يتوارى فكر الكاتب القدير محمد العلي داخل الشخصيات المفهومية التي يناقشها بكثير من الاحترام، وبكمٍّ من البهجة والتفاؤل، إذ ليست لديه نزعة تشاؤمية عكسية إزاء الواقع بالتعالي عليه واستصناع شخصية السوبرمان وفلسفة القوة. بل هو إنسان واقعي جدا يؤمن بالإنسان دون قداسة أو إماتة كما فعل البنيويون. وحين تقرأه لن تجد صراخا هائجا ضد الواقع وملابساته بل ستراه وعيا مفارقا قارئا للواقع بعين الفيلسوف الساخر الذي لا يهرب من الألم بالسوبرمان بل يواجهه بحس المفارقة الساخرة وبالشخصيات المفهومية التي ترافقه في كتاباته كالجاحظ والتوحيدي والفارابي وابن رشد وابن خلدون وغيرهم.
ناقش العلي كتاب (الحداثة في ميزان الإسلام) في دراسة بعنوان (الأذهان المستطرقة «قراءة ساخنة لكتاب بارد»)، وفي طي الدراسة سنجد العلي محملا بأجهزة مفاهيمية للمدونة الفقهية والتراث الإسلامي للرد على المؤلفين (عوض القرني) كما يسميهم هذا الخطاب قد يكون من أهم أطاريح العلي في التصدي للتيار إياه، لكن قبل ذلك علينا أن نعرف المقدار الذي تطلعنا عليه كتابات العلي عن مدى إلمامه بالمدونة الفقهية والإسلامية، وحول (مفهوم التراث) وتحت عنوان فرعي علم الأصول ص84. يعرف علم الأصول من خلال الشخصيات المفهومية التي يحاورها عبر ضحى الإسلام لأحمد أمين الذي ذكر نصا طويلا للرازي يقول فيه «إن نسبة علم الأصول إلى الشافعي كنسبة علم المنطق لأرسطو»، وعلم الأصول «العلم بالعناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي» نفسه ص84.
ويستدرك العلي بالدكتور علي النشار في كتابه (مناهج البحث عند مفكري الإسلام) بأن علم الأصول في الفقه يعود إلى ابن عباس رضي الله عنه، وأنه هو واضع أساس علم القياس في الفكر الأصولي في عصر النبي. نفسه ص84.
يقول العلي «منهج الإمام الشافعي هو كيفية الإجابة عن السؤال الآتي: كيف نصل للحكم الشرعي في واقعة ما وصولا قطعيا أو ظنيا؟ أجاب عليه بقانون تدرجي هو الأصول الأربعة أي الكتاب والسنة فالإجماع فالقياس» نفسه ص85.
هذا فقط إلماح بسيط حول إطلاع العلي على المدونة الفقهية باختلاف مذاهبها وهو المكون التراثي الأول لمحمد العلي. أما المكون الثاني هو علم الكلام: والعلي يرى أن معنى علم الكلام هو الجدل، مشيرا إلى أن أول تسمية أطلقت عليه وهي (علم التشاجر)، مستشهدا بأحد الشعراء الذين مدحوا واصل بن عطاء «وأوتاد أرض الله في كل بلدة وموضع فتياها وعلم التشاجر». نفسه ص89.
إذا أردنا أن نبدأ بالعلي فلنبدأ من موقف المثقف الذي جسده خطابه (الأذهان المستطرقة) وسنكتشف الدائرة المفاهيمية التي يدور حولها محمد العلي في معظم خطاباته ولن نعدم الحقيقة إذا قلنا إن كتاب نمو المفاهيم هو الانطلاقة المهمة لمن أراد فهم فكر العلي، ما الذي أعنيه بالضبط؟! ثيمة الرؤية والموقف. إذ حينما ينطلق إلى مفهوم فلسفي محض فإنه يؤصله بمفارقة من التراث العربي والإسلامي، وخير شاهد على ذلك مفهومه (الشك واليقين)، فهو يعيد تاريخ الشك في تراثنا العربي إلى فكرة الإرجاء وهم (الشكاك الذين قدموا إلى المدينة من المغازي)، وبرغم الخلافات حول ولادته إلا أن العلي يصل إلى أن الشك واليقين متلازمان في الفكر البشري منذ ولادة الإنسان.
والذي وضع الترسيمة الأولى للشك هو معبد الجهني، لكن الشك لا يمكن العبور إليه في التراث دون العبور لدور المعتزلة في تأصيله.
والعلي ناقد للأيديولوجيات منذ زمن مبكر جدا، ونقد الأيديولوجيا الماركسية التي تستند للفلسفة المادية التي تمتد جذورها للقرن الخامس قبل الميلاد.
ويجيب العلي على التساؤل حول وجود الشك واليقين في صلب المادية الجدلية بأنها تقول لا يوجد شك وحده ولا يقين وحده، إنما هناك جدل لا شك مطلقا ولا يقين مطلقا بل مرور بمراحل ثلاث: ملاحظة، فرضية، وتجربة. وكل حدث مربوط بقانون السببية (مع استدراك أن قانون السببية له فاعليته في علم القانون وفي الشريعة الإسلامية). نفسه ص44. ويحيل إلى سبب ظهور النزعة القومية في الفكر العربي بسبب عدم وجود البديل، وأن المفهوم الحديث للأمة والقومية لم يكن واردا في الثقافة العربية، إذ عقب الحرب العالمية الأولى صعدت القوميات الأوروبية بكل مساوئها وخيباتها والنزعات الفاشية، وكانت الحرب العالمية الثانية نتيجة حتمية لتلك النزعات وكان من المتوقع أن تنجح الثورة الاشتراكية في معقل الدول الصناعية تحديدا ألمانيا، وبانتهاء الحرب العالمية الثانية صعدت القوميات العربية والنزعات الإسلاموية فيما صعدت من نزعات، وتأثر الحراك الإخواني بالفكر الماركسي اللينيني/ الترتسكاوي في وجهته العملية والتنظيمية بشقيه السني والشيعي حتى وإن ادعى الإخواني التحرر من النزعة الإمبريالية، إلا أنه غدا صورة فرانكشتاينية عن الاشتراكية.
وإذا عدنا لمحمد العلي في ورقته (الشك واليقين) حول الأيديولوجيا القومية سنجد أن القومية كانت تعبيرا سياسيا كما تجلت عند ممثليها كأنطون سعادة ونجيب بيطار، لكن سينقدها عند أبرز ممثليها: ومنهم ساطع الحصري الذي صاغ فكرة القومية في إطار نظري متأثرا بالثورة الفرنسية والقومية الألمانية والإيطالية في فكرة مفادها اتحاد اللغة والتاريخ، مستشهدا بمقولة الحصري: «اللغة هي روح الأمة، أما التاريخ فهو شعورها وذاكرتها»، ولا يخفى أن هذا التصور عند ساطع الحصري يحمل نزعة طوباوية صوفية لا يقيم وزنا للمعرفة ولا حتى لمتغيرات اللغة والتاريخ. راجع ص45، وميشيل عفلق: وهو لم يستفد كما استفاد سابقه بمعطيات الفلسفة الغربية مقيما بناء مشتتا قائما على: أ- أن عبقرية الأمة في لسانها. ب- الحدس سبيل المعرفة وليس الفكر. ت-الأفراد هم من يمثلون تلك العبقرية. راجع ص45. وفي رده على تلك النزعة يقول العلي:
- إن قصر العبقرية في اللسان يلغي العلاقة الجدلية بين اللغة والفكر وأثر التطور فيهما على بعضهما بعضا.
- حصر العبقرية على الأفراد يخدم الأيديولوجيا التي يقدمها الفكر البعثي.
- حصر المعرفة على الحدس دون العقل هي مقولة غنوصية وصوفية تحول دون أن يكون للعقل أي دور في عملية المعرفة ناهيك عن التعريفات الحديثة للحدس. راجع ص46.
• نقد العلي لأيديولوجيا الرأسمالية:
وهو نقدها في إطار مقولة نهاية التاريخ للفيلسوف الأمريكي فرانسيس فوكوياما في ورقته حول (المثقف والأيديولوجيا) وهو تناولها أيضا في ورقة (الشك واليقين) لكنه لم يشبعها نقاشا وتحليلا إلا عند مناقشته فوكوياما وهو يقول عنها إنها «قطعة موسيقية تحلق حولها المجتمع السديمي في سهرة صاخبة لا فهما لها ولا حبا لصاحبها».
ويتلخص نقد العلي للفكر الأيديولوجي في أنه يتخلف دائما عن الواقع، ويقمع النشاط الفكري، ويقوم على أحكام مسبقة. راجع (نمو المفاهيم ص131). عندما وضعت افتراضا مسبقا أن محمد العلي كاتب شذري بسبب كثرة مقالاته وقلة دراساته واشتغالاته الفكرية كما تظهر لنا فيما جمع من كتب لملمت شتات دراساته ومقالاته، وجدت أن محمد العلي يتحرك بمرح وخفة أكثر حينما تكون ساحة الكتابة محددة ومضبوطة الملامح، لذلك سنجد أنه يتجلى أكثر في مقالاته خصوصا في عناوين الزوايا القرائية في الصحف السعودية والخليجية التي كان يناقش فيها الفكر وأصحابه بشكل منتظم، وأقصد على وجه التحديد كتاب (هموم الضوء)، الذي ناقش فيه مضافا إلى عوض القرني (الحداثة في ميزان الإسلام)/ قصة الحضارة/ قسطنطيين زريق/ فهمي جدعان/ ناصيف نصار/ زكي نجيب محمود/ برهان غليون/ أحمد أمين/ علي الوردي/ ابن خلدون، وأكاد أجزم أنه من أهم الكتب التي تقربنا من روح العلي حيث الكتابة المتخففة من أعباء المنهج والانضباط الأكاديمي الذي نجده في كتاب (نمو المفاهيم). وأنا أتتبع كتابات العلي لاحظت نوعا من الديالكتيك لكنه هذا الديالكتيك قائم على اللغة فهو ليس مثاليا كما عند هيجل، والعلي يلتقي مع هيجل عند نهر هراقليط في فكرة الصيرورة، لكن العلي لديه واقعية أكثر في النظر إلى الصيرورة في الوقت الذي يقول فيه هيجل «ليس في أقوال هراقليط عبارة لا أستطيع أن أدخلها في صميم منطقي»، ولذلك يوسم هيجل بالغموض في الكثير من الأحيان وهو أحد المتون الفلسفية التي تشكل الاكتمال النهائي لفلسفة الحداثة.
الجدل الذي يستخدمه العلي في كتاباته هو جدل قائم على عدة عناصر:
1- الفكرة موضوعة النقاش. 2- مفارقة. 3- تحليل.
ولا يوجد تراتب من مقال إلى مقال، فالجدلية عند العلي غير ثابتة كما عند هيجل، فقد نراها أيضا بالترتيب التالي:
1- مفارقة. 2- تحليل. 3- فكرة.
لكن عنصر المفارقة مهم في كتابات العلي فهو الذي يولد المفاهيم ويستولد التساؤلات.
الخلاصة:
أولا: العلي كاتب من الطراز الرفيع الذي أشمل الكثير من الموضوعات داخل كتاباته، لكنه ناقشها من داخل الحمولات الفلسفية وأدواته المفهومية التي معه، رغم حداثة ما يكتبه ومستجدات الرؤى التي يطرحها لأبرز المفكرين المعاصرين، إلا أنه أيضا متجذر في التراث ويستجلب مفارقاته من خلال التراث ليقارب المفاهيم أو ينقض المفاهيم مكونا منها مزيجا مفهوميا مختلفا ومقدما قراءة أخرى أكثر جذرية وحيوية للموضوعات المختلفة من خلال تقنية المقالة المكثفة التي تميل للاختصار وعدم الإطالة على القارئ.
العلي لا يشير للمعنى إنما يلمح له كما يفعل الفيلسوف اليوناني هراقليط، إلا أنه حينما يكتب يكون ذهنه مشدودا للقارئ لرهانه على أن يتحاور معه أو أن تثير كتاباته أسئلة بموضوع معين.
ثانيا: العلي يستخدم الديالكتيك اللغوي القائم على مفارقات اللغة وإمكانياتها، ودورها في التفكير والسلوك والمعرفة عموما وهو يتقاطع مع الطرح (الفيتغنشتايني) في استعمالية اللغة.
ثالثا: ستستمتع وأنت تقرأ العلي فأنت ستجد في صحبتك قائمة من أبطال الفكر من التراث العربي والإسلامي وكذلك المعاصر، فهو يصاحبهم فيكون معهم تارة وينقض مفاهيمهم في مرات كثيرة مخبئا شخصيته المفهومية في داخل الفكرة التي يتناولها.
رابعا: كان بودنا لو أن العلي قدم طرحا فكريا متكاملا بدل الكتابات المتشظية التي لو قدمت في نسق فكري متكامل لكانت اتضحت شخصية العلي الفلسفية أكثر، لأن كتابات العلي رغم انتظامها الظاهري وتقنيتها القائمة على المفارقات في الفكر والديالكتيك، إلا أنها تحتاج إلى مسوغات منهجية.
ناقش العلي كتاب (الحداثة في ميزان الإسلام) في دراسة بعنوان (الأذهان المستطرقة «قراءة ساخنة لكتاب بارد»)، وفي طي الدراسة سنجد العلي محملا بأجهزة مفاهيمية للمدونة الفقهية والتراث الإسلامي للرد على المؤلفين (عوض القرني) كما يسميهم هذا الخطاب قد يكون من أهم أطاريح العلي في التصدي للتيار إياه، لكن قبل ذلك علينا أن نعرف المقدار الذي تطلعنا عليه كتابات العلي عن مدى إلمامه بالمدونة الفقهية والإسلامية، وحول (مفهوم التراث) وتحت عنوان فرعي علم الأصول ص84. يعرف علم الأصول من خلال الشخصيات المفهومية التي يحاورها عبر ضحى الإسلام لأحمد أمين الذي ذكر نصا طويلا للرازي يقول فيه «إن نسبة علم الأصول إلى الشافعي كنسبة علم المنطق لأرسطو»، وعلم الأصول «العلم بالعناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي» نفسه ص84.
ويستدرك العلي بالدكتور علي النشار في كتابه (مناهج البحث عند مفكري الإسلام) بأن علم الأصول في الفقه يعود إلى ابن عباس رضي الله عنه، وأنه هو واضع أساس علم القياس في الفكر الأصولي في عصر النبي. نفسه ص84.
يقول العلي «منهج الإمام الشافعي هو كيفية الإجابة عن السؤال الآتي: كيف نصل للحكم الشرعي في واقعة ما وصولا قطعيا أو ظنيا؟ أجاب عليه بقانون تدرجي هو الأصول الأربعة أي الكتاب والسنة فالإجماع فالقياس» نفسه ص85.
هذا فقط إلماح بسيط حول إطلاع العلي على المدونة الفقهية باختلاف مذاهبها وهو المكون التراثي الأول لمحمد العلي. أما المكون الثاني هو علم الكلام: والعلي يرى أن معنى علم الكلام هو الجدل، مشيرا إلى أن أول تسمية أطلقت عليه وهي (علم التشاجر)، مستشهدا بأحد الشعراء الذين مدحوا واصل بن عطاء «وأوتاد أرض الله في كل بلدة وموضع فتياها وعلم التشاجر». نفسه ص89.
إذا أردنا أن نبدأ بالعلي فلنبدأ من موقف المثقف الذي جسده خطابه (الأذهان المستطرقة) وسنكتشف الدائرة المفاهيمية التي يدور حولها محمد العلي في معظم خطاباته ولن نعدم الحقيقة إذا قلنا إن كتاب نمو المفاهيم هو الانطلاقة المهمة لمن أراد فهم فكر العلي، ما الذي أعنيه بالضبط؟! ثيمة الرؤية والموقف. إذ حينما ينطلق إلى مفهوم فلسفي محض فإنه يؤصله بمفارقة من التراث العربي والإسلامي، وخير شاهد على ذلك مفهومه (الشك واليقين)، فهو يعيد تاريخ الشك في تراثنا العربي إلى فكرة الإرجاء وهم (الشكاك الذين قدموا إلى المدينة من المغازي)، وبرغم الخلافات حول ولادته إلا أن العلي يصل إلى أن الشك واليقين متلازمان في الفكر البشري منذ ولادة الإنسان.
والذي وضع الترسيمة الأولى للشك هو معبد الجهني، لكن الشك لا يمكن العبور إليه في التراث دون العبور لدور المعتزلة في تأصيله.
والعلي ناقد للأيديولوجيات منذ زمن مبكر جدا، ونقد الأيديولوجيا الماركسية التي تستند للفلسفة المادية التي تمتد جذورها للقرن الخامس قبل الميلاد.
ويجيب العلي على التساؤل حول وجود الشك واليقين في صلب المادية الجدلية بأنها تقول لا يوجد شك وحده ولا يقين وحده، إنما هناك جدل لا شك مطلقا ولا يقين مطلقا بل مرور بمراحل ثلاث: ملاحظة، فرضية، وتجربة. وكل حدث مربوط بقانون السببية (مع استدراك أن قانون السببية له فاعليته في علم القانون وفي الشريعة الإسلامية). نفسه ص44. ويحيل إلى سبب ظهور النزعة القومية في الفكر العربي بسبب عدم وجود البديل، وأن المفهوم الحديث للأمة والقومية لم يكن واردا في الثقافة العربية، إذ عقب الحرب العالمية الأولى صعدت القوميات الأوروبية بكل مساوئها وخيباتها والنزعات الفاشية، وكانت الحرب العالمية الثانية نتيجة حتمية لتلك النزعات وكان من المتوقع أن تنجح الثورة الاشتراكية في معقل الدول الصناعية تحديدا ألمانيا، وبانتهاء الحرب العالمية الثانية صعدت القوميات العربية والنزعات الإسلاموية فيما صعدت من نزعات، وتأثر الحراك الإخواني بالفكر الماركسي اللينيني/ الترتسكاوي في وجهته العملية والتنظيمية بشقيه السني والشيعي حتى وإن ادعى الإخواني التحرر من النزعة الإمبريالية، إلا أنه غدا صورة فرانكشتاينية عن الاشتراكية.
وإذا عدنا لمحمد العلي في ورقته (الشك واليقين) حول الأيديولوجيا القومية سنجد أن القومية كانت تعبيرا سياسيا كما تجلت عند ممثليها كأنطون سعادة ونجيب بيطار، لكن سينقدها عند أبرز ممثليها: ومنهم ساطع الحصري الذي صاغ فكرة القومية في إطار نظري متأثرا بالثورة الفرنسية والقومية الألمانية والإيطالية في فكرة مفادها اتحاد اللغة والتاريخ، مستشهدا بمقولة الحصري: «اللغة هي روح الأمة، أما التاريخ فهو شعورها وذاكرتها»، ولا يخفى أن هذا التصور عند ساطع الحصري يحمل نزعة طوباوية صوفية لا يقيم وزنا للمعرفة ولا حتى لمتغيرات اللغة والتاريخ. راجع ص45، وميشيل عفلق: وهو لم يستفد كما استفاد سابقه بمعطيات الفلسفة الغربية مقيما بناء مشتتا قائما على: أ- أن عبقرية الأمة في لسانها. ب- الحدس سبيل المعرفة وليس الفكر. ت-الأفراد هم من يمثلون تلك العبقرية. راجع ص45. وفي رده على تلك النزعة يقول العلي:
- إن قصر العبقرية في اللسان يلغي العلاقة الجدلية بين اللغة والفكر وأثر التطور فيهما على بعضهما بعضا.
- حصر العبقرية على الأفراد يخدم الأيديولوجيا التي يقدمها الفكر البعثي.
- حصر المعرفة على الحدس دون العقل هي مقولة غنوصية وصوفية تحول دون أن يكون للعقل أي دور في عملية المعرفة ناهيك عن التعريفات الحديثة للحدس. راجع ص46.
• نقد العلي لأيديولوجيا الرأسمالية:
وهو نقدها في إطار مقولة نهاية التاريخ للفيلسوف الأمريكي فرانسيس فوكوياما في ورقته حول (المثقف والأيديولوجيا) وهو تناولها أيضا في ورقة (الشك واليقين) لكنه لم يشبعها نقاشا وتحليلا إلا عند مناقشته فوكوياما وهو يقول عنها إنها «قطعة موسيقية تحلق حولها المجتمع السديمي في سهرة صاخبة لا فهما لها ولا حبا لصاحبها».
ويتلخص نقد العلي للفكر الأيديولوجي في أنه يتخلف دائما عن الواقع، ويقمع النشاط الفكري، ويقوم على أحكام مسبقة. راجع (نمو المفاهيم ص131). عندما وضعت افتراضا مسبقا أن محمد العلي كاتب شذري بسبب كثرة مقالاته وقلة دراساته واشتغالاته الفكرية كما تظهر لنا فيما جمع من كتب لملمت شتات دراساته ومقالاته، وجدت أن محمد العلي يتحرك بمرح وخفة أكثر حينما تكون ساحة الكتابة محددة ومضبوطة الملامح، لذلك سنجد أنه يتجلى أكثر في مقالاته خصوصا في عناوين الزوايا القرائية في الصحف السعودية والخليجية التي كان يناقش فيها الفكر وأصحابه بشكل منتظم، وأقصد على وجه التحديد كتاب (هموم الضوء)، الذي ناقش فيه مضافا إلى عوض القرني (الحداثة في ميزان الإسلام)/ قصة الحضارة/ قسطنطيين زريق/ فهمي جدعان/ ناصيف نصار/ زكي نجيب محمود/ برهان غليون/ أحمد أمين/ علي الوردي/ ابن خلدون، وأكاد أجزم أنه من أهم الكتب التي تقربنا من روح العلي حيث الكتابة المتخففة من أعباء المنهج والانضباط الأكاديمي الذي نجده في كتاب (نمو المفاهيم). وأنا أتتبع كتابات العلي لاحظت نوعا من الديالكتيك لكنه هذا الديالكتيك قائم على اللغة فهو ليس مثاليا كما عند هيجل، والعلي يلتقي مع هيجل عند نهر هراقليط في فكرة الصيرورة، لكن العلي لديه واقعية أكثر في النظر إلى الصيرورة في الوقت الذي يقول فيه هيجل «ليس في أقوال هراقليط عبارة لا أستطيع أن أدخلها في صميم منطقي»، ولذلك يوسم هيجل بالغموض في الكثير من الأحيان وهو أحد المتون الفلسفية التي تشكل الاكتمال النهائي لفلسفة الحداثة.
الجدل الذي يستخدمه العلي في كتاباته هو جدل قائم على عدة عناصر:
1- الفكرة موضوعة النقاش. 2- مفارقة. 3- تحليل.
ولا يوجد تراتب من مقال إلى مقال، فالجدلية عند العلي غير ثابتة كما عند هيجل، فقد نراها أيضا بالترتيب التالي:
1- مفارقة. 2- تحليل. 3- فكرة.
لكن عنصر المفارقة مهم في كتابات العلي فهو الذي يولد المفاهيم ويستولد التساؤلات.
الخلاصة:
أولا: العلي كاتب من الطراز الرفيع الذي أشمل الكثير من الموضوعات داخل كتاباته، لكنه ناقشها من داخل الحمولات الفلسفية وأدواته المفهومية التي معه، رغم حداثة ما يكتبه ومستجدات الرؤى التي يطرحها لأبرز المفكرين المعاصرين، إلا أنه أيضا متجذر في التراث ويستجلب مفارقاته من خلال التراث ليقارب المفاهيم أو ينقض المفاهيم مكونا منها مزيجا مفهوميا مختلفا ومقدما قراءة أخرى أكثر جذرية وحيوية للموضوعات المختلفة من خلال تقنية المقالة المكثفة التي تميل للاختصار وعدم الإطالة على القارئ.
العلي لا يشير للمعنى إنما يلمح له كما يفعل الفيلسوف اليوناني هراقليط، إلا أنه حينما يكتب يكون ذهنه مشدودا للقارئ لرهانه على أن يتحاور معه أو أن تثير كتاباته أسئلة بموضوع معين.
ثانيا: العلي يستخدم الديالكتيك اللغوي القائم على مفارقات اللغة وإمكانياتها، ودورها في التفكير والسلوك والمعرفة عموما وهو يتقاطع مع الطرح (الفيتغنشتايني) في استعمالية اللغة.
ثالثا: ستستمتع وأنت تقرأ العلي فأنت ستجد في صحبتك قائمة من أبطال الفكر من التراث العربي والإسلامي وكذلك المعاصر، فهو يصاحبهم فيكون معهم تارة وينقض مفاهيمهم في مرات كثيرة مخبئا شخصيته المفهومية في داخل الفكرة التي يتناولها.
رابعا: كان بودنا لو أن العلي قدم طرحا فكريا متكاملا بدل الكتابات المتشظية التي لو قدمت في نسق فكري متكامل لكانت اتضحت شخصية العلي الفلسفية أكثر، لأن كتابات العلي رغم انتظامها الظاهري وتقنيتها القائمة على المفارقات في الفكر والديالكتيك، إلا أنها تحتاج إلى مسوغات منهجية.