بدأ المراقبون يشيرون إلى سياسات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، والفلسفة والقيم التي تحملها بـ«الترمبية»، كما هي العادة عند الإشارة لأي توجه أيديولوجي مؤثر معاصر. فـ«الترمبية» (Trumpism) تعنى: سياسات الرئيس ترمب والفلسفة، أو الفكر، الذى تقوم عليه هذه السياسات. وسنلخص هنا أبرز ملامح سياسيات هذا الرئيس، والفلسفة التي تستند إليها هذه السياسات، ورأينا في ما ذهب البعض إليه.
هذا الرئيس كان، كما يبدو، من المتحمسين للعرق الأبيض الأمريكي، ومن الرافضين بوضوح لتواجد نسبة كبيرة (نسبيا) من الملونين على الأرض الأمريكية؛ بدليل ما اتخذه من سياسات في هذا الاتجاه، أكسبته دعم وتأييد «القلة البيضاء»، وحنق وغضب الملونين. فالضرب دائما على هذا الوتر هو السبب الرئيس الذى أكسب ترمب هذه الشعبية لدى أغلب البيض، أو لنقل جزءا كبيرا منهم. أما ما عمله في مجال الاقتصاد الأمريكي، فقد كان ازدهارا مفتعلا، ومؤقتا (اعتمد جزء كبير منه على تصدير الأسلحة)، ثم أتت عليه جائحة كورونا، التي لم يهتم بمكافحتها، كما يجب، فتدهور الاقتصاد بشكل مريع، خاصة في السنة الرابعة لحكمه.
اتسمت سياسات إدارة ترمب بسمات معروفة، بالنسبة لأمريكا والعالم. وتلك الإدارة تسلمت حكم أمريكا وهي قوية ومتماسكة، ورحلت وأمريكا تعاني، على المستويين الداخلي والخارجي. فعلى المستوى الأمريكي، هناك انقسام اجتماعي - سياسي حاد بين معظم الأمريكيين «البيض»، وبقية الأمريكيين البيض و«الملونين». وهذا الانقسام تجسد في نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة. حيث صوت حوالى 74 مليون أمريكي لترمب، بينما صوت لبايدن حوالى 81 مليون أمريكي... في الانتخابات التي شهدت أعلى نسبة مشاركة (Turnout) في الفترة المعاصرة.
وفي انتخابات 2016م، حصلت هيلاري كلينتون على 59.794.940 من الأصوات الشعبية، بينما حصل دونالد ترمب على 59.588.436 صوتا. أي أقل مما حصلت عليه هيلاري بـ206.504 أصوات. ولكن ترمب حصل على 279 صوتا انتخابيا، بينما حصلت كلينتون على 228 صوتا انتخابيا. لذلك، فاز ترمب بالرئاسة.
****
كان شعار حملة ترمب في انتخابات 2016م و2020م هو «أمريكا أولاً»...؟! ولكن، اتضح، في ما بعد، أن هذا الشعار كان انعزاليا، وكان يعني: ترمب أولا، وإسرائيل ثانيا، وأمريكا البيضاء ثالثا. فقد عملت إدارة ترمب، من حيث تدري أو لا تدري، على إشعال فتن طائفية، بتراخيها عن انتهاكات عنصرية، ضد ملونين أمريكيين. ووضعت قيودا كثيرة على الهجرة (وكانت محقة في وضع أكثر هذه القيود، كي لا تغرق أمريكا بملايين من المهاجرين). وعلى المستوى العالمي، كان هم ترمب الأساسي هو: تضخيم ثروته الخاصة، وخدمة إسرائيل، كما لم تخدم من قبل. وحاول مواصلة التمدد الإمبريالي، بهدف: استمرار الصدارة الأمريكية لأطول فترة ممكنة، فلم يفلح في تحقيق هذا الهدف، بسبب اتباعه سياسات انعزالية فاشية، اتسمت بالغطرسة والاستعلاء، وتجاهل القوانين والأعراف الدولية والإنسانية، وعدم الاكتراث بحقوق الآخرين، وارتكاب الأخطاء الاستراتيجية. كما عمل على استفزاز حلفائه الأوروبيين، عبر محاولاته تحميلهم أعباء مادية أكبر، والانسحاب من بعض الاتفاقيات الدولية، وفى مقدمتها اتفاقية باريس المناخية.
واقتصادياً، بالغت إدارة ترمب، في منع التدخل الحكومي (المنظم) للاقتصاد، وتطرفت في التمسك بـ«الرأسمالية» المطلقة، التي تمعن في ترك الاقتصاد حراً مطلقاً، وتحظر أي «ضوابط» موسعة تنظم حركته. فحظرت كثيرا من الإجراءات الحكومية التي تنظم النشاط الاقتصادي، وفق ضوابط ضرورية، للحيلولة دون قيام رأسمالية كاسحة، تؤدي إلى انفراد قلة من الشعب بالمال والنفوذ، ورضوخ الغالبية للفقر والعوز المضاعف. وجاءت أزمة وباء كورونا، كما أشرنا، لتزيد الطين بلة، وتسبب شللا في الاقتصاد، وارتفاعا غير مسبوق في نسبة البطالة.
****
إن «الترمبية»، كما يبدو، تعني، باختصار: الإيمان بسمو وتفوق العرق الأبيض، والإمعان في تبني الرأسمالية المطلقة، بترك الاقتصاد حرا، حرية مطلقة، ما أمكن. كما تعنى: تقليص دور الحكومة في النشاط الاقتصادي والاجتماعي، لأقصى حد ممكن. وتعنى في مجال السياسة، الانعزالية والانتهازية، وترك القيم النبيلة جانبا، في التعامل مع الغير.
وهذا التوجه الأيديولوجي اليميني، الذي يميل كثيرا لأقصى اليمين المحافظ، ليس جديدا. إنه توجه قديم قدم وجود أمريكا. ويمكن أن نرد هذا التوجه إلى الرئيس الأمريكي السابع «أندرو جاكسون» (1767-1845م) الذي تولى رئاسة الولايات المتحدة في الفترة 1829-1837م. فالـ«جاكسونية» تتضمن نفس مبادئ الـ«ترمبية». وبينما كان الرئيس السابق باراك أوباما يكره جاكسون، ويسعى لنزع صورته من ورقة الدولار، فئة الـ20، كان ترمب من أشد المعجبين بأندرو جاكسون. كما أن السيناتور الشهير «جوزيف ماكارثي» كان من أبرز المنادين بهذا التوجه، في الخمسينيات من القرن العشرين، والذي ما زال يشار إليه بالـ«مكارثية»، وإن كان موجها في حينه ضد الشيوعية.
لا يمكن نسبة هذا التوجه لترمب وحده، لعدة أسباب، من أهمها: قدم هذا التوجه، وكثرة المعتنقين له بأمريكا سابقا والآن، بدليل تصويت 74 مليون ناخب أمريكي لترمب في الانتخابات الأخيرة، رغم غوغائيته، واضطرابه، وعدم اكتراثه بالقيم، بل وعدم وجود رؤية واضحة ومستقرة لديه، لضعف ثقافته. وعادة ما تنسب التوجهات الفكرية والأيديولوجية المؤثرة لمفكرين رواد، أو لمثقفين نشطين، على الأقل.
كاتب سعودي
sfadil50@hotmail.com
هذا الرئيس كان، كما يبدو، من المتحمسين للعرق الأبيض الأمريكي، ومن الرافضين بوضوح لتواجد نسبة كبيرة (نسبيا) من الملونين على الأرض الأمريكية؛ بدليل ما اتخذه من سياسات في هذا الاتجاه، أكسبته دعم وتأييد «القلة البيضاء»، وحنق وغضب الملونين. فالضرب دائما على هذا الوتر هو السبب الرئيس الذى أكسب ترمب هذه الشعبية لدى أغلب البيض، أو لنقل جزءا كبيرا منهم. أما ما عمله في مجال الاقتصاد الأمريكي، فقد كان ازدهارا مفتعلا، ومؤقتا (اعتمد جزء كبير منه على تصدير الأسلحة)، ثم أتت عليه جائحة كورونا، التي لم يهتم بمكافحتها، كما يجب، فتدهور الاقتصاد بشكل مريع، خاصة في السنة الرابعة لحكمه.
اتسمت سياسات إدارة ترمب بسمات معروفة، بالنسبة لأمريكا والعالم. وتلك الإدارة تسلمت حكم أمريكا وهي قوية ومتماسكة، ورحلت وأمريكا تعاني، على المستويين الداخلي والخارجي. فعلى المستوى الأمريكي، هناك انقسام اجتماعي - سياسي حاد بين معظم الأمريكيين «البيض»، وبقية الأمريكيين البيض و«الملونين». وهذا الانقسام تجسد في نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة. حيث صوت حوالى 74 مليون أمريكي لترمب، بينما صوت لبايدن حوالى 81 مليون أمريكي... في الانتخابات التي شهدت أعلى نسبة مشاركة (Turnout) في الفترة المعاصرة.
وفي انتخابات 2016م، حصلت هيلاري كلينتون على 59.794.940 من الأصوات الشعبية، بينما حصل دونالد ترمب على 59.588.436 صوتا. أي أقل مما حصلت عليه هيلاري بـ206.504 أصوات. ولكن ترمب حصل على 279 صوتا انتخابيا، بينما حصلت كلينتون على 228 صوتا انتخابيا. لذلك، فاز ترمب بالرئاسة.
****
كان شعار حملة ترمب في انتخابات 2016م و2020م هو «أمريكا أولاً»...؟! ولكن، اتضح، في ما بعد، أن هذا الشعار كان انعزاليا، وكان يعني: ترمب أولا، وإسرائيل ثانيا، وأمريكا البيضاء ثالثا. فقد عملت إدارة ترمب، من حيث تدري أو لا تدري، على إشعال فتن طائفية، بتراخيها عن انتهاكات عنصرية، ضد ملونين أمريكيين. ووضعت قيودا كثيرة على الهجرة (وكانت محقة في وضع أكثر هذه القيود، كي لا تغرق أمريكا بملايين من المهاجرين). وعلى المستوى العالمي، كان هم ترمب الأساسي هو: تضخيم ثروته الخاصة، وخدمة إسرائيل، كما لم تخدم من قبل. وحاول مواصلة التمدد الإمبريالي، بهدف: استمرار الصدارة الأمريكية لأطول فترة ممكنة، فلم يفلح في تحقيق هذا الهدف، بسبب اتباعه سياسات انعزالية فاشية، اتسمت بالغطرسة والاستعلاء، وتجاهل القوانين والأعراف الدولية والإنسانية، وعدم الاكتراث بحقوق الآخرين، وارتكاب الأخطاء الاستراتيجية. كما عمل على استفزاز حلفائه الأوروبيين، عبر محاولاته تحميلهم أعباء مادية أكبر، والانسحاب من بعض الاتفاقيات الدولية، وفى مقدمتها اتفاقية باريس المناخية.
واقتصادياً، بالغت إدارة ترمب، في منع التدخل الحكومي (المنظم) للاقتصاد، وتطرفت في التمسك بـ«الرأسمالية» المطلقة، التي تمعن في ترك الاقتصاد حراً مطلقاً، وتحظر أي «ضوابط» موسعة تنظم حركته. فحظرت كثيرا من الإجراءات الحكومية التي تنظم النشاط الاقتصادي، وفق ضوابط ضرورية، للحيلولة دون قيام رأسمالية كاسحة، تؤدي إلى انفراد قلة من الشعب بالمال والنفوذ، ورضوخ الغالبية للفقر والعوز المضاعف. وجاءت أزمة وباء كورونا، كما أشرنا، لتزيد الطين بلة، وتسبب شللا في الاقتصاد، وارتفاعا غير مسبوق في نسبة البطالة.
****
إن «الترمبية»، كما يبدو، تعني، باختصار: الإيمان بسمو وتفوق العرق الأبيض، والإمعان في تبني الرأسمالية المطلقة، بترك الاقتصاد حرا، حرية مطلقة، ما أمكن. كما تعنى: تقليص دور الحكومة في النشاط الاقتصادي والاجتماعي، لأقصى حد ممكن. وتعنى في مجال السياسة، الانعزالية والانتهازية، وترك القيم النبيلة جانبا، في التعامل مع الغير.
وهذا التوجه الأيديولوجي اليميني، الذي يميل كثيرا لأقصى اليمين المحافظ، ليس جديدا. إنه توجه قديم قدم وجود أمريكا. ويمكن أن نرد هذا التوجه إلى الرئيس الأمريكي السابع «أندرو جاكسون» (1767-1845م) الذي تولى رئاسة الولايات المتحدة في الفترة 1829-1837م. فالـ«جاكسونية» تتضمن نفس مبادئ الـ«ترمبية». وبينما كان الرئيس السابق باراك أوباما يكره جاكسون، ويسعى لنزع صورته من ورقة الدولار، فئة الـ20، كان ترمب من أشد المعجبين بأندرو جاكسون. كما أن السيناتور الشهير «جوزيف ماكارثي» كان من أبرز المنادين بهذا التوجه، في الخمسينيات من القرن العشرين، والذي ما زال يشار إليه بالـ«مكارثية»، وإن كان موجها في حينه ضد الشيوعية.
لا يمكن نسبة هذا التوجه لترمب وحده، لعدة أسباب، من أهمها: قدم هذا التوجه، وكثرة المعتنقين له بأمريكا سابقا والآن، بدليل تصويت 74 مليون ناخب أمريكي لترمب في الانتخابات الأخيرة، رغم غوغائيته، واضطرابه، وعدم اكتراثه بالقيم، بل وعدم وجود رؤية واضحة ومستقرة لديه، لضعف ثقافته. وعادة ما تنسب التوجهات الفكرية والأيديولوجية المؤثرة لمفكرين رواد، أو لمثقفين نشطين، على الأقل.
كاتب سعودي
sfadil50@hotmail.com