تضيف الحوارات النوعية معرفة للصحفي، وتثري قاموسه بالمصطلحات الأحدث، وتعزز العلاقة بالإبداع خصوصا إذا ما أذِنت لك بالحوار شخصية مكتنزة بحجم الشاعر التونسي منصف الوهايبي، المُشتغل في التعليم العالي (متميّز) بكلية الآداب والعلوم الانسانيّة بسوسة (تونس)، ورئيس كرسي الأدب التونسي بها، وعضو قارّ بالمجمع العلمي التونسي للعلوم والآداب والفنون: بيت الحكمة، وهذه محاولة ثانية، للحوار، وهنا مجمل ما ورد فيه:
• كيف حال الشِّعر العربي؟
•• في مقال للشاعر الراحل سعدي يوسف، منشور بمجلّة «الفيصل» السعوديّة (أغسطس 2016) وصف عامّ لحال الشعر في البلاد العربيّة، لكنّه دقيق إجمالا، وإن احتاج إلى قدر من تنسيب الحكم. وحاصله أنّ المشهد الحالي «مشوّش، غير مستقرّ، بل باهت...» بالرغم من إقراره أنّ الشعر لا يزال ديوان العرب. ولا أخفيك أنّي أشاطره الرأي، ليس لأنّه استثنى الشعر التونسي، كما قد يقع في الظنّ، إذ ذكر أنّ «الحركة الشعريّة في تونس الآن هي الأعمق والأبهى في المشهد الشعريّ العربيّ»، وتمثّل بي (وهي شهادة أعتزّ بها لا شكّ)، وإنّما لأنّ «الصورة كابية» بعبارته، لأسباب ومسوّغات، أشار إليها سعدي في خطف كالنبض، وهو يحصي مميّزات الشعريّة الجاهليّة، مثل ماديّة الصورة واستعمال الاسم الجامد لا المشتقّ أو «السائل»، والإقلال من الفضلة، وعقد العلاقة مع الطبيعة ومع «أنا» لا نحن. وهذه تحتاج إلى بسطة في القول، لا يتّسع لها هذا الحوار. ولكنّي على إقراري بـ«عظمة» الشعر الجاهلي، وهو الذي يجاذب «الإلياذة» و«الأوديسا» مكانتهما، فضلا عن أنّه «أمّ» العربيّة، وهي التي تدين له بنحوها وصرفها ومجازاتها وسائر لطائفها، لا أحبّ أن أجعل منه حجابا على أوجه الاختلاف بين مراحل الشعر العربي في شرق البلاد العربيّة وغربها. فحال شعرنا اليوم، لا تدرك في سياق الزمنيّة الخطية، وإنّما في سياق الزمنيّة الشعريّة. وهذه لا تتوزّع إلى ماض وحاضر ومستقبل، وإنّما هي حاضر أبديّ، ولا يحتاج الشعراء بموجبها إلى أن يعيدوا إحياء «الموتى» فهم حاضرون في قصائدهم، وهم يحاورونهم باستمرار.
وأكثر شعرنا اليوم، يفتقد هذا «الحوار» حتى يكون منشدّا إلى نفسه مثلما هو منشدّ إلى سابقه بل لاحقه، إذ هو ينشأ «قرائيّا». والقراءة نفسها استئناف لإنشائيّة الأثر، والأثر الشعري هو في صميمه ذو طبيعة «قرائيّة»، فهو لا ينشأ كتابة أو تشكيلا أو تنغيما. ثمّ يُقرأ، إنّما هو ينشأ منذ البداية قرائيّا، ينشأ وهو يَقْرأ موادّه وخاماتِه وكلّ ما يدور في فضائه، لكنّه يقرؤه أساسا بحسب ما تمليه عليه طبيعة جنسه، وبحسب ما يستعيره من عناصر من تراثه، أو من الأجناس الأخرى، أو المؤثّرات التي ألمّت به.
• هل أنت راضٍ عن الشعراء؟
•• لي أصدقاء كثْرٌ، سواء في البلاد العربيّة، أو في أوروبا. وأتابع تجاربهم، وأكتب عنهم أحيانا، وأنقل كلّ ما تيسّر من نصوصهم التي تشدّني إلى العربيّة. على أنّ قراءة بعضهم ليست دائما قراءة متعة، وإنّما هي قراءة واجب. وليس في طبعي أن أجلس مجلس المتنفّذين أو المحكّمين، فأحكم على الشعراء أو لهم، وأنا نفسي لست راضيا عن نفسي في كلّ هذا الشعر الذي أكتبه.
• أين ذهب وهج النصوص التي تتناقلها النخب العربية من المحيط للخليج؟
•• هذا يقتضي بحثا مستفيضا في هذه النصوص التي تحتفظ بها الذاكرة، وفي دواعي حفظها وتناقلها. وبعضها أو ربّما أكثرها جزء من تاريخنا السياسي والاجتماعي، وليس الإبداعي.
• ما أسباب ما جرى وما يجري للقصيدة؟
•• المشكل في كثير من الشعر اليوم، غياب الذات الكاتبة، وكأنْ لا حياة لمن يكتب، بل لا أثر، حتى تشابهت النصوص، وكأنّ شعراءنا يكتبون بأصابع واحدة. بل ينسون أنّ مجال الشعريّة ليس اللغة، وإنّما الكلام وهو عمل الفرد ومنجزه، وطريقته في استجلاب المعاني الحافّة هي التي يتصرّف المجاز بمقتضاها. وهي التي تحدّ مقبوليّة النصّ من عدمها. وليس أدلّ على ذلك قديما من عبارتهم المأثورة «استعارة صحيحة» و«استعارة حسنة» و«استعارة رديئة» و«استعارة قبيحة» و«استعارة قريبة المأخذ» و«استعارة بعيدة المأخذ»، فالخلاف في هذه الأحكام إنّما مردّه إلى هذه المعاني الحافّة التي تغْتذي من التّجارب الفرديّة الخاصّة والتّجارب الجماعيّة العامّة، حيث يكون للكلمة وقع عند بعض، هو غيره عند بعض. وقد يرجع الشعر إلى معان حافّة خاصّة به أو إلى «فضل معنى» في المقول، قد يتقبّله قارئ، وقد يشيح عنه آخر.
• لماذا تراجعت ذائقتنا الشعرية؟
•• لا أدري تحديدا، ولكنّ مردّ هذا «التراجع» هو إجمالا إلى قلّة محصول من الشعر، ومن الثقافة، وربّما إلى «ارتباك» ما في منظوماتنا التعليميّة. وحتى أتحمّل مسؤوليّة كلامي، أذكر لك وللقراء الكرام، أني جرّبت مثل غيري «قصيدة البيت» ولا أقول القصيدة العموديّة لأنّها تسمية غير دقيقة، فعمود الشعر هو نظريّة الشعر عند العرب، وليس شكل القصيدة. ولكنّي أحبّ أن أكتب داخل شعريّة الوزن «التفعيلة» لأنّ الوزن ليس حلية خارجيّة كما يتوهّم البعض من شعراء «قصيدة النثر»، وإنّما هو من كنه بنية العربيّة ونظامها الصرفي. والعربيّة لغة رياضيّة تكاد كلّ أوزانها ترجع إلى «الجذر التربيعي»، بما في ذلك الأسماء الجامدة التي أدار عليها شعراء الجاهليّة الأفذاذ قصائدهم، أو الأسماء المشتقّة أو «السائلة». وهذا الوزن مشرع على كلّ إمكانات الشعر، إذا كان الشاعر متمرّسا به وبلطائفه. و«قصيدة النثر» في تقديري، إنّما تكتب داخل أوزان الشعر العربي. أمّا «قصيدة البيت» اليوم لا القديمة، فهي قصيدة «باب بدفّتين» كما قال لي محمود درويش مازحا، إذ اللغة فيها تخبر عن نفسها، بذات القدر الذي تخبر به عن تمثّل لحقيقة موجودة سلفا أو لمعنى قائم في العالم، وشهادة لنظام ما للكون، مرتّب ملموس. والإقرار بهذا لا يعدو رؤية مثاليّة تتصوّر الانسان موجودا في نظام خارج نطاق سيطرته، وإن لم يكن خارج نطاق قدرته على تنظيمه. وقد تكون القصيدة «العموديّة المعاصرة» صورة من هذه «الارتداد» شكلا لا مضمونا، وردّا على «قصيدة الباب الدوّار» كما أحبّ أن اسمّي هذا النمط من «الكتابة» السائبة المنساحة التي يرى فيها البعض إحالة وفساد معنى، أو إفراطا في استخدام اللغة واستهانة بقواعدها وأنساقها.
وقلّما تنبّه هذا الطرف أو ذاك إلى أنّ «العدول»، إنّما هو القصد. ولولا القصد لاستوتْ أقاويل الكتّاب والشّعراء، بأغاليط الأطفال وهلوسات المجانين اللغويّة. فلعلّ الشعراء قبل القرّاء هم الذين يتحمّلون «تراجع» الذائقة الشعريّة.
• أي القصائد وأي الشعراء جديرون بالخلود؟ ومتى يستعيد الشعر مجده؟ وبماذا؟
•• هل الشعر الباقي غير لغة حتّى وهي مقتصَدَة تقول تفاصيل اليوميّ؟ تقولها مثلما يقول الرّسم ذلك وتقولها مثلما يقول السّردُ ذلك. ولا أحبّ بهذا أن أقول إنّ القصيدة لوحة تشكيليّة، وإنّما فيها من مقتضيات التّشكيل البصريّ وإن بتمثّل لغويّ، فاللّوحة هي أيضا تكثيف، وربّما تكون حتّى أكثر تكثيفا من القصيدة فمهما اتّسعت مساحة القماشة فإنّها محدودة فلا تفلت من الحقل البصريّ، لكنّها جزئيات وتفاصيل، بل وأشياء مبتذلة قد لا ننتبه إليها في معهود سلوكنا اليوميّ. لأقل إنّ الشعر يسترجع مجده، عندما يطعّم اللغة ويغنيها، ولا يسترضي الجمهور أو يمالقه.
• لو لم تكن شاعرا ماذا كنت تتمنى أن تكون؟
•• ليس من عادتي أن أفترض على الماضي، والافتراض إنّما يكون على المستقبل، كلّما كان استشرافا. على أنّي ربّما كنت روائيّا، خاصّة أنّني جرّبت الرواية في ثلاث محاولات، فازت إحداها وهي «عشيقة آدم» بأكبر جائزة تمنح للرواية في تونس وهي «الكومار الذهبي».
• هل جنت الفنون البصرية على النص الشعري؟
•• أواكب المشهد الشعري العالمي منذ سنوات بعيدة، من خلال اللغة الفرنسيّة، أو بعض ما هو مترجم إلى العربيّة، ممّا أثق فيه. والشعر الغربي قديما وحديثا، لا يجري على منوال واحد، وشتّان مثلا بين الشعر الفرنسي الذي أعرفه أكثر، والشعر الإسباني أو البرتغالي وقد تعرّفت إلى أهمّ رموزه، خلال السنوات القليلة الماضية، إذا جمعتني الصداقة ببعض الشاعرات والشعراء مثل روزا أليس برنكو ونونو جوديس على سبيل المثال، ونقلت نماذج من شعرهما وشعر غيرهما إلى العربيّة، كما في كتابي «ما ينقص الأخضر ليكون شجرة» (تونس 2002) و«نخلة القيروان» (بورتو/ البرتغال 2003). ففي الشعر الفرنسي اليوم، تحضر أكثر التجربة اللغويّة التي ترقى إلى نوع من اللعب بالمعنى الجمالي للكلمة، وفي الشعر البرتغالي تحضر تجربة الحياة والمعيش واليومي. وقس على ذلك الشعر الألماني والإنجليزي حيث يحضر العمق الميتافيزيقي، وقضايا الإنسان الكبرى. وعلى ضرورة تنسيب الحكم، لأنّ الأمر يحتاج إلى شواهد وأمثلة دقيقة، لا يتّسع لها هذا الحيّز، أقول إنّ الشعر الغربي عامّة تتعالق فيه الفنون جميعها وخاصّة الرسم والموسيقى. وقد يقول القائل: وكيف؟ ولكلّ من الشعر والرسم مثلا لغته، ولكلّ عالمه المميّز. فكيف لهما إذن أن ينضمّا ويندمجا؟ فإذا سوّغنا أنّ هذا بإمكانهما، فأين موقعه: عمل الشاعر أم عمل الرسّام؟ بل هل يمكن أن نعقد حوارا بين هذين الفنّين أو التعبيرين؟ في هذا السياق، وأنا أحتاج هنا إلى مثال دقيق، حتى لا يظلّ كلامي فضفاضا، أقول قد يصعب ألا نتذكّر الفرنسي روني شار، سواء في شعره أو في كتاباته عن الرسم. وهو الشاعر الذي يبني الصورة على نحو ما يستخدم الرّسام «الدّخلة» أي مزج الألوان وتخليطها، ليأخذ منها لونا آخر.
• ما رأيك بالنص المؤدلج والمسيّس؟
•• لعلّ مصطلح «الالتزام» أدلّ وأنمّ على «النصّ المؤدلج والمسيّس». وقد يتهيّأ للبعض أنّ الالتزام الأدبي مفهوم ولّى زمانه، وأنّ الأدب عاد إلى عالمه الجمالي الخاصّ، وأنّ مداره اليوم على الذات في أخصّ خصائصها. والحقّ أنّ من يتابع الدراسات والمباحث الحديثة، يلاحظ كيف أنّ هذا المفهوم لا يزال مثار جدل وسجال كبيرين، وأنّ الأسئلة بشأنه لم تنقطع: فباسم ماذا يلتزم الشاعر؟ وباسم من؟ وهل يعرف الشاعر حقّا الجمهور الذي يتوجّه إليه بأدبه، أو الذين يعتبرونه لسان حالهم؟ وكيف؟
والالتزام وليس الأيديولوجيا، هو الذي يعزو إلى الأدب واجب التدخّل المباشر في شؤون العالم وأشيائه وحالاته أي في «ما لا يعنيه» بعبارة سارتر، وإلزام الكاتب مغادرة وضع العزلة المريح القائم على «الصفائيّة» الجماليّة (ولعلّها أدق نسبة إلى الصفاء من صفويّة نسبة إلى الصفوة) أي الحرص المفرط على صفاء اللغة والأسلوب. والكاتب أو الشاعر أو المبدع عامّة «ملتزم» كلّما كان واعيا بكونه مورّطا، فينقل من ثمّة الالتزام من العفويّ إلى التبصّر. والحقّ أنا أميل إلى الكاتب أو الشاعر الذي يختار موقفه أي عصره، بدلا من أن يختاره العصر. وشتّان بين «الأيديولوجيا» وهي وهم، والالتزام وهو محكوم بالمخاطرة والمجهول أو اللامتوقّع.
• كيف ترى تهافت الشعراء على الجوائز؟ وما مردود الجائزة الإيجابي على الشعر؟
•• حصلت شخصيّا على أكثر من جائزة تونسيّة وعربيّة (عكاظ والبابطين وجائزة الشيخ زايد للكتاب، وكنت أولّ شاعر يفوز بها، إذ هي أسندت ولا تزال للرواية).. والحقّ هي جوائز ذات بعد رمزي لا أظنّه يخفى إلاّ عن الذين يترشّحون لهذه الجوائز، حتى إذا لم يحالفهم الحظّ، انقلبوا يشتمون اللجان، ويشكّكون في مصداقيّة الجائزة. عيار أيّة جائزة هو بعدها الرمزي، وما ينطوي عليه من اعتراف بالعمل الأدبي، ومن ثمّة التشجيع على قراءته ونشره. وأمّا القيمة الماليّة فهي تساعد لا شكّ المبدعين على التحرّر من كثير من ضغوط الحياة الماديّة، وتتيح لهم أن يتفرّغوا للإبداع والكتابة وإغناء الحياة الثقافيّة.
• هل عوّض الشعراء العرب غياب نزار ودرويش وسميح والجواهري وغيرهم من شعراء كانوا ملء أسماع وأبصار العالم العربي؟
•• هم شعراء استثنائيّون، وسأكون صريحا، إذ لا أحبّ أن أضفي أيّة قداسة على أيّ منهم.
فالقصائد الحماسيّة المثيرة للعواطف عند الجواهري مثلا أو نزار قبّاني (وأستثني قصائده التي نقلتنا من غرض الغزل بسننه وأعرافه، إلى موضوع الحبّ في علاقته باليومي والمعيش) أو سميح القاسم أو حتى محمود درويش في تجربته الأولى، أي تلك التي تسعى إلى إشراك الشعر في السجالات والمناقشات السياسيّة والاجتماعيّة، لا يمكن إلاّ أن تصدر عن رؤية قد تنزل بالشعر في نماذج غير قليلة سهل الأباطح. وهذا لا يعني أنّي أسوّغ ما يسمّى «الاكتفاء الذاتي للأدب» أو حصر الشعر في مجرّد نشاط شكلانيّ. والحقّ أنا استثني سعدي يوسف وأدونيس وخاصّة درويش، ففي تجربته منذ «الجداريّة» نكتشف في الشعر قدرته على تغيير العالم، وعلى تحرير نفسه أيضا من الأيديولوجيا.
ما أخلص إليه هو أنّ الموقف من هؤلاء الشعراء، وأنا لا أحبّ كلّ نصوصهم، والجواهري مثلا على جلال قدره، إنّما شعريّة نصّه من «شعريّة المناول»، ومن الوشائج التي تعقدها بالفضاء العامّ، حتى وهي تنفصل عنه، حيث تكون في«الخارج» و«الداخل» في ذات الآن، إذ لا ينسى الجواهري نفسه، تماما كما يفعل المتنبّي، عندما يكون في حلّ من الإلزامات أو الإكراهات الاجتماعيّة أو السياسيّة. وقد غاب هؤلاء كما سنغيب نحن، ولا أحد يعوّض أحدا، أو هو يحلّ محلّه.
• أين النقد من الحركة الشعرية المعاصرة؟
•• أقدّر أنّ النقد عندنا غاب أو يكاد، وقد حلّ محلّه البحث الجامعي الأكاديمي. وشتّان بينهما، فالنقد عمل فرديّ ورؤية واختيار، وخبرة وتمرّس أو مراس، وهو من ثمّة سلطة، وأمّا البحث فعمل يشارك فيه الطالب الباحث والأستاذ المشرف، وهو يعدّ للجنة علميّة، وليس للجمهور أو للقرّاء عامّة. وبإمكان أيّ طالب ان يكون باحثا، لكن ليس بميسوره أن يكون ناقدا، بالمعنى الذي ذكرته. ومشكلة الشعر العربي اليوم، أنّ الذين «يُعنون» به هم من الباحثين الذين تتفاوت بحوثهم من حيث القيمة والإضافة، وليسوا من النقّاد.
• ألا تظن أن المجاملات والمطامع أضعفت مكانة النقد؟
•• تحديدا لا أدري. ولعلّ الأصوب حتى لا نحمل الأمر على «سوء الطويّة» أو «النوايا»، أنّ «ضعف» النقد مثل «ضعف» البحث أيضا، يرجع في جانب كبير منه إلى «تردّي» الذائقة، وعدم التمييز بين النصّ «القويّ» والنصّ «الضعيف» أو«المتهافت». والذائقة ليست مجرّد انطباعات أو ارتسامات، وإنّما هي محصّلة خبرة ومراس.
• ما أثر الثقافة العربية اليوم على الوعي؟
•• قد يكون أثرا محدودا، فالثقافة العربيّة اليوم «ثقافات»، ولم يعد لها من الأريحيّة ما يمنحنا التواصل الحر المبنيّ على الإرادة الواعية، أي التواصل الذي نتعلّم منه جميعا أن الثقافات لا تُغتصَب ولا يمكن إخضاعها لأي نوع من التّلقيح القسري. فقد تلاقت في الأندلس ثقافات شتى ذات أصول إسلامية ومسيحيّة ويهوديّة... في أفق من «عالميّة» رحبة قائمة على التّنوّع، حتى أن البعض يجد في الأندلس نواة تاريخيّة ونموذجا مكتملا لثقافة المستقبل وامتدادا للإطار الكونيّ في جذوره الأقدم في فينيقيا واليونان ومصر. فعسى أن نتعلّم من هذه الثقافة.. عسى.
• مم يخشى منصف الوهايبي على الإبداع؟
•• الإبداع عمل فردي، وعلى قدر ما نخلص له يخلص لنا. فلا خشية على الإبداع إلاّ من أنفسنا.
• كيف حال الشِّعر العربي؟
•• في مقال للشاعر الراحل سعدي يوسف، منشور بمجلّة «الفيصل» السعوديّة (أغسطس 2016) وصف عامّ لحال الشعر في البلاد العربيّة، لكنّه دقيق إجمالا، وإن احتاج إلى قدر من تنسيب الحكم. وحاصله أنّ المشهد الحالي «مشوّش، غير مستقرّ، بل باهت...» بالرغم من إقراره أنّ الشعر لا يزال ديوان العرب. ولا أخفيك أنّي أشاطره الرأي، ليس لأنّه استثنى الشعر التونسي، كما قد يقع في الظنّ، إذ ذكر أنّ «الحركة الشعريّة في تونس الآن هي الأعمق والأبهى في المشهد الشعريّ العربيّ»، وتمثّل بي (وهي شهادة أعتزّ بها لا شكّ)، وإنّما لأنّ «الصورة كابية» بعبارته، لأسباب ومسوّغات، أشار إليها سعدي في خطف كالنبض، وهو يحصي مميّزات الشعريّة الجاهليّة، مثل ماديّة الصورة واستعمال الاسم الجامد لا المشتقّ أو «السائل»، والإقلال من الفضلة، وعقد العلاقة مع الطبيعة ومع «أنا» لا نحن. وهذه تحتاج إلى بسطة في القول، لا يتّسع لها هذا الحوار. ولكنّي على إقراري بـ«عظمة» الشعر الجاهلي، وهو الذي يجاذب «الإلياذة» و«الأوديسا» مكانتهما، فضلا عن أنّه «أمّ» العربيّة، وهي التي تدين له بنحوها وصرفها ومجازاتها وسائر لطائفها، لا أحبّ أن أجعل منه حجابا على أوجه الاختلاف بين مراحل الشعر العربي في شرق البلاد العربيّة وغربها. فحال شعرنا اليوم، لا تدرك في سياق الزمنيّة الخطية، وإنّما في سياق الزمنيّة الشعريّة. وهذه لا تتوزّع إلى ماض وحاضر ومستقبل، وإنّما هي حاضر أبديّ، ولا يحتاج الشعراء بموجبها إلى أن يعيدوا إحياء «الموتى» فهم حاضرون في قصائدهم، وهم يحاورونهم باستمرار.
وأكثر شعرنا اليوم، يفتقد هذا «الحوار» حتى يكون منشدّا إلى نفسه مثلما هو منشدّ إلى سابقه بل لاحقه، إذ هو ينشأ «قرائيّا». والقراءة نفسها استئناف لإنشائيّة الأثر، والأثر الشعري هو في صميمه ذو طبيعة «قرائيّة»، فهو لا ينشأ كتابة أو تشكيلا أو تنغيما. ثمّ يُقرأ، إنّما هو ينشأ منذ البداية قرائيّا، ينشأ وهو يَقْرأ موادّه وخاماتِه وكلّ ما يدور في فضائه، لكنّه يقرؤه أساسا بحسب ما تمليه عليه طبيعة جنسه، وبحسب ما يستعيره من عناصر من تراثه، أو من الأجناس الأخرى، أو المؤثّرات التي ألمّت به.
• هل أنت راضٍ عن الشعراء؟
•• لي أصدقاء كثْرٌ، سواء في البلاد العربيّة، أو في أوروبا. وأتابع تجاربهم، وأكتب عنهم أحيانا، وأنقل كلّ ما تيسّر من نصوصهم التي تشدّني إلى العربيّة. على أنّ قراءة بعضهم ليست دائما قراءة متعة، وإنّما هي قراءة واجب. وليس في طبعي أن أجلس مجلس المتنفّذين أو المحكّمين، فأحكم على الشعراء أو لهم، وأنا نفسي لست راضيا عن نفسي في كلّ هذا الشعر الذي أكتبه.
• أين ذهب وهج النصوص التي تتناقلها النخب العربية من المحيط للخليج؟
•• هذا يقتضي بحثا مستفيضا في هذه النصوص التي تحتفظ بها الذاكرة، وفي دواعي حفظها وتناقلها. وبعضها أو ربّما أكثرها جزء من تاريخنا السياسي والاجتماعي، وليس الإبداعي.
• ما أسباب ما جرى وما يجري للقصيدة؟
•• المشكل في كثير من الشعر اليوم، غياب الذات الكاتبة، وكأنْ لا حياة لمن يكتب، بل لا أثر، حتى تشابهت النصوص، وكأنّ شعراءنا يكتبون بأصابع واحدة. بل ينسون أنّ مجال الشعريّة ليس اللغة، وإنّما الكلام وهو عمل الفرد ومنجزه، وطريقته في استجلاب المعاني الحافّة هي التي يتصرّف المجاز بمقتضاها. وهي التي تحدّ مقبوليّة النصّ من عدمها. وليس أدلّ على ذلك قديما من عبارتهم المأثورة «استعارة صحيحة» و«استعارة حسنة» و«استعارة رديئة» و«استعارة قبيحة» و«استعارة قريبة المأخذ» و«استعارة بعيدة المأخذ»، فالخلاف في هذه الأحكام إنّما مردّه إلى هذه المعاني الحافّة التي تغْتذي من التّجارب الفرديّة الخاصّة والتّجارب الجماعيّة العامّة، حيث يكون للكلمة وقع عند بعض، هو غيره عند بعض. وقد يرجع الشعر إلى معان حافّة خاصّة به أو إلى «فضل معنى» في المقول، قد يتقبّله قارئ، وقد يشيح عنه آخر.
• لماذا تراجعت ذائقتنا الشعرية؟
•• لا أدري تحديدا، ولكنّ مردّ هذا «التراجع» هو إجمالا إلى قلّة محصول من الشعر، ومن الثقافة، وربّما إلى «ارتباك» ما في منظوماتنا التعليميّة. وحتى أتحمّل مسؤوليّة كلامي، أذكر لك وللقراء الكرام، أني جرّبت مثل غيري «قصيدة البيت» ولا أقول القصيدة العموديّة لأنّها تسمية غير دقيقة، فعمود الشعر هو نظريّة الشعر عند العرب، وليس شكل القصيدة. ولكنّي أحبّ أن أكتب داخل شعريّة الوزن «التفعيلة» لأنّ الوزن ليس حلية خارجيّة كما يتوهّم البعض من شعراء «قصيدة النثر»، وإنّما هو من كنه بنية العربيّة ونظامها الصرفي. والعربيّة لغة رياضيّة تكاد كلّ أوزانها ترجع إلى «الجذر التربيعي»، بما في ذلك الأسماء الجامدة التي أدار عليها شعراء الجاهليّة الأفذاذ قصائدهم، أو الأسماء المشتقّة أو «السائلة». وهذا الوزن مشرع على كلّ إمكانات الشعر، إذا كان الشاعر متمرّسا به وبلطائفه. و«قصيدة النثر» في تقديري، إنّما تكتب داخل أوزان الشعر العربي. أمّا «قصيدة البيت» اليوم لا القديمة، فهي قصيدة «باب بدفّتين» كما قال لي محمود درويش مازحا، إذ اللغة فيها تخبر عن نفسها، بذات القدر الذي تخبر به عن تمثّل لحقيقة موجودة سلفا أو لمعنى قائم في العالم، وشهادة لنظام ما للكون، مرتّب ملموس. والإقرار بهذا لا يعدو رؤية مثاليّة تتصوّر الانسان موجودا في نظام خارج نطاق سيطرته، وإن لم يكن خارج نطاق قدرته على تنظيمه. وقد تكون القصيدة «العموديّة المعاصرة» صورة من هذه «الارتداد» شكلا لا مضمونا، وردّا على «قصيدة الباب الدوّار» كما أحبّ أن اسمّي هذا النمط من «الكتابة» السائبة المنساحة التي يرى فيها البعض إحالة وفساد معنى، أو إفراطا في استخدام اللغة واستهانة بقواعدها وأنساقها.
وقلّما تنبّه هذا الطرف أو ذاك إلى أنّ «العدول»، إنّما هو القصد. ولولا القصد لاستوتْ أقاويل الكتّاب والشّعراء، بأغاليط الأطفال وهلوسات المجانين اللغويّة. فلعلّ الشعراء قبل القرّاء هم الذين يتحمّلون «تراجع» الذائقة الشعريّة.
• أي القصائد وأي الشعراء جديرون بالخلود؟ ومتى يستعيد الشعر مجده؟ وبماذا؟
•• هل الشعر الباقي غير لغة حتّى وهي مقتصَدَة تقول تفاصيل اليوميّ؟ تقولها مثلما يقول الرّسم ذلك وتقولها مثلما يقول السّردُ ذلك. ولا أحبّ بهذا أن أقول إنّ القصيدة لوحة تشكيليّة، وإنّما فيها من مقتضيات التّشكيل البصريّ وإن بتمثّل لغويّ، فاللّوحة هي أيضا تكثيف، وربّما تكون حتّى أكثر تكثيفا من القصيدة فمهما اتّسعت مساحة القماشة فإنّها محدودة فلا تفلت من الحقل البصريّ، لكنّها جزئيات وتفاصيل، بل وأشياء مبتذلة قد لا ننتبه إليها في معهود سلوكنا اليوميّ. لأقل إنّ الشعر يسترجع مجده، عندما يطعّم اللغة ويغنيها، ولا يسترضي الجمهور أو يمالقه.
• لو لم تكن شاعرا ماذا كنت تتمنى أن تكون؟
•• ليس من عادتي أن أفترض على الماضي، والافتراض إنّما يكون على المستقبل، كلّما كان استشرافا. على أنّي ربّما كنت روائيّا، خاصّة أنّني جرّبت الرواية في ثلاث محاولات، فازت إحداها وهي «عشيقة آدم» بأكبر جائزة تمنح للرواية في تونس وهي «الكومار الذهبي».
• هل جنت الفنون البصرية على النص الشعري؟
•• أواكب المشهد الشعري العالمي منذ سنوات بعيدة، من خلال اللغة الفرنسيّة، أو بعض ما هو مترجم إلى العربيّة، ممّا أثق فيه. والشعر الغربي قديما وحديثا، لا يجري على منوال واحد، وشتّان مثلا بين الشعر الفرنسي الذي أعرفه أكثر، والشعر الإسباني أو البرتغالي وقد تعرّفت إلى أهمّ رموزه، خلال السنوات القليلة الماضية، إذا جمعتني الصداقة ببعض الشاعرات والشعراء مثل روزا أليس برنكو ونونو جوديس على سبيل المثال، ونقلت نماذج من شعرهما وشعر غيرهما إلى العربيّة، كما في كتابي «ما ينقص الأخضر ليكون شجرة» (تونس 2002) و«نخلة القيروان» (بورتو/ البرتغال 2003). ففي الشعر الفرنسي اليوم، تحضر أكثر التجربة اللغويّة التي ترقى إلى نوع من اللعب بالمعنى الجمالي للكلمة، وفي الشعر البرتغالي تحضر تجربة الحياة والمعيش واليومي. وقس على ذلك الشعر الألماني والإنجليزي حيث يحضر العمق الميتافيزيقي، وقضايا الإنسان الكبرى. وعلى ضرورة تنسيب الحكم، لأنّ الأمر يحتاج إلى شواهد وأمثلة دقيقة، لا يتّسع لها هذا الحيّز، أقول إنّ الشعر الغربي عامّة تتعالق فيه الفنون جميعها وخاصّة الرسم والموسيقى. وقد يقول القائل: وكيف؟ ولكلّ من الشعر والرسم مثلا لغته، ولكلّ عالمه المميّز. فكيف لهما إذن أن ينضمّا ويندمجا؟ فإذا سوّغنا أنّ هذا بإمكانهما، فأين موقعه: عمل الشاعر أم عمل الرسّام؟ بل هل يمكن أن نعقد حوارا بين هذين الفنّين أو التعبيرين؟ في هذا السياق، وأنا أحتاج هنا إلى مثال دقيق، حتى لا يظلّ كلامي فضفاضا، أقول قد يصعب ألا نتذكّر الفرنسي روني شار، سواء في شعره أو في كتاباته عن الرسم. وهو الشاعر الذي يبني الصورة على نحو ما يستخدم الرّسام «الدّخلة» أي مزج الألوان وتخليطها، ليأخذ منها لونا آخر.
• ما رأيك بالنص المؤدلج والمسيّس؟
•• لعلّ مصطلح «الالتزام» أدلّ وأنمّ على «النصّ المؤدلج والمسيّس». وقد يتهيّأ للبعض أنّ الالتزام الأدبي مفهوم ولّى زمانه، وأنّ الأدب عاد إلى عالمه الجمالي الخاصّ، وأنّ مداره اليوم على الذات في أخصّ خصائصها. والحقّ أنّ من يتابع الدراسات والمباحث الحديثة، يلاحظ كيف أنّ هذا المفهوم لا يزال مثار جدل وسجال كبيرين، وأنّ الأسئلة بشأنه لم تنقطع: فباسم ماذا يلتزم الشاعر؟ وباسم من؟ وهل يعرف الشاعر حقّا الجمهور الذي يتوجّه إليه بأدبه، أو الذين يعتبرونه لسان حالهم؟ وكيف؟
والالتزام وليس الأيديولوجيا، هو الذي يعزو إلى الأدب واجب التدخّل المباشر في شؤون العالم وأشيائه وحالاته أي في «ما لا يعنيه» بعبارة سارتر، وإلزام الكاتب مغادرة وضع العزلة المريح القائم على «الصفائيّة» الجماليّة (ولعلّها أدق نسبة إلى الصفاء من صفويّة نسبة إلى الصفوة) أي الحرص المفرط على صفاء اللغة والأسلوب. والكاتب أو الشاعر أو المبدع عامّة «ملتزم» كلّما كان واعيا بكونه مورّطا، فينقل من ثمّة الالتزام من العفويّ إلى التبصّر. والحقّ أنا أميل إلى الكاتب أو الشاعر الذي يختار موقفه أي عصره، بدلا من أن يختاره العصر. وشتّان بين «الأيديولوجيا» وهي وهم، والالتزام وهو محكوم بالمخاطرة والمجهول أو اللامتوقّع.
• كيف ترى تهافت الشعراء على الجوائز؟ وما مردود الجائزة الإيجابي على الشعر؟
•• حصلت شخصيّا على أكثر من جائزة تونسيّة وعربيّة (عكاظ والبابطين وجائزة الشيخ زايد للكتاب، وكنت أولّ شاعر يفوز بها، إذ هي أسندت ولا تزال للرواية).. والحقّ هي جوائز ذات بعد رمزي لا أظنّه يخفى إلاّ عن الذين يترشّحون لهذه الجوائز، حتى إذا لم يحالفهم الحظّ، انقلبوا يشتمون اللجان، ويشكّكون في مصداقيّة الجائزة. عيار أيّة جائزة هو بعدها الرمزي، وما ينطوي عليه من اعتراف بالعمل الأدبي، ومن ثمّة التشجيع على قراءته ونشره. وأمّا القيمة الماليّة فهي تساعد لا شكّ المبدعين على التحرّر من كثير من ضغوط الحياة الماديّة، وتتيح لهم أن يتفرّغوا للإبداع والكتابة وإغناء الحياة الثقافيّة.
• هل عوّض الشعراء العرب غياب نزار ودرويش وسميح والجواهري وغيرهم من شعراء كانوا ملء أسماع وأبصار العالم العربي؟
•• هم شعراء استثنائيّون، وسأكون صريحا، إذ لا أحبّ أن أضفي أيّة قداسة على أيّ منهم.
فالقصائد الحماسيّة المثيرة للعواطف عند الجواهري مثلا أو نزار قبّاني (وأستثني قصائده التي نقلتنا من غرض الغزل بسننه وأعرافه، إلى موضوع الحبّ في علاقته باليومي والمعيش) أو سميح القاسم أو حتى محمود درويش في تجربته الأولى، أي تلك التي تسعى إلى إشراك الشعر في السجالات والمناقشات السياسيّة والاجتماعيّة، لا يمكن إلاّ أن تصدر عن رؤية قد تنزل بالشعر في نماذج غير قليلة سهل الأباطح. وهذا لا يعني أنّي أسوّغ ما يسمّى «الاكتفاء الذاتي للأدب» أو حصر الشعر في مجرّد نشاط شكلانيّ. والحقّ أنا استثني سعدي يوسف وأدونيس وخاصّة درويش، ففي تجربته منذ «الجداريّة» نكتشف في الشعر قدرته على تغيير العالم، وعلى تحرير نفسه أيضا من الأيديولوجيا.
ما أخلص إليه هو أنّ الموقف من هؤلاء الشعراء، وأنا لا أحبّ كلّ نصوصهم، والجواهري مثلا على جلال قدره، إنّما شعريّة نصّه من «شعريّة المناول»، ومن الوشائج التي تعقدها بالفضاء العامّ، حتى وهي تنفصل عنه، حيث تكون في«الخارج» و«الداخل» في ذات الآن، إذ لا ينسى الجواهري نفسه، تماما كما يفعل المتنبّي، عندما يكون في حلّ من الإلزامات أو الإكراهات الاجتماعيّة أو السياسيّة. وقد غاب هؤلاء كما سنغيب نحن، ولا أحد يعوّض أحدا، أو هو يحلّ محلّه.
• أين النقد من الحركة الشعرية المعاصرة؟
•• أقدّر أنّ النقد عندنا غاب أو يكاد، وقد حلّ محلّه البحث الجامعي الأكاديمي. وشتّان بينهما، فالنقد عمل فرديّ ورؤية واختيار، وخبرة وتمرّس أو مراس، وهو من ثمّة سلطة، وأمّا البحث فعمل يشارك فيه الطالب الباحث والأستاذ المشرف، وهو يعدّ للجنة علميّة، وليس للجمهور أو للقرّاء عامّة. وبإمكان أيّ طالب ان يكون باحثا، لكن ليس بميسوره أن يكون ناقدا، بالمعنى الذي ذكرته. ومشكلة الشعر العربي اليوم، أنّ الذين «يُعنون» به هم من الباحثين الذين تتفاوت بحوثهم من حيث القيمة والإضافة، وليسوا من النقّاد.
• ألا تظن أن المجاملات والمطامع أضعفت مكانة النقد؟
•• تحديدا لا أدري. ولعلّ الأصوب حتى لا نحمل الأمر على «سوء الطويّة» أو «النوايا»، أنّ «ضعف» النقد مثل «ضعف» البحث أيضا، يرجع في جانب كبير منه إلى «تردّي» الذائقة، وعدم التمييز بين النصّ «القويّ» والنصّ «الضعيف» أو«المتهافت». والذائقة ليست مجرّد انطباعات أو ارتسامات، وإنّما هي محصّلة خبرة ومراس.
• ما أثر الثقافة العربية اليوم على الوعي؟
•• قد يكون أثرا محدودا، فالثقافة العربيّة اليوم «ثقافات»، ولم يعد لها من الأريحيّة ما يمنحنا التواصل الحر المبنيّ على الإرادة الواعية، أي التواصل الذي نتعلّم منه جميعا أن الثقافات لا تُغتصَب ولا يمكن إخضاعها لأي نوع من التّلقيح القسري. فقد تلاقت في الأندلس ثقافات شتى ذات أصول إسلامية ومسيحيّة ويهوديّة... في أفق من «عالميّة» رحبة قائمة على التّنوّع، حتى أن البعض يجد في الأندلس نواة تاريخيّة ونموذجا مكتملا لثقافة المستقبل وامتدادا للإطار الكونيّ في جذوره الأقدم في فينيقيا واليونان ومصر. فعسى أن نتعلّم من هذه الثقافة.. عسى.
• مم يخشى منصف الوهايبي على الإبداع؟
•• الإبداع عمل فردي، وعلى قدر ما نخلص له يخلص لنا. فلا خشية على الإبداع إلاّ من أنفسنا.