ماذا أفدتُ من نجيب محفوظ؟
سؤالٌ لم أطرحه على نفسي من ذي قبل، وإن كنتُ لا شعوريًّا أخذتُ منه بعض أساليبه في التعامل مع الكتابة والقراءة والنقد والصحافة والوجود بحكم اقترابي منه لسنوات داخل «الأهرام» وخارجها.
كلٌّ له فلسفته في الحياة، ونظراته إلى الكتابة، وهناك ما يمكن التماسّ معه أو اكتسابه، وهناك ما لا يتوافق مع مزاجي الشخصي، فمحفوظ صارمٌ قاطعٌ منضبط ٌ، يصل في بعض المواقف إلى الحدَّة والصراخ -وهو في الأصل ليس كذلك- لكنه فعلها كثيرًا، وأنا فوضويٌّ منظم، أتبع قلبي وشطحي.
ومن ضمن ما اكتسبته من نجيب محفوظ -وهو كثيرٌ- الجملة المُوجزة المُركَّزة الكثيفة المُركَّبة المتخلصة من الشرح والتفسير والاستطراد، والعمل على دلالة إيقاع الكلام، وقد أفاده في ذلك قراءته العميقة للفلسفة بحكم دراسته الجامعية، والشِّعر الفارسي الذي قضى معه سنواتٍ من عمره، وقد جمعني به الاهتمام بتراث الأدب الفارسي شعرًا وتصوفًا، وقد تجلَّى ذلك في عمله الفريد «أصداء السيرة الذاتية»، التي أعتبرها عملًا تجريبيًّا جديدًا في الأدب الإنساني، وأظن أن نجيب محفوظ (11 ديسمبر 1911 - 30 أغسطس 2006) كان سينقصه الكثير لو لم يكتب هذا النص الفاتن، والعابر للجنس الأدبي، إذْ يجمع العمل بين الشِّعر والسرد والحكمة، في لغةٍ تحمل وتوحي بدلالات كثيرة.
كما اكتسبتُ منه الذهاب إلى المتون مباشرة، وقد أخذ عنه ذلك صديقي الكاتب الروائي جمال الغيطاني -وهو الوحيد الذي يمكن أن نقول عنه إنه المنضبط الأكبر بعد محفوظ في الكتابة والقراءة- لكنه اختلف عنه في أشياء كثيرة، كان السفر إلى العالم أبرزها، بينما محفوظ كان عزوفًا عن ركوب الجو والبر والبحر، وكنتُ وما زلت من مرتادي الطريق نحو معرفة الدنيا الواسعة، ولا شك أن عدم السَّفر عند نجيب محفوظ قد حرم كتابته الكثير من الجماليات، حيث أومن أن الكاتب هو ابن المسافة، والحركة، وليس ابنًا للإقامة والسُّكون.
وفي زيارةٍ لي إلى بيت نجيب محفوظ -وهو عادة لا يلتقي إلا المقربين في بيته (وأخذ عنه الغيطاني هذه العادة أو التقليد الاجتماعي)، لكنه كان يسمح لي بزيارته لأسبابٍ كثيرةٍ- فوجئتُ أنه يحتفظ بالكتب الكبرى في الثقافات والحضارات فقط، وتخلصه الدائم مما لا يُمْتِع أو يفيد، وقد تعلمتُ خلال تجربتي في الحياة، ألا أقتني إلا الكتب التي أريدها وأحتاجها وسترفد روحي وعقلي، وألا أكدِّس البيت بكتبٍ هامشيةٍ أو شروحيةٍ لا لزومَ لها، ولا يمكن أن تصمد أمام مصفاة الزمن، فبدأتُ في توزيعها وإخراجها من البيت، حتى تطور الأمر معي، ولم أعد أحمل معي كتبًا يرفضها عقلي، ويمجُّها ذوقي.
وربما من أكثر ما أفدتُ من نجيب محفوظ وأدونيس معًا في أمر سلوك الكاتب ألا أردَّ على شاتمٍ أو سبَّاب، وهم كثرٌ في حياتنا الثقافية العربية، وهؤلاء اعتادوا الشتيمة، بل يقتاتون عليها، ويسمنون، وفي نهاية التجربة لا يقدمون منجزًا، ورأيتُ محفوظ لا يأبه بنقض وليس نقد أحدهم له، وقد عانى كثيرًا خصوصًا قبل نيله جائزة نوبل في الآداب أكتوبر سنة 1988 ميلادية من المشتمة التي نصبها له ضِعاف النفوس والأقلام؛ لأن الانتباه للشاتم هو مضيعةُ للوقت، وهدرٌ للموهبة، ومنح الكارهين شرف الرد عليهم، وهم لا يستحقون بعضًا من حبر الدواة.
سؤالٌ لم أطرحه على نفسي من ذي قبل، وإن كنتُ لا شعوريًّا أخذتُ منه بعض أساليبه في التعامل مع الكتابة والقراءة والنقد والصحافة والوجود بحكم اقترابي منه لسنوات داخل «الأهرام» وخارجها.
كلٌّ له فلسفته في الحياة، ونظراته إلى الكتابة، وهناك ما يمكن التماسّ معه أو اكتسابه، وهناك ما لا يتوافق مع مزاجي الشخصي، فمحفوظ صارمٌ قاطعٌ منضبط ٌ، يصل في بعض المواقف إلى الحدَّة والصراخ -وهو في الأصل ليس كذلك- لكنه فعلها كثيرًا، وأنا فوضويٌّ منظم، أتبع قلبي وشطحي.
ومن ضمن ما اكتسبته من نجيب محفوظ -وهو كثيرٌ- الجملة المُوجزة المُركَّزة الكثيفة المُركَّبة المتخلصة من الشرح والتفسير والاستطراد، والعمل على دلالة إيقاع الكلام، وقد أفاده في ذلك قراءته العميقة للفلسفة بحكم دراسته الجامعية، والشِّعر الفارسي الذي قضى معه سنواتٍ من عمره، وقد جمعني به الاهتمام بتراث الأدب الفارسي شعرًا وتصوفًا، وقد تجلَّى ذلك في عمله الفريد «أصداء السيرة الذاتية»، التي أعتبرها عملًا تجريبيًّا جديدًا في الأدب الإنساني، وأظن أن نجيب محفوظ (11 ديسمبر 1911 - 30 أغسطس 2006) كان سينقصه الكثير لو لم يكتب هذا النص الفاتن، والعابر للجنس الأدبي، إذْ يجمع العمل بين الشِّعر والسرد والحكمة، في لغةٍ تحمل وتوحي بدلالات كثيرة.
كما اكتسبتُ منه الذهاب إلى المتون مباشرة، وقد أخذ عنه ذلك صديقي الكاتب الروائي جمال الغيطاني -وهو الوحيد الذي يمكن أن نقول عنه إنه المنضبط الأكبر بعد محفوظ في الكتابة والقراءة- لكنه اختلف عنه في أشياء كثيرة، كان السفر إلى العالم أبرزها، بينما محفوظ كان عزوفًا عن ركوب الجو والبر والبحر، وكنتُ وما زلت من مرتادي الطريق نحو معرفة الدنيا الواسعة، ولا شك أن عدم السَّفر عند نجيب محفوظ قد حرم كتابته الكثير من الجماليات، حيث أومن أن الكاتب هو ابن المسافة، والحركة، وليس ابنًا للإقامة والسُّكون.
وفي زيارةٍ لي إلى بيت نجيب محفوظ -وهو عادة لا يلتقي إلا المقربين في بيته (وأخذ عنه الغيطاني هذه العادة أو التقليد الاجتماعي)، لكنه كان يسمح لي بزيارته لأسبابٍ كثيرةٍ- فوجئتُ أنه يحتفظ بالكتب الكبرى في الثقافات والحضارات فقط، وتخلصه الدائم مما لا يُمْتِع أو يفيد، وقد تعلمتُ خلال تجربتي في الحياة، ألا أقتني إلا الكتب التي أريدها وأحتاجها وسترفد روحي وعقلي، وألا أكدِّس البيت بكتبٍ هامشيةٍ أو شروحيةٍ لا لزومَ لها، ولا يمكن أن تصمد أمام مصفاة الزمن، فبدأتُ في توزيعها وإخراجها من البيت، حتى تطور الأمر معي، ولم أعد أحمل معي كتبًا يرفضها عقلي، ويمجُّها ذوقي.
وربما من أكثر ما أفدتُ من نجيب محفوظ وأدونيس معًا في أمر سلوك الكاتب ألا أردَّ على شاتمٍ أو سبَّاب، وهم كثرٌ في حياتنا الثقافية العربية، وهؤلاء اعتادوا الشتيمة، بل يقتاتون عليها، ويسمنون، وفي نهاية التجربة لا يقدمون منجزًا، ورأيتُ محفوظ لا يأبه بنقض وليس نقد أحدهم له، وقد عانى كثيرًا خصوصًا قبل نيله جائزة نوبل في الآداب أكتوبر سنة 1988 ميلادية من المشتمة التي نصبها له ضِعاف النفوس والأقلام؛ لأن الانتباه للشاتم هو مضيعةُ للوقت، وهدرٌ للموهبة، ومنح الكارهين شرف الرد عليهم، وهم لا يستحقون بعضًا من حبر الدواة.