-A +A
محمد عبد الشافي ـ القاهرة
تعد مدينة (حلوان) إحدى المزارات السياحية في مصر، يقصدها السياح من مختلف بلاد العالم، باعتبارها مدينة الطبيعة والخيال، وباكورة السحر والجمال اختصها الله بجوٍ بديع، وطبيعة خلابة قادرة على جذب السواح وبالرغم من أن الأقدار ألمّت بها والزمان غدر بها، بصدور القرار الصعب بتحويلها إلى منطقة صناعية، إلاّ إنها احتضنت معالم أثرية فريدة من نوعها، يشتاق الناس لزيارتها، للتمتع بجمالها، ودقة إبداعها والاستفادة من تاريخها، والتزود بعلمٍ جديدٍ يرمز لحضارةِ شعب، وثقافة فنان، تتجلى في مَعْلمٍ انفردت به، ليس على مستوى مصر فقط، بل على مستوى الشرق الأوسط ألا وهو “متحف الشمع” الذي أنشأه الفنان المصري “فؤاد عبد الملك” عام 1934 في محاولة لتجسيد الأحداث التاريخية المصرية وإبراز أهميتها على المستويين العربي والعالمي.
متحف تاريخي تعليمي

يقول المهندس أحمد زغلول -مدير المتحف: إن هذا المتحف يعد متحفاً تاريخياً تعليمياً لأنه يحكي تاريخ مصر في شكل مُجسم من خلال تماثيل ولوحات خلفية تجعل له قدرة سياحية هائلة إلى جانب الاستفادة العلمية حيث أن طلبة المدارس والجامعات يُجرون أبحاثاً على تماثيله كما أنه يعطي فكرة تثقيفية بسيطة للمواطنين “قليلي” الثقافة عن التاريخ المصري والشخصيات المصرية الهامة، ويعد هذا المتحف رابع متحف على مستوى العالم، إضافة إلى متاحف فرنسا وانجلترا واستراليا، وهو المتحف الثاني على مستوى العالم من حيث الشهرة، وقد تم نقله ثلاث مرات من التحرير، إلي شارع القصر العيني، ثم إلى منطقة الواحة، وأخيراً في موقعه الحالي على مسافة مائة متر من محطة مترو عين حلوان، ويضم 116 تمثالاً و26 منظراً تحكي تاريخ مصر بدءاً من الأسرة 18 “فراعنة” حتى ثورة 23 يوليو.
ويضيف مدير المتحف: بأن تماثيل هذا المتحف مصنوعة من مادة الشمع التي تُعطي انطباعاً أقرب إلى ملامح الإنسان الطبيعية، فعندما تنظر إلى التمثال يُخيل إليك أنك تقف أمام إنسانٍ حقيقي نظراً لتشابه الملامح عكس المواد الأخرى التي تعكس طبيعتها، كما أن المادة الشمعية معالجة كيميائياً بحيث لا تتأثر بدرجة الحرارة كما يدخل في صناعة هذه التماثيل خامات أخرى مثل الحديد والزجاج لكن بنسبة بسيطة.
تجسيد التاريخ المصري القديم
وبعرض مدير المتحف أول هذه المناظر يظهر لنا تمثال الملك إمنحوتب الرابع أو إخناتون أو راعي الشمس المخلص لأتون وبجواره نجد تمثالاً لزوجته الملكة نفرتيتي صاحبة أجمل رأس وأجمل عيون! حيث كانت القوة الكامنة لإدارة البلاد وذلك في المعبد الذي أنشأه بتل العمارنة وبجوارهم تماثيل للواصفات الخاصات بالملكة وأمامهم تمثال للفرعون الطفل “توت عنخ آمون” أصغر ملك حكم مصر حيث كان في التاسعة من عمره ومن أشهر ملوك الفراعنة وتوفي وعمره 18 عاما حيث قُتل على يد الكهنة، وقد تم اكتشاف مقبرته 1922 على يد العالم الإنجليزي “هورد كارتر” وتضم ما يقرب من 5000 قطعة أثرية معظمها من الذهب وفي يسار اللوحة يوجد تمثال لقائد الجيش “حور محب” الذي نصّب نفسه ملكاً وتزوج من الأميرة “موت يخمت” ولا تنسى أن رأس إخناتون فوقها التاج الإلهي رمز المملكة وفي يده اليمنى مفتاح فرعون الذي يرمز إلى القوة والسيطرة وفي يده اليسرى الصولجان ويرمز إلى الخير والنماء وعلى جدران المعبد نجد مفتاح الحياة والمنظر كله صورة من معبد “آتون” لعبادة الشمس.
المنظر الثاني هو مصرع الملكة كليوباترا التي حكمت مصر وعمرها 16 عاماً بوصية من والدها الملك “بطليموس الثالث عشر” وتزوجت من الملك “مارك أنطونيو” الذي ذهب لمحاربة صديقه أكتافيوس في معركة أكتيوم البحرية، وهُزم وتم أسره وعندما عرفت كليوباترا خبر وفاته خافت أن تُرسل أسيرة إلي روما .. فطلبت من الخادمة الحبشية إحضار الثعبان “اجيت” رمز الخلود لكي تنتحر بواسطته، وفي أقصى يمين المنظر نجد كبير الكهنة يحاول علاجها، لكنه فشل! وفي يسار المنظر نجد الوصيفة المختصة بزينة “كليوباترا” وهي تعزف لها لحن الحزن على وفاتها وبوفاة هذه الملكة ينتهي عصر البطالمة في مصر.
المنظر الثالث يصف لنا المذبحة البشعة التي ارتكبها جنود الاحتلال الإنجليزي عام 1906 في قرية دنشواي حيث أعدموا شنقاً أربعمائة من أهل القرية أمام أقاربهم بسبب اعتقادهم أنهم السبب في موت جندي إنجليزي لقي مصرعه بضربة شمس.
أما اللوحة الرابعة يظهر فيها لنا الناصر صلاح الدين الأيوبي وهو يعالج “ريتشارد قلب الأسد” بعد أن تم أسره في معركة حطين الشهيرة وعودة بيت المقدس إلى العرب ليثبت له أن المسلمين يحبون السلام.
اللوحة الخامسة تعرض مقتل “كليبر” قائد الحملة الفرنسية 1798 على مصر بعد هروب نابليون حيث دخل الأزهر بالخيول، وقام بتعذيب الطلبة فتصدى له الطالب السوري “سليمان الحلبي” وقتله في حديقة قصره.
أمّا سادس المناظر يعرض الريف المصري والفلاح يروي أرضه بالشادوف وفي الخلف نجد تمثالاً لزوجته وهي تجهز له المياه والأكل.
اللوحة السابعة تبين نظام الحكم في القرية حيث يقوم “العمدة” بحل جميع المشاكل وبزي العمدة يجلس على الكنبة وأمامه أثنان من الفلاحين يعرضان مشكلتهما وفي الخلف اللوحة تمثال للخادمة التي تعمل في دوار العمدة وأخرى لفلاحة تتقدم إلى العمدة بمظلمة.
اللوحة الثامنة تصف نظام التعليم في القرية من خلال الكتّاب حيث ترى الشيخ يجلس على المصطبة يعلم الصغار القرآن وهم يجلسون على الأرض وبجوارهم تمثال لمساعد الشيخ ومن أشهر من تعلم في الكتّاب الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي وسيدة الغناء العربي “أم كلثوم”.
في المنظر التاسع نشاهد العروس في ليلة الحنه وهي ترتدي الفستان الأبيض وحولها لفيف من الحريم المنشدة والعازفة والراقصة والفرقة الموسيقية.
اللوحة العاشرة تعرض لنا مشهداً رائعاً للزعيم الراحل جمال عبد الناصر قائد ثورة يوليو وحوله تماثيل لكل طوائف الشعب التي تؤيده وتهتف بحياته.
وفي المنظر الحادي عشر ترى مشهداً جميلاًً للحياة الريفية، فتجد فلاحة تخبز العيش في الفرن وجارتها تساعدها وابنتها تتعلم صناعة الخبز، كما ترى زير المياه ومشنة العيش “والزلعة” لحفظ الجبن القديم.
ويصف أيمن الفرماوي -أمين المتحف- من خلال اللوحة الثانية عشرة نظام الزواج في العصر التركي، حيث نجد في هذه اللوحة الوسيط “الخاطبة” تجلس في المنتصف بين أم العروس وأم العريس لإتمام الزواج وخلفهم تمثال للخادم الحبشي، وكان يُطلق عليه الأغا وكان يُقطع لسانه حتى لا يبوح بأسرار الأسرة وتسمى هذه الحجرة الحرملك، أما الحجرة المجاورة فتقف العروس تستمع إلى هذا الاتفاق دون أن تجلس معهم.
ويضيف بأن اللوحة الثالثة عشر ة تصف شارعاً من أشهر شوارع مصر “شارع الخيامية” وسمي بهذا الاسم نظراً لأن أهله يقومون بصناعة الخيام وترجع شهرته إلى أن أهله كانوا يقومون بصناعة كسوة الكعبة المُشرفة، وكانت آخر كسوة من مصر إلى السعودية 1963 وكانت تخرج على هيئة “محمل” وهذا الشارع يوجد في حي الغورية أمام بوابة المتولي.
أمّا اللوحة الرابعة عشرة فتعرض القهوة البلدي حيث كان يجلس عليها “الراوي” وعازف الربابة لتسلية الزبائن بترديد المواويل القديمة مثل عنترة بن شداد وأبو زيد الهلالي سلامة.
اللوحة الخامسة عشرة، تصف ليالي رمضان عندما حضر المُعز لدين الله الفاطمي ليلاً إلى مصر وكانت الدنيا مظلمة وخرج الأهالي لاستقباله يحملون في أيديهم فوانيس صنعوها لإنارة الطريق له.
اللوحة السادسة عشرة تتجول بنا في الحي الشعبي القديم حيث نجد بعض الشخصيات الشعبية الشهيرة مثل بائع الحلوى الذي كان يسمى قديماً “نبوت الغفير” وبجواره القرد وخلفهم تمثال لتاجر العطارة وبجواره شيخ الحارة وأمامهم سيده مصرية ترتدي الملاية اللف والسقا الذي يحمل المياه إلى المنازل وإذا نظرنا لأعلى اللوحة نجد المشربية وهي شباك يطُل على الشارع وبها لوح توضع عليه “القُلل” أواني الماء ومن هنا سُميت “المشربية”.
رحلة ترفيهية وتثقيفية
ويؤكد الفرماوي- على صيانة هذه التماثيل واللوحات بشكل مستمر وتغيير ملابسها وتحريك الاضاءة بالمتحف وتكييفه وتتمثل الفئات التي تزور هذا المتحف في السواح العرب والأجانب والمواطنين المصريين إضافة إلى طلبة المدارس والجامعات الذين يركزون على الناحية العلمية من حيث دراسة تاريخ وصناعة هذه التماثيل وإجراء الأبحاث والدراسات عليها كما يوجد مرشدون تابعون للمتحف لتوضيح وشرح أي معلومة تخُص المتحف وتماثيله فهي رحلة من بدايتها إلى نهايتها ترفيهية تثقيفية.
مواقف طريفة وصعبة
وعن الطرائف والصعوبات التي صادفته خلال عمله في هذا المتحف يحكي لنا عن رحلة مدرسية بعد أن أنهت زيارتها للمتحف لم يجد أعضاء الرحلة أحد تلاميذها وبالبحث عنه وجدوه واقفاً بجوار أحد التماثيل ولم ينتبه إليه أحد نظراً لتقارب الملامح بينه وبين التمثال خاصة أنه ارتدى زياً يشبه زى التمثال والذي كشفه أن هذه اللوحة تحتوي على ثلاثة تماثيل رجلان وسيدة وبالنظر إليهم وجدوهم قد زادوا تمثالاً وعند لمس التلميذ أخذ يضحك بصوتٍ عالٍ!! والغريب أن الولد عاد مرة أخرى بصحبة والديه وأراد تكرار هذا الموقف وبسؤال والديه أجابوا بأنه يهوى التقليد ويعشق مثل هذه الآثار.
أمّا المواقف الصعبة فيروي الفرماوي بأنه أحياناً وبسبب الأمطار قد ينقطع التيار الكهربائي عن المتحف وقد لا يتواجد كهربائي فنقوم نحن الموظفين بإصلاحه وسط صراخ وعويل الزوار خاصة الأطفال والسيدات خوفاً من الظلام لأن ممرات المتحف ضيقة والضوء به ضعيف جداً.
وعن اختيار الشخصيات التي يتم تصميم تماثيل لها يكون ذلك على أساس دور هذه الشخصية وأهميته في خدمة المجتمع في أي مجال من مجالات الحياة.