف وجود صبي آخر في القافلة نفسها يحمل اسم مقبل ويعمل كخادم، لكنه كان كسولا متقاعسا، فإذا ما نادوا عليه جاءهم مقبل الآخر ليلبي الطلب دون تأخير، ومنعا للالتباس أطلقوا على الأخير لقب الذكير كناية عن ذكائه ونباهته ووعيه، فكان اللقب في مكانه لأنه سرعان ما تألق بفطنته وذكائه في عالم التجارة وأورث تلك الخصال لأبنائه وأحفاده.
جذور أسرة الذكير
وأسرة الذكير متوسطة العدد انتقل جدهم في أواخر القرن الثاني عشر الهجري من الزلفي إلى عنيزة حيث أقاموا وعملوا بالتجارة، قبل أن تهاجر فروع من الأسرة من القصيم نحو مناطق أخرى مجاورة للاستقرار والعمل. فبالإضافة إلى فرع الشيخ مجبل الذي حل بالبحرين في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، هناك فرع آخر للعائلة استقر أفراده في الزبير والبصرة وبغداد، ومنهم الإخوان محمد وعبدالرحمن وأحمد الصالح الذكير، وكذلك الأخوان سليمان وحمد المحمد الذكير وذلك طبقا لما كتبه المؤرخ والإعلامي السعودي المرحوم عبدالرحمن بن صالح الشبيلي في صحيفة الشرق الأوسط اللندنية (20/11/2011) الذي أكد أن فروع العائلة، رغم توزعها، كانت على تواصل دائم قبل أن تعود إلى موطنها الأصلي وتسكن عنيزة أو تنتشر في كل من الرياض وجدة والهفوف والخبر. وهناك من آل الذكير من نزح من البصرة إلى الكويت وتصاهر مع عائلات كويتية معروفة مثل: السهلي والغانم والعجيل والشملان الرومي والناجم والنامي والشويع والسرحان والعلي وغيرها. واستطراداً لما ذكره الشبيلي عن الأخوين سليمان وحمد المحمد الذكير اطلعتُ على ما كتبه عن الرجلين المؤرخ العراقي الحمامي في المقال المشار إليه آنفا، حيث قال عنهما إنهما عُرفا عند الناس بالصدق في الوعود والعفة والنزاهة والكرم، وعدم التعالي على الناس قبل أن يصف سليمان بالوداعة وسعة البال والبشاشة ويصف شقيقه حمد بالصرامة والانضباط والإنصاف والعدالة. وطبقا للحمامي فإن سليمان ولد في نجد في عام 1875 واشتغل بالتجارة البرية في مدينة الكوت في عام 1886 ثم انتقل إلى البصرة في عام 1892 حيث اشتغل بخطوط السفن البحرية المترددة ما بين البصرة والموانئ الهندية بدلا من العمل في تجارة القوافل البرية. أما حمد فجاء العراق من نجد في عام 1893 وعمل في التجارة مع أشقائه متنقلا بين ضاحية الحي في الكوت، وسوق الشيوخ في ذي قار، وقلعة صالح في العمارة، والزبير، والبصرة. ومما ذكره الحمامي أيضا أن آل الذكير في البصرة توسعت أعمالهم وأحرزوا سلسلة من النجاحات المتواصلة في المجالات التجارية والملاحية والزراعية والثقافية والاجتماعية خصوصا حينما صار النجل الأكبر لسليمان واسمه عبدالله عميدا للعائلة. إذ «كان هذا الرجل من النخبة المنتخبة في البصرة، وكان ديوانه عامراً بالقضاة والأدباء والسياسيين وكبار التجار وأصحاب الوكالات البحرية العالمية، وكان مركزه التجاري مصمماً على الطريقة الأوربية المعاصرة، حيث تلمس ملامح التخطيط الإداري المتحضر، وتجد السجلات المنظمة، والحسابات المبوبة، ووصولات التسليم والاستلام، والملفات الموحدة، والطابعات والمكاتب والدواليب والخزانات الحديثة، والموظفين الأكفاء من حملة الشهادات العليا».
نشاط علمي ومعرفي
لم يقتصر نشاط الشيخ مجبل في البحرين على الجانب التجاري فقط، إذ إنه اهتم أيضا بطباعة العديد من كتب الفقه والتفسير واللغة والعقائد على نفقته الخاصة في مصر والهند ووزعها في عموم بلدان الخليج، وبادر في ثلاثينيات القرن الماضي إلى تأسيس أول مكتبة عامة في مسقط رأسه في عنيزة وهي المكتبة التي اضطر إلى نقلها إلى الرياض بسبب اعتراضات بعض المتشددين، وساهم مساهمة جمة مع صديقه رجل الأعمال البحريني يوسف بن أحمد كانو في التصدي لمحاولات التنصير التي كانت تقودها الإرساليات التبشيرية الإنجليزية والأمريكية في البحرين في مطلع القرن العشرين من خلال مكتبة ومدرسة ومستشفى، وذلك عبر تأسيس «النادي الأدبي الإسلامي» في عام 1913 في سوق المنامة في مواجهة مكتبة الإرسالية الأمريكية. وقد تفرع عن هذا النادي مدرسة إسلامية حرص الذكير وصديقه كانو على توطيد أركانها وترغيب جمهور المثقفين في دروسها وفعالياتها بتولية إدارتها إلى شخصية معروفة ذات علم وبصيرة وكفاءة إدارية، فجلبوا لها من البصرة كمدير العلامة محمد بن عبدالعزيز المانع (تولى لاحقا رئاسة المديرية العامة للمعارف في السعودية ورئاسة القضاء في قطر)، علما بأن العلامة المانع كان أحد تلامذة المصلح المصري المعروف الإمام محمد عبده، وهو ما أدى إلى استقطاب المدرسة والنادي المذكورين للمزيد من طلبة العلم والمعرفة على حساب مكتبة ومدرسة الإرساليات الأجنبية. ومما يذكر عن هذه المدرسة أنها كانت تدرّس العلوم الرياضية والفلكية إلى جانب العلوم الفقهية واللغوية والقرآنية، وكان من ضمن طلابها أحمد حسن إبراهيم وعبدالرحمن مقبل الذكير وأحمد بن قاسم المهزع وغيرهم.
الدور الثقافي والاجتماعي
إلى ما سبق، كانت للذكير مواقف وطنية تجسدت في دعمه للمجاهدين الليبيين ضد الطليان بقيادة الشريف أحمد السنوسي بالمال والسلاح، كما كانت له أياد بيضاء كثيرة على الفقراء والمحتاجين في البحرين؛ تمثلت في الصدقات الجارية وإغاثة المعسرين وعمارة بيوت الله وحفر الآبار. فلا غرابة بعد ذلك أن يصفه العلامة المانع بـ«الطاهر النقي، والعابد التقي، الناسك البر الأواه، الباذل في سبيل الله طلبا لرضاه» ويقول عنه إن له من أعمال الخير والبر والإحسان ما يعجز عن القيام به غالب الناس.
إن هذا الدور الثقافي والاجتماعي الناصع للشيخ مجبل، إضافة إلى علاقاته الوثيقة مع ثلة من الشخصيات المعروفة في الدول العربية، هو الذي دفع الشيخ الأديب إبراهيم بن محمد آل خليفة في عام 1890 إلى تكليفه بجلب المجلات المصرية إلى البحرين وتوفيرها للمتعطشين للعلم ومعرفة ما يدور في العالم من تطورات وحراك، وذلك نزولا عند رغبة رواد مجلس الشيخ إبراهيم بالمحرق. وهكذا صار منزل الذكير في شرق المنامة وناديه الإسلامي ومجلس الشيخ إبراهيم في المحرق مقصداً لمن يريد قراءة مجلات المقتطف والمنار والمقطم والهلال والعروة الوثقى وغيرها من المجلات المصرية التي لعبت دوراً في تشكيل وعي رجالات البحرين من الرعيل الأول. وفي هذا السياق، يورد الباحث المهتم بأعلام البحرين «بشار يوسف الحادي» في مدونته نقلا عن الشيخ الأديب المتنور محمد صالح بن يوسف خنجي أن الذكير قام بما كُلف به خير قيام بفضل علمه أولا ثم بسبب وجود وكلاء له في الهند وشرق أفريقيا والبلاد العربية وأوروبا.
العودة إلى مسقط رأسه
بقي أنْ نتطرق إلى الأسباب التي دفعت الشيخ مجبل، وهو في سن الشيخوخة، إلى ترك البحرين، التي أقام فيها قرابة 40 عاما وعشقها وبادله أهلها الود بالود، للعودة إلى مسقط رأسه في عنيزة؛ حيث لقي وجه ربه في ليلة القدر المباركة بعد أن بنى فيها مدرسة وسكناً لمدرسيها. هنا تتضارب الأقوال! فالبعض يقول إن السبب عائد إلى خسائره التجارية الكبيرة بسبب ظروف الحرب العالمية الأولى وكساد أسواق اللؤلؤ، الأمر الذي جعله يؤثر العودة إلى أهله وعشيرته قبل أن يفقد كل شيء، بينما البعض الآخر يحمل المسؤولية إلى السلطات البريطانية التي ربما كانت تضايقه بسبب نشاطه المعادي لمحاولات التنصير، خصوصا أن الإنجليز أغلقوا ناديه الأدبي عام 1917.
اعتماد الملك المؤسس على مجبل
وكجزء من دوره الثقافي والتنويري، عُرف عن الشيخ مجبل تواصله مع أقرانه من تجار وأعيان ومثقفين في الخليج والدول العربية عبر المراسلات. وقد نشر بشار الحادي في مدونته بعضاً من هذه المراسلات؛ التي شملت رسائل إلى الشيخ محمود شكري الألوسي في العراق في عامي 1893 و1909، وإلى الشيخ محمد بن عبدالرزاق آل محمود في قطر في عام 1903، وإلى الشيخ أبوبكر بن عبدالله الملا في الأحساء في الأعوام 1912 و1913 و1919، وإلى صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا في مصر في عام 1903.
وكان للرجل دور سياسي أيضا أثناء إقامته في البحرين في سنوات شهدت الكثير من التحولات السياسية في الجزيرة العربية. وفي هذا السياق أخبرنا الأستاذ عبدالرحمن الشبيلي (مصدر سابق) نقلاً عما ورد في وثائق محفوظة في خزانة الوثائق الوطنية بدارة الملك عبدالعزيز آل سعود أن الملك المؤسس اعتمد على الشيخ مجبل في حدود عام 1914 وكان يستخدمه كهمزة وصل مع الأتراك العثمانيين في الأحساء خصوصا أن الذكير كان من رعايا الدولة العثمانية حتى تاريخه؛ طبقا لأرشيف حكومة الهند البريطانية الخاص بأعلام الخليج في تلك الحقبة، والذي ورد فيه أيضا أن الذكير كان يحظى باحترام حكام البحرين من آل خليفة الكرام، ويجيد الهندية، ويملك مساكن في البحرين ونجد، وكان ضمن من اقترحوا إنشاء أول بنك تجاري في البحرين، ناهيك عن الإشارة إلى ثرائه وامتلاكه إحدى أوائل السيارات التي جُلبت إلى البحرين من أوروبا. ويُعتقد أن دور الذكير السياسي المشار إليه توطد بعد زواج الملك عبدالعزيز في عنيزة من ابنة أخيه «لولوة اليحيى بن عبدالرحمن الذكير»، بدليل أن الملك المؤسس اعتمد على الشيخ مجبل في مسائل تصدير المواد التموينية إلى نجد. ويضيف الشبيلي: «تشير المعلومات التاريخية إلى أن سليمان وحمد الذكير في البصرة، السابق ذكرهما، كانا أيضا على صلة بالملك عبدالعزيز من خلال تلبية أوامره بتزويد البلاد باحتياجاتها التموينية في مرحلة تأسيس المملكة العربية السعودية».