يعد علي حسين الفيلكاوي أحد أبرز شعراء التسعينات في الكويت والخليج، له تجربة ثرية في كتابة النص الجديد، كما اقتحم عالم الرواية بعملين مهمين هما «الدقس»، وقبلها «غيوم تحت وتر».
شكل ديوانه «أنت أيضاً وداعاً» نقله مهمة في قصيدة النثر الكويتية التي برع فيها وزملاؤه التسعينيون، وكانوا أول من فرضها في المشهد الكويتي، دون اعتراضات كونهم برعوا قبلها في النص التفعيلي والعمودي.
يؤكد الفيلكاوي لـ«عكاظ» أن العمل الشعري لا يتقيد بشروط شاعره، وغالبا لا يخضع لإرادته، بل يمتد بسطوته ليفرض حدودا جديدة، وشروطا نرجسية، لا تعني أحدا سواه، لافتاً في الوقت ذاته إلى أن الماء الآسن في آنية ذهبية لا يجعله عذبا.
ويردف: «إن الحدود الفاصلة ما بين الأجناس الأدبية المختلفة أصبحت أكثر مرونة، بل هناك من يدعي بتلاشي تلك الحدود، ما يشكل فعل إزاحة غير مصطنع، فقصيدة النثر الموجزة قد تنزلق إلى ساحة القصة القصيرة، والعكس صحيح».
• حضور الشاعر في المشهد الثقافي، أعتقد يا علي يتمثل بإصداراته فقط؟
•• النواة، والروح، والثمرة هو النص الأدبي الذي يقدمه الأديب، وهو جذر المسألة ونتيجتها المؤكدة، وما عدا ذلك قشرة تزول مع خفوت الضوء، أو مرور الزمن، إلا أن جلّ النصوص الجيدة معرضة للنسيان أو الإهمال وعلى وجه الخصوص النص الشعري؛ لكثرة سالكيه وغياب العين الفاحصة المتأنية. وذلك يأخذنا إلى سؤال آخر: هل سيبقى الكتاب الورقي الحاضن الأول لأنواع الأدب المختلفة؟ وكما نرى أن النشر الإلكتروني بدأ يستقطب جلّ النتاج الأدبي وغيره. لذا، نشرت مجموعتي الشعرية «أنتَ أيضاً وداعاً» في موقع «جهات» الإلكتروني، ومجموعة أخرى من نصوص مختلفة ومختارة في موقع أدب «الموسوعة العالمية للأدب العربي». والمشاركة في أمسيات شعرية داخل وخارج الكويت. لقد فعلت الذي ينبغي علي فعله، ولديّ يقين المحبّ أن ما يحمله الأصدقاء لي من تقدير في قلوبهم وأرواحهم ووعيهم، أو ما يترسب في نسيج عابر مجهول، هو الأبقى والأسمى، على الرغم من عدم يقيني المطلق بأهمية الخلود الزمني، بل أشعر دوماً بعبثية مغزى مسار الزمن بكل ما يحتويه من خطوات في العمق أو على السطح.
بلا شروط
• شكّل ديوانك «أنت أيضاً.. وداعاً» قفزة في تجربتك الشخصية، وكذلك ضمن أعمال جيلك، حتى بدا أن ما تلاه رغم جمالياته أقل توهجاً في ذهن المتلقي.
•• العمل الشعري على وجه التحديد مخلوق بيد مجهولة، أقصد الهالة الروحية التي تسبح حوله، ورنين الموسيقى الخفي الذي يرفرف بأنحائه، والتأثير العميق وربما الأبدي على ذهن المتلقي، وعلى الرغم من ذلك نجد أن العمل الشعري لا يتقيد بشروط شاعره، وغالبا لا يخضع لإرادته، بل يمتد بسطوته ليفرض حدودا جديدة، وشروطا نرجسية، لا تعني أحدا سواه.
لم تكن نصوص «أنت أيضاً وداعاً» وما بعدها، تخرج عن أتون ذلك الصراع، وشروطه المحددة. فيما تظل التقنية الفنية وهي تمثل النهج ثابتة كرؤية شخصية- ربما تتحول ذات وعي- تتمثل في الزمن والمكان كعنصرين هوائيّيْن، لا يعترفان بقوانين الفيزياء، في الوقت الذي يتحرك فيه النص بحرية واستقلالية متخطيّا قيد سلطة المكرر، والراسخ والمسلّم به.
لقد تخلّت سلطة النقد عن سطوتها، وبدت سلطة القارئ أكثر ملاءمة للمنتج الإبداعي، وأصبح المؤلف حرا، ولكن أكثر شكا في تحديد قيمة ما يكتبه. في هذا الخواء عليه أن يخلق دوما هواءه الجديد، وأرضه العذراء، دون انتظار المديح أو الذم أو التقييم من أحد. ومن المحزن رؤية المؤلف يشتغل على النص كتقنيّ محترف يتعامل مع آلة في بداية السطر ستمنحك تلك الكلمة هذا البعد، وذلك السطر في نهاية النص سيمنحك وقعا آخر. ضمن قياسات لغوية دقيقة، غافلا عن أن الماء الآسن في آنية ذهبية لا يجعله عذبا. في ذلك السياق تصبح القصيدة مجرد لعبة سمجة في مضمار اللغة خالية من التجديد، من الروح، ومن التجربة الحياتية المتفردة.
• اتجهت للرواية في عملين هما «غيوم تحت وتر»، و«الدقس»، ألا تؤثر كتابة السرد على تصاعد مستوى الشعر في تجربتك؟
•• بداية لقد توقفت منذ زمن عن محاولة نيل الاعتراف، وعمّني سلام داخليّ، ما منحني هامشا رحبا للكتابة. وأنا على يقين بأنني لست روائيا، ولا تشكل الألقاب أو التصنيف حقيقة أية أهمية بالنسبة لي.
إن الحدود الفاصلة ما بين الأجناس الأدبية المختلفة أصبحت أكثر مرونة، بل هناك من يدعي بتلاشي تلك الحدود، ما يشكل فعل إزاحة غير مصطنع، فقصيدة النثر الموجزة قد تنزلق إلى ساحة القصة القصيرة، والعكس صحيح. وأمام مجموعة من الأفكار والتجارب المتراكة، تدفعها موجات من الإغراء اللغوي، يصبح الانزلاق إلى جنس أدبي آخر أمرا طبيعيا، ومشروعا في الوقت نفسه.
مساران مختلفان لا يتدفقان من نهر واحد، ولكنهما ينتهيان في المصبّ ذاته. لذا أي منهما لا يغرف من ماء الآخر، وبالتالي لا يؤثر عليه، يجب أن نتنبه إلى أنهرنا المنسية المهملة، ولا ندعها عرضة للجفاف. يجب أن ننزع رداء القدسية عن جلودنا، وهالة النرجسية عنا، ونرتكب إثم المغامرة الطاهر.
هناك خلل
• مواهب شعرية عدة تتوهج ثم تخفت في المشهد الكويتي، ما الذي يحدث تحديدا، أما زلت متفائلاً بمستقبل شعري أفضل؟
•• هناك خلل ما، إلا أنني لست معنيا بتحديده، وتبيان ماهيته، الأمر بحاجة إلى أعين فاحصة تمتلك علاقات قريبة جدا من أرواح أولئك، وقدرة على البحث، واستخلاص النتائج. ولطالما الموهبة الشعرية لا تحتاج إلى أحد، فهي مثل شهاب نافر يشق أستار الظلمة، يلتفت إليه أحد ما، ويغفل عنه الآخر.
ولكن دعنا نقارن استمرارية المواهب الشعرية في الكويت، بمحيطنا الخليجي في كل من عمان والبحرين والسعودية على سبيل المثال، لنجد ميزان الإجابة يميل لصالح أي منهم. هل هنا من يقارن بالشعراء: قاسم حداد، أو سيف الرحبي، وزاهر الغافري، أو أحمد الملا، وإبراهيم الحسين. أنا لا أقصد المكانة الفنية فهي قيمة لا أحددها أنا، وإن حددتها فهي قد لا تعني سواي، بل أقصد الانتشار والاستمرارية. سؤال مستحق بالطبع، نعم هنالك خلل، وأنا لا أملك الإجابة.
• عربياً، كيف ترى مسيرة النص الشعري؟
•• إن مسيرة النص الشعري العربي مجهولة، لأن الحياة الأخرى للشعر مرهونة بالصوت الشعري المنفرد، أما التراكم الذي تحقق إيجابيا رغم تشابه التجارب أحيانا، ويمكننا أن نلحظ التأثر بالكتابات الغربية من حيث الشكل في أغلب الأحيان، ومداخل النص من حيث الأفكار الرئيسية، وهو راجع إلى القوة الكامنة للترجمة، وعدم القدرة على كشط النصوص المؤثرة من ذهن الكاتب، ويتبدّى من خلال المسار الشعري العربي أنه مغرق في النثرية القصوى ولا يشبه أصحابه، فهي تجارب تقتات من فتات التجارب المكرسة، وتعيد اجترارها ودونما ملل، تنقصها شجاعة الحقيقة الذاتية، وتفتقر إلى التجربة الشخصية التي تعتبر المنبع الأصيل المكون لمفاصل النص، لنرى ونقرأ نصوصا كربونية مزيفة، بديباجة لغوية متقنة فقط، أما النص ففارغ دون روح، آثر فيه الكاتب خوض سبل الآخرين، والركون إلى بر السلامة بوعي أو من دونه.
أعتقد أن من توصل إلى كتابة قصيدة النثر أو تساءل عن جدوى كتابة القصيدة العمودية أو التفعيلة ومن خلال قراءات ذات جدوى، ومستوى أعلى من الوعي توصل إلى ضرورة كتابة النص الشعري النثري كخلاص أخير.. وذلك بحد ذاته مثل وعيا بالكتابة إلى حد ما، وشكل رؤية فردية ومرجعا أعلى، إلا أن الكثير اشتغل بقصيدة النثر دون أن يخوض معترك ذلك الصراع، أو يعيه. لذا، النص الشعري العربي الآن يفتقر إلى الرؤية الفردية من ذلك الجانب.
دعم الإبداع
• ما الذي ينقص المؤسسة الثقافية في الكويت لتكون فاعلة كما يجب في إغناء المشهد الثقافي؟
•• من المهم أن يترأس تلك المؤسسات الثقافية من يعنى بالشأن الثقافي، ومن يدرك أسراره، ويطلع على همومه. وثمة أمر مهم آخر يتعلق بالمبادرة، وهو دعم النتاج الإبداعي المتميز منه على وجه الخصوص من خلال ترجمته، وتسويقه، وإدراجه في المناهج الدراسية. أيضا دعم دور النشر المحلية، والإصدارات الشبابية ومتابعتها وتخصيص جوائز رسمية لها.
المبادرة تعني قيام تلك المؤسسات التي تصرف لها ميزانيات لا بأس بها بالمساهمة في الحركة الأدبية وأنشطتها بشكل فاعل ومتواصل. وليس من المعقول أن يطرح المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب «جائزة تشجيعية» ويطلب من المبدع أن يلمم كتبه، ويوقع إقرارا من أجل نيل تلك الجائزة، بل يجب على تلك المؤسسة أن تبادر هي بطرق باب المبدع، وتمنح الجائزة من يستحق.
نعم يتوجب على المؤسسة الثقافية (رغم أنها جزء من حالة التردي العام في محيطنا) أن تؤسس النظم الثقافية وتقود مؤسسات الدولة بما تمتلك من وعي عميق ورؤية شاملة تتسق مع المبادئ ومثل العالم الحديث.
للمثقف دور مهم في بناء شكل وقيمة ومستقبل الدولة والمجتمع، وهو دور غير مباشر في أغلب الأحيان، يُمارس من خلال المنتج الثقافي بشكل عام، من خلال زرع القيم والمثل والأفكار المتسقة مع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، على سبيل المثال، والدفاع عنها بشجاعة وصدق، فلا حياة لمجتمع، ولا مستقبل لدولة دون وجود مثقف حقيقي، ينتصب في نهاية النفق المظلم، رافعا بثبات ضوء النجاة. وعلى النقيض، للمثقف أيضا دور منحرف، بما يمتلك من أدوات، وسلطة فكرية في تضليل الرأي العام، وقيادة القطيع إلى الهاوية.
المثقف ليس بريئا، في بعض الأحيان. حين يسود المثقف الخير، وتترسب مثله ومفاهيمه، ينعم المجتمع بالتطور المطلوب على كافة المستويات، بينما المثقف الآخر (المتعصب دينيّا، المتطرف أيدولوجيا، الفاسد... إلخ) يعبث بمفاصل الدولة ومؤسساتها، ويبرّر ويشرّع فشلها السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، فلا نستغرب إفلاس الدول وهي تتمتع بموارد طائلة، أو انحدارها إلى درك الديكتاتورية، أو تفشي التمييز بكافة أشكاله، والعنصرية، والطائفية.
• لماذا اخترت الدقس «الدولفين» معادلاً موضوعياً للإنسان في روايتك الأخيرة الصادرة عن دار «كلمات»؟
•• بشكل مباشر ومختصر، أحاول نسج علاقة جديدة ما بين الإنسان وما عداه، فلا شيء يموت البتة، هناك علاقة متواصلة وأبدية، فالعلاقة المتبادلة المتوارية ما بين الإنسان وبقية الكائنات والأشياء، منتجة للأفكار الجديدة المتنوعة، وبطرفة عين فارقة قد تُهدم الحواجز الوهمية ما بين الوعي الإنساني وجدران الكون المفترضة.
الرواية في فصولها تسير وفق مسارين؛ أحدهما تدور فيه الأحداث اليومية والعلاقات المتشابكة ما بين الشخصيات بشكل ظاهر، والآخر باطني. إن ولادة «الدقس» هي انعكاس رمزي للسؤال الأزلي عن سر انبثاق الجنس البشري، والتحول إلى دولفين هو إجابة عن التحول العظيم الغامض بعد الموت، لم أعنِ التناسخ، ولكنها إجابة لنهاية المسار السردي، وبما أن الأجوبة متضاربة في ما يحدث للجسد البشري بعد الموت، فمن المبرر أن أطرح إجابتي الخاصة وفقا للمسار الطبيعي لأحداث الرواية في التوازي مع الإجابة الغامضة المعدة سلفا.
• الحياة مليئة بالمتناقضات، إلامَ ترمز جدلية اليابسة والبحر في رواية «الدقس»؟
•• لم يكن البحر سوى الهروب نحو الحرية، والبحث في الزمن الحاضر عن المستقبل، في المقابل مثلت اليابسة، الجمود، وبدت سجنا للجسد والحلم، وفي خضم هذه التناقضات تشكلت دوائر من التضادات على اليابسة ضمت الولادة والموت، الحب والكراهية.. وفي خط تصاعدي تصل تلك الأحلام والرغبات إلى نقطة النهاية، حيث يتوجب الاختيار ما بين تلك التناقضات، والبحث عن كوّة للنفاذ من أتون الصراع الذاتي الذي تمثله اليابسة، ليشرع البحر موجاته كنوافذ وأبواب للخلاص من الجسد، والتحول كإجابة مفتوحة عن سؤال لم يجب عنه أحد.
• أننتظر عما قريب رواية؟ أم مجموعة شعرية يا علي؟
•• الكتابة ليست ترفا أو اختيارا، لكنها عصارة الروح، وهي مغامرة مجهولة العواقب. وفي معظم الأحيان ينضج النص الشعري دفعة واحدة، بينما العمل السردي تراكمي وبطيء، في البدء يكون عبارة عن مجموعة من الأفكار المتفرقة، يتم تنسيقها وتنظيمها وفق مخطط معين. أحاول دوما أن أتخلص من آثار الأعمال السابقة قبل أن أبدأ في عمل جديد، سواء ما كتبتُه أنا أو قرأتُه للآخرين. أفتقد للتخطيط المنظم، والتسويق الذكي، وهما أمران مهمان لأي كاتب، أفتقد أيضا المراجعة الدقيقة وذلك أمر كارثي، يجب ألا يقع به المؤلف، وأحاول أن أطلق سجيتي مثل حصان برّي في مسافة الكلمات، وأشعر دوما أن هناك متسعا من السهول والمرتفعات العذراء، هناك مساحة خضراء لورقة بيضاء، وكلمات بملامح قوس قزح، أنا أقرب دوما للنص الشعري.
شكل ديوانه «أنت أيضاً وداعاً» نقله مهمة في قصيدة النثر الكويتية التي برع فيها وزملاؤه التسعينيون، وكانوا أول من فرضها في المشهد الكويتي، دون اعتراضات كونهم برعوا قبلها في النص التفعيلي والعمودي.
يؤكد الفيلكاوي لـ«عكاظ» أن العمل الشعري لا يتقيد بشروط شاعره، وغالبا لا يخضع لإرادته، بل يمتد بسطوته ليفرض حدودا جديدة، وشروطا نرجسية، لا تعني أحدا سواه، لافتاً في الوقت ذاته إلى أن الماء الآسن في آنية ذهبية لا يجعله عذبا.
ويردف: «إن الحدود الفاصلة ما بين الأجناس الأدبية المختلفة أصبحت أكثر مرونة، بل هناك من يدعي بتلاشي تلك الحدود، ما يشكل فعل إزاحة غير مصطنع، فقصيدة النثر الموجزة قد تنزلق إلى ساحة القصة القصيرة، والعكس صحيح».
• حضور الشاعر في المشهد الثقافي، أعتقد يا علي يتمثل بإصداراته فقط؟
•• النواة، والروح، والثمرة هو النص الأدبي الذي يقدمه الأديب، وهو جذر المسألة ونتيجتها المؤكدة، وما عدا ذلك قشرة تزول مع خفوت الضوء، أو مرور الزمن، إلا أن جلّ النصوص الجيدة معرضة للنسيان أو الإهمال وعلى وجه الخصوص النص الشعري؛ لكثرة سالكيه وغياب العين الفاحصة المتأنية. وذلك يأخذنا إلى سؤال آخر: هل سيبقى الكتاب الورقي الحاضن الأول لأنواع الأدب المختلفة؟ وكما نرى أن النشر الإلكتروني بدأ يستقطب جلّ النتاج الأدبي وغيره. لذا، نشرت مجموعتي الشعرية «أنتَ أيضاً وداعاً» في موقع «جهات» الإلكتروني، ومجموعة أخرى من نصوص مختلفة ومختارة في موقع أدب «الموسوعة العالمية للأدب العربي». والمشاركة في أمسيات شعرية داخل وخارج الكويت. لقد فعلت الذي ينبغي علي فعله، ولديّ يقين المحبّ أن ما يحمله الأصدقاء لي من تقدير في قلوبهم وأرواحهم ووعيهم، أو ما يترسب في نسيج عابر مجهول، هو الأبقى والأسمى، على الرغم من عدم يقيني المطلق بأهمية الخلود الزمني، بل أشعر دوماً بعبثية مغزى مسار الزمن بكل ما يحتويه من خطوات في العمق أو على السطح.
بلا شروط
• شكّل ديوانك «أنت أيضاً.. وداعاً» قفزة في تجربتك الشخصية، وكذلك ضمن أعمال جيلك، حتى بدا أن ما تلاه رغم جمالياته أقل توهجاً في ذهن المتلقي.
•• العمل الشعري على وجه التحديد مخلوق بيد مجهولة، أقصد الهالة الروحية التي تسبح حوله، ورنين الموسيقى الخفي الذي يرفرف بأنحائه، والتأثير العميق وربما الأبدي على ذهن المتلقي، وعلى الرغم من ذلك نجد أن العمل الشعري لا يتقيد بشروط شاعره، وغالبا لا يخضع لإرادته، بل يمتد بسطوته ليفرض حدودا جديدة، وشروطا نرجسية، لا تعني أحدا سواه.
لم تكن نصوص «أنت أيضاً وداعاً» وما بعدها، تخرج عن أتون ذلك الصراع، وشروطه المحددة. فيما تظل التقنية الفنية وهي تمثل النهج ثابتة كرؤية شخصية- ربما تتحول ذات وعي- تتمثل في الزمن والمكان كعنصرين هوائيّيْن، لا يعترفان بقوانين الفيزياء، في الوقت الذي يتحرك فيه النص بحرية واستقلالية متخطيّا قيد سلطة المكرر، والراسخ والمسلّم به.
لقد تخلّت سلطة النقد عن سطوتها، وبدت سلطة القارئ أكثر ملاءمة للمنتج الإبداعي، وأصبح المؤلف حرا، ولكن أكثر شكا في تحديد قيمة ما يكتبه. في هذا الخواء عليه أن يخلق دوما هواءه الجديد، وأرضه العذراء، دون انتظار المديح أو الذم أو التقييم من أحد. ومن المحزن رؤية المؤلف يشتغل على النص كتقنيّ محترف يتعامل مع آلة في بداية السطر ستمنحك تلك الكلمة هذا البعد، وذلك السطر في نهاية النص سيمنحك وقعا آخر. ضمن قياسات لغوية دقيقة، غافلا عن أن الماء الآسن في آنية ذهبية لا يجعله عذبا. في ذلك السياق تصبح القصيدة مجرد لعبة سمجة في مضمار اللغة خالية من التجديد، من الروح، ومن التجربة الحياتية المتفردة.
• اتجهت للرواية في عملين هما «غيوم تحت وتر»، و«الدقس»، ألا تؤثر كتابة السرد على تصاعد مستوى الشعر في تجربتك؟
•• بداية لقد توقفت منذ زمن عن محاولة نيل الاعتراف، وعمّني سلام داخليّ، ما منحني هامشا رحبا للكتابة. وأنا على يقين بأنني لست روائيا، ولا تشكل الألقاب أو التصنيف حقيقة أية أهمية بالنسبة لي.
إن الحدود الفاصلة ما بين الأجناس الأدبية المختلفة أصبحت أكثر مرونة، بل هناك من يدعي بتلاشي تلك الحدود، ما يشكل فعل إزاحة غير مصطنع، فقصيدة النثر الموجزة قد تنزلق إلى ساحة القصة القصيرة، والعكس صحيح. وأمام مجموعة من الأفكار والتجارب المتراكة، تدفعها موجات من الإغراء اللغوي، يصبح الانزلاق إلى جنس أدبي آخر أمرا طبيعيا، ومشروعا في الوقت نفسه.
مساران مختلفان لا يتدفقان من نهر واحد، ولكنهما ينتهيان في المصبّ ذاته. لذا أي منهما لا يغرف من ماء الآخر، وبالتالي لا يؤثر عليه، يجب أن نتنبه إلى أنهرنا المنسية المهملة، ولا ندعها عرضة للجفاف. يجب أن ننزع رداء القدسية عن جلودنا، وهالة النرجسية عنا، ونرتكب إثم المغامرة الطاهر.
هناك خلل
• مواهب شعرية عدة تتوهج ثم تخفت في المشهد الكويتي، ما الذي يحدث تحديدا، أما زلت متفائلاً بمستقبل شعري أفضل؟
•• هناك خلل ما، إلا أنني لست معنيا بتحديده، وتبيان ماهيته، الأمر بحاجة إلى أعين فاحصة تمتلك علاقات قريبة جدا من أرواح أولئك، وقدرة على البحث، واستخلاص النتائج. ولطالما الموهبة الشعرية لا تحتاج إلى أحد، فهي مثل شهاب نافر يشق أستار الظلمة، يلتفت إليه أحد ما، ويغفل عنه الآخر.
ولكن دعنا نقارن استمرارية المواهب الشعرية في الكويت، بمحيطنا الخليجي في كل من عمان والبحرين والسعودية على سبيل المثال، لنجد ميزان الإجابة يميل لصالح أي منهم. هل هنا من يقارن بالشعراء: قاسم حداد، أو سيف الرحبي، وزاهر الغافري، أو أحمد الملا، وإبراهيم الحسين. أنا لا أقصد المكانة الفنية فهي قيمة لا أحددها أنا، وإن حددتها فهي قد لا تعني سواي، بل أقصد الانتشار والاستمرارية. سؤال مستحق بالطبع، نعم هنالك خلل، وأنا لا أملك الإجابة.
• عربياً، كيف ترى مسيرة النص الشعري؟
•• إن مسيرة النص الشعري العربي مجهولة، لأن الحياة الأخرى للشعر مرهونة بالصوت الشعري المنفرد، أما التراكم الذي تحقق إيجابيا رغم تشابه التجارب أحيانا، ويمكننا أن نلحظ التأثر بالكتابات الغربية من حيث الشكل في أغلب الأحيان، ومداخل النص من حيث الأفكار الرئيسية، وهو راجع إلى القوة الكامنة للترجمة، وعدم القدرة على كشط النصوص المؤثرة من ذهن الكاتب، ويتبدّى من خلال المسار الشعري العربي أنه مغرق في النثرية القصوى ولا يشبه أصحابه، فهي تجارب تقتات من فتات التجارب المكرسة، وتعيد اجترارها ودونما ملل، تنقصها شجاعة الحقيقة الذاتية، وتفتقر إلى التجربة الشخصية التي تعتبر المنبع الأصيل المكون لمفاصل النص، لنرى ونقرأ نصوصا كربونية مزيفة، بديباجة لغوية متقنة فقط، أما النص ففارغ دون روح، آثر فيه الكاتب خوض سبل الآخرين، والركون إلى بر السلامة بوعي أو من دونه.
أعتقد أن من توصل إلى كتابة قصيدة النثر أو تساءل عن جدوى كتابة القصيدة العمودية أو التفعيلة ومن خلال قراءات ذات جدوى، ومستوى أعلى من الوعي توصل إلى ضرورة كتابة النص الشعري النثري كخلاص أخير.. وذلك بحد ذاته مثل وعيا بالكتابة إلى حد ما، وشكل رؤية فردية ومرجعا أعلى، إلا أن الكثير اشتغل بقصيدة النثر دون أن يخوض معترك ذلك الصراع، أو يعيه. لذا، النص الشعري العربي الآن يفتقر إلى الرؤية الفردية من ذلك الجانب.
دعم الإبداع
• ما الذي ينقص المؤسسة الثقافية في الكويت لتكون فاعلة كما يجب في إغناء المشهد الثقافي؟
•• من المهم أن يترأس تلك المؤسسات الثقافية من يعنى بالشأن الثقافي، ومن يدرك أسراره، ويطلع على همومه. وثمة أمر مهم آخر يتعلق بالمبادرة، وهو دعم النتاج الإبداعي المتميز منه على وجه الخصوص من خلال ترجمته، وتسويقه، وإدراجه في المناهج الدراسية. أيضا دعم دور النشر المحلية، والإصدارات الشبابية ومتابعتها وتخصيص جوائز رسمية لها.
المبادرة تعني قيام تلك المؤسسات التي تصرف لها ميزانيات لا بأس بها بالمساهمة في الحركة الأدبية وأنشطتها بشكل فاعل ومتواصل. وليس من المعقول أن يطرح المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب «جائزة تشجيعية» ويطلب من المبدع أن يلمم كتبه، ويوقع إقرارا من أجل نيل تلك الجائزة، بل يجب على تلك المؤسسة أن تبادر هي بطرق باب المبدع، وتمنح الجائزة من يستحق.
نعم يتوجب على المؤسسة الثقافية (رغم أنها جزء من حالة التردي العام في محيطنا) أن تؤسس النظم الثقافية وتقود مؤسسات الدولة بما تمتلك من وعي عميق ورؤية شاملة تتسق مع المبادئ ومثل العالم الحديث.
للمثقف دور مهم في بناء شكل وقيمة ومستقبل الدولة والمجتمع، وهو دور غير مباشر في أغلب الأحيان، يُمارس من خلال المنتج الثقافي بشكل عام، من خلال زرع القيم والمثل والأفكار المتسقة مع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، على سبيل المثال، والدفاع عنها بشجاعة وصدق، فلا حياة لمجتمع، ولا مستقبل لدولة دون وجود مثقف حقيقي، ينتصب في نهاية النفق المظلم، رافعا بثبات ضوء النجاة. وعلى النقيض، للمثقف أيضا دور منحرف، بما يمتلك من أدوات، وسلطة فكرية في تضليل الرأي العام، وقيادة القطيع إلى الهاوية.
المثقف ليس بريئا، في بعض الأحيان. حين يسود المثقف الخير، وتترسب مثله ومفاهيمه، ينعم المجتمع بالتطور المطلوب على كافة المستويات، بينما المثقف الآخر (المتعصب دينيّا، المتطرف أيدولوجيا، الفاسد... إلخ) يعبث بمفاصل الدولة ومؤسساتها، ويبرّر ويشرّع فشلها السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، فلا نستغرب إفلاس الدول وهي تتمتع بموارد طائلة، أو انحدارها إلى درك الديكتاتورية، أو تفشي التمييز بكافة أشكاله، والعنصرية، والطائفية.
• لماذا اخترت الدقس «الدولفين» معادلاً موضوعياً للإنسان في روايتك الأخيرة الصادرة عن دار «كلمات»؟
•• بشكل مباشر ومختصر، أحاول نسج علاقة جديدة ما بين الإنسان وما عداه، فلا شيء يموت البتة، هناك علاقة متواصلة وأبدية، فالعلاقة المتبادلة المتوارية ما بين الإنسان وبقية الكائنات والأشياء، منتجة للأفكار الجديدة المتنوعة، وبطرفة عين فارقة قد تُهدم الحواجز الوهمية ما بين الوعي الإنساني وجدران الكون المفترضة.
الرواية في فصولها تسير وفق مسارين؛ أحدهما تدور فيه الأحداث اليومية والعلاقات المتشابكة ما بين الشخصيات بشكل ظاهر، والآخر باطني. إن ولادة «الدقس» هي انعكاس رمزي للسؤال الأزلي عن سر انبثاق الجنس البشري، والتحول إلى دولفين هو إجابة عن التحول العظيم الغامض بعد الموت، لم أعنِ التناسخ، ولكنها إجابة لنهاية المسار السردي، وبما أن الأجوبة متضاربة في ما يحدث للجسد البشري بعد الموت، فمن المبرر أن أطرح إجابتي الخاصة وفقا للمسار الطبيعي لأحداث الرواية في التوازي مع الإجابة الغامضة المعدة سلفا.
• الحياة مليئة بالمتناقضات، إلامَ ترمز جدلية اليابسة والبحر في رواية «الدقس»؟
•• لم يكن البحر سوى الهروب نحو الحرية، والبحث في الزمن الحاضر عن المستقبل، في المقابل مثلت اليابسة، الجمود، وبدت سجنا للجسد والحلم، وفي خضم هذه التناقضات تشكلت دوائر من التضادات على اليابسة ضمت الولادة والموت، الحب والكراهية.. وفي خط تصاعدي تصل تلك الأحلام والرغبات إلى نقطة النهاية، حيث يتوجب الاختيار ما بين تلك التناقضات، والبحث عن كوّة للنفاذ من أتون الصراع الذاتي الذي تمثله اليابسة، ليشرع البحر موجاته كنوافذ وأبواب للخلاص من الجسد، والتحول كإجابة مفتوحة عن سؤال لم يجب عنه أحد.
• أننتظر عما قريب رواية؟ أم مجموعة شعرية يا علي؟
•• الكتابة ليست ترفا أو اختيارا، لكنها عصارة الروح، وهي مغامرة مجهولة العواقب. وفي معظم الأحيان ينضج النص الشعري دفعة واحدة، بينما العمل السردي تراكمي وبطيء، في البدء يكون عبارة عن مجموعة من الأفكار المتفرقة، يتم تنسيقها وتنظيمها وفق مخطط معين. أحاول دوما أن أتخلص من آثار الأعمال السابقة قبل أن أبدأ في عمل جديد، سواء ما كتبتُه أنا أو قرأتُه للآخرين. أفتقد للتخطيط المنظم، والتسويق الذكي، وهما أمران مهمان لأي كاتب، أفتقد أيضا المراجعة الدقيقة وذلك أمر كارثي، يجب ألا يقع به المؤلف، وأحاول أن أطلق سجيتي مثل حصان برّي في مسافة الكلمات، وأشعر دوما أن هناك متسعا من السهول والمرتفعات العذراء، هناك مساحة خضراء لورقة بيضاء، وكلمات بملامح قوس قزح، أنا أقرب دوما للنص الشعري.