يتساءل الكاتب والمترجم والباحث في الأديان والفلسفة خالد الغنامي عن المثقف من هو؟! ويرى أنّنا لم نقدم أي جديد على الصعيد الفكري والإبداعي، وأنّ بيئتنا لم تكن مناسبة لإنتاج هذا الجديد، ويؤكد أنّ الصحوة كرّست عقدة الذنب في نفوس الناس وأشبعتهم بعقدة الخطيئة، ولا يرى مشكلة في تغير الأفكار والقناعات لدى كاتب أسبوعي يكتب منذ عشرين عاماً؛ لأنّ التغيّر -كما يقول- هو الأصل، لكنه يمقت التلوّن الذي يميل بموجبه الكاتب مع الرياح أنّى مالت ويطالب بإدانة هؤلاء المتلونين، إضافة إلى الكثير من الموضوعات والقضايا كالفلسفة والتصوف وصحويته التي نفاها وقال إنّ هناك من يكذب عليه.. فإلى نصّ الحوار:
• ابتداء، لماذا كانت التحولات الفكرية لديك كثيرة؟
•• لا أراها كثيرة. ثم إن المشكلة ليست في أن تتغير أفكار من يقرأ ويكتب، خصوصاً عندما يكون الحديث عمن يكتب بصفة أسبوعية منذ عشرين سنة في الصحف السعودية والخليجية، ويدخل في أنواع مختلفة من الصراع مع التيارات الفكرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. حين نفهم نظرية التطور جيداً ودخولها في كل شيء في حياتنا، عندما نتصور الديالكتيك الذي يحكم الحياة، أي أن كل فكرة سيخرج من رحمها فكرة نقيضة للأولى، وستتصارعان ليخرج من الصراع مركب من الفكرتين يتصف بأفضل ما في الاثنتين، فعندها سندرك أن التغير هو الأصل وهو الشيء الطبيعي. يحدث هذا في كل لحظة للعالم ويحدث في الإنسان نفسه، فهذا الغبار المتراكم على مكتبك جزء كبير منه هو بقايا خلاياك الميتة. 70% من غبار منزلك هو من خلاياك. هناك مليون خلية من خلايا جسمك تموت وتسقط في كل يوم، فكيف تتوقع ألا تتغير أفكارك؟! زد على هذا أن من يقرأ ويعيش تجارب غيره المبثوثة في الكتب والصحف ومواقع التواصل، لا بد أن يسبب له الاحتكاك تأثرا. التغير طبيعي، لكن تبقى قضية واحدة لا بد من إدانتها، إلا وهي قضية «التلوّن»، أعني بالمتلوّن ذلك الكاتب أو الإعلامي الانتهازي الذي يميل مع الرياح حيث تميل بهدف تحقيق مصالح شخصية صغيرة حتى إن كان ذلك على حساب الوطن أو القيم الأخلاقية. الذي أعرفه عن نفسي أنني منذ بدأت في الكتابة في جريدة الوطن التي ما زلت أحفظ لها الفضل عليّ منذ سنة 2000 إلى هذه اللحظة كنت أكتب بإخلاص لوطني، ولم أحد عن ذلك شبراً. لكننا ابتلينا في زمن الصحوة بمن يكفروننا ويخرجوننا من الدين بسبب خلافات فقهية، ثم ابتلينا بتكفير من نوع جديد في السنوات الماضية، حين زعم بعضهم -سامحهم الله- أنني قد تحوّلت إلى صحوي، رغم أن هذا لم يحدث قط، فقد كنت أتقدم باستمرار ولم أتراجع قط. الرغبة الصوفية في التصالح فسرت تفسيراً غير صحيح على الإطلاق ونسي الرفاق عِشرة عشرين سنة يعلمون فيها جيداً ما كابدت وواجهت. ثم هدأ كل ذلك وانتهى. التزمت وضيق الأفق هما سبب التكفير الأول وهما سبب «التخوين» أو التكفير الجديد.
• هل ترى أنّ الفلسفة ضرورة؟
•• بلا شك، مشكلة الفلسفة أنها هي الأخرى عانت من التكفير والملاحقة، مع أنها لا تعني شيئاً آخر سوى السعي العقلي لمعرفة القوانين العامة للوجود من خلال التفكير الإنساني ومن خلال عملية المعرفة، وهذا ما يصنع في النهاية وعياً اجتماعياً وتحديداً لعلاقة الفكر بالوجود، وتكويناً لنظرة عامة مستقلة للعالم ودراسة عناصره وقوانينه العامة. الفلسفة هي العلم الذي كان يقوم على العقل والملاحظة ثم أضيفت له التجربة فيما بعد، وعندما نتحدث عن فلسفة التاريخ فالمقصود هو الدراسة العقلية للتاريخ، وعندما نتحدث عن فلسفة اللغة فالمقصود هو الدراسة العقلية للغة، وعندما نتحدث عن فلسفة الدين فالمقصود هو الدراسة العقلية للدين، وهكذا. المشكلة كانت ولا تزال تكمن في الخوف من العقل، كيف أخاف من العقل والله هو من رزقني هذا العقل؟ ولو فرضنا أن العقل زلت به القدم، أتصور أن باب المسامحة سيكون مشرعاً، إذ لا مؤاخذة هنا، فالعقل من الله.
• تقول إنّ الصورة النمطية للتصوف شوهت التصوف بالنسبة لنا كمسلمين «سلفيين».. هل يعني هذا أنّ التصوّف حلّ جذري لمشكلاتنا؟
•• ليس حلاً جذرياً لجميع المشكلات، ففايروس كورونا يحتاج إلى لقاح، وهذا ما فعلته أنا وعائلتي من أول يوم. لا يمكن لعاقل أن يذهب للتصوف هنا. مثلما أن القرآن الكريم ليس بكتاب فيزياء ولا يجوز إدخاله في صراع النظريات الفلكية، فإن التصوف لا يصلح لأن تتحدى به الأمراض، هو فقط حل للمشكلات الروحية وطريق للخلاص. على سبيل المثال، في أمريكا اليوم ارتفعت أسهم شعر الصوفية وفلسفاتهم وأصبح الإنسان العادي يعرف ابن عربي والغزالي والحلاج والعطار الخ. في بلادنا، ما زالت أسهم التصوف منخفضة الثمن، بل لعلها أبعد البلدان عنه. الناس عندنا لا يتخيلون الصوفيين إلا مجموعة من الناس يحسنون الرقص، أو يلبسون الصوف ويسيحون في الصحراء، وهذا كله سوء فهم. والمتصوفة يلامون بدورهم عليه. هناك ثلاثة أصناف من المتصوفة؛ متصوفة «أرزاق» أي يسيرون في طريق التصوف لكي يشفق عليهم الناس ويطعمونهم، وهؤلاء جماعة من العاطلين لا أكثر، وهناك متصوفة «رسوم» أي انشغلوا بالرسم والهيئة وخشونة اللبس واللحية، أي انشغلوا بالمظاهر. وهناك متصوفة «حقائق» وهؤلاء هم من عاشوا التجربة الصوفية بحق وعرفوا السلام الداخلي الذي يتوق إليه كل إنسان. ترسخت الصورة السابقة لأن أصحاب الحقائق قليل كلامهم غارقون في متعتهم الروحية.
• ما رأيك في المثقف السعودي؟
•• العبارة نفسها غامضة «مثقف». ماذا تعني كلمة مثقف؟ إذا كانت الثقافة تعني الفكر هنا، فأعطني مثقفاً سعودياً تقدم بفكرة أصيلة لم يسبقه إليها أحد. أعطني شعراء للفصحى غير الثبيتي والقصيبي تتكرر أبياتهم على الألسن كحال الشعر الشعبي. لنكن صادقين مع أنفسنا نحن لم نقدم أي جديد على الصعيد الفكري والإبداعي وبيئتنا لم تكن مناسبة لإنتاجه. دعنا نكرر السؤال، من هو المثقف عندنا؟ دعنا نقول إن الأشياء تعرف بأضدادها، وإن «المثقفين» هم الرجال والنساء الذين يقرؤون ويملكون من الوعي ما جعلهم يدركون أن «الصحوة» لم تكن على حق، فكان لهم رأي مغاير لما طرحته حول الدين والحياة، سواء أسموا أنفسهم ليبراليين أو يساريين. اليوم ظهر زيف الصحوة وانهار بناؤها وعرف أبناؤها قبل غيرهم أن البناء كان هشّاً للغاية ولم يكن صادقاً. قلة من المتدينين الصادقين، وكثرة من الانتهازيين الكذابين الذين ارتكبوا جرائم حقيقية بحق الناس، جرائم بشعة من كل نوع، تبدأ من تحريض المراهق على قتل أمه وأبيه، وتنتهي بإتعاس شعب كامل قضى ثلاثين سنة من عمره في السواد يشم رائحة الموت في كل لحظة ويسمع أحاديث العذاب في كل ثانية. الصحوة كرست عقدة الذنب في نفوس الناس وأشبعتهم بعقدة الخطيئة، بغرض الهيمنة عليهم، لكي يبحث الناس عندهم عن الخلاص. المثقفون هم من تصدى لبيان حقيقة هؤلاء وهذا شيء يحمد لهم، لكن بعد زوال الصحوة، اتضح أن بناء الثقافة بدوره كان هشّاً، فالمثقفون السعوديون لم يقدموا شيئاً على الإطلاق، لا شيء سوى مجموعة من الأشخاص الفقراء فكرياً، يجري تكريمهم بين الحين والآخر، وكأنهم هم الثقافة. ألوم هنا الإعلام بصفة عامة فهو الذي صنع فكرة «المثقف الصنم» صنم لا يختلف كثيراً عن رموز الصحوة، فمثقف الثمانينات حداثي قشوري وقد قال كل ما عنده ولا يمكن لشيء أن يبعث فيه الحياة من جديد بعد نهاية الصحوة التي كانت سبب مجده. بيئتنا في السابق كانت طاردة وغير منتجة، وإذا كنا نريد لعالم الفكر والثقافة أن يزدهر في بلادنا مواكباً نهضتها القائمة الآن، فلا بد من التأسيس الجديد لثقافة سعودية جديدة بحيث تترك الكلمة لجيل الشباب لكي يقول كلمته دون أن نمارس عليه الأستاذية. نحن بحاجة لنهضة فكرية شاملة تنطلق من الترجمة، ككل الأمم التي نجحت، فالمرحلة التي نعيش فيها هي مرحلة الترجمة. إذا أردنا حقاً أن نخرج من مأزقنا الثقافي الحالي حين نتأمل أننا لم نقل شيئاً أصيلاً على الإطلاق، فإن الحل هو أن يقضي المثقفون الشباب وقتاً كافياً يمارسون فيه الصمت والترجمة وقراءة المترجَمات، فترة الصمت هذه ستصقل عدسات الرؤية، وبعد انقضاء زمن كافٍ سنرى الإبداع السعودي في شتى المجالات الفلسفية والأدبية والفنية والشعرية.
• كتابك جواز صلاة الرجل في بيته أحدث أثراً كبيراً وردود أفعال كبيرة، لكنك تبرأت منه وعدت لتؤكد حضوره وصحة ما فيه.. ألا ترى أنك تتناقض كثيراً في هذا؟
•• لم يحدث قط أن تبرأت من كتابي «جواز صلاة الرجل في بيته» لا في السر ولا في العلانية. هناك أناس يكذبون علي ويقوّلونني أشياء لم أقلها أبداً. كتاب «جواز صلاة الرجل في بيته» على درجة عالية من الأهمية بالنسبة لي لأنه ارتبط بقصة معاناة طويلة مع بيئة الرأي الواحد ومجتمع متزمت دينياً، ويعرف الإخوة في وزارة الإعلام كم بذلت وتحملت بسببه من الأذى والتهديد بالأذى والتهديد بالفصل من التعليم، بسبب محاولاتي أن يُطبع في السعودية وأن يصل لكل مواطن من أبناء المملكة، وما زلت وبكل إصرار أحاول أن أحقق هذا الهدف، وسوف يتحقق. الدين والإيمان والصلاة لا تكون أبداً إلا بالرغبة والاختيار والإرادة الحقيقية، ولا يمكن أن يتحقق أدنى مقدار منها بالعصا والإكراه.
• هل أنت متفائل بدخول الفلسفة في التعليم العام؟
•• قرأت كتاب «التفكير الناقد» الذي أصبح منهجاً يدرّس في التعليم العام، وهو عبارة عن نسخة حديثة لكتب المنطق التي تدرس في العالم العربي والإسلامي منذ ألف سنة، لكنها -بلا شك- خطوة جيدة تشكر عليها وزارة التعليم. ثم إنني عبرت عن هذا الامتنان للوزارة عبر صفحتي في (تويتر)، وتقدمت باقتراح على الوزارة بأن يتم تدريس «نظرية المعرفة» (الإبستمولوجيا) في المرحلة الثانوية من التعليم العام. «نظرية المعرفة» هي خلاصة الفلسفة وزبدتها. هل يمكن أن نعرف؟ ماذا يمكن أن نعرف؟ ما طبيعة المعرفة؟ ما أدواتنا المعرفية؟ ما المنهج العقلي؟ ما المنهج التجريبي؟ نظريّة المعرفة تهدف إلى تحقيق الوعي اللازم لفهم المعارف ضمن إطار الواقع والوصول إلى اليقين فالمعرفة بالشيء تقتضي التيقُّن منه وإزاحة الشكوك فيه، حتى نصل إلى إدراك حقيقته. لو دُرست نظرية المعرفة في التعليم العام، فسنرى أي جيل سعودي علمي التفكير سيخرج للعالم.
• العادات كما ترى تحولت لدينا إلى دين.. لماذا؟
•• العادة يا أخي طاغوت، طغيان لا يفوقه طغيان. خذ مثلاً قضية الصلاة عبر المايكروفون، فعندما وصل المايكروفون لبلادنا أول مرة، اقترح البعض أن يكون الأذان للصلاة عبر المايكروفون، فقامت قيامة الناس ولم تقعد، واعتبروا ذلك بدعة مضللة وكل ضلالة في النار، ثم تعود الناس على سماع الأذان بالمايكروفون والصلاة أيضاً، ومنذ أشهر لما قررت الوزارة أن توقف نقل الصلاة بالمايكروفون قامت قيامة الناس من جديد. كيف أصبح المايكروفون بدعة؟ كيف تحول المايكروفون إلى دين؟ كيف تحول إلغاء استخدامه إلى دين؟ كل هذا اسأل عنه العادة، ذلك الطاغوت الرهيب الذي يقف حجر عثرة دائماً أمام أي تطور.
• لديك اهتمام بالترجمة، ولك كتب في هذا، ولكنها ما زالت جهوداً فردية.. ماذا تنتظر كمترجم من وزارة الثقافة في هذا الشأن؟
•• الترجمة بالنسبة لي هي مشروعي الثقافي. هناك مترجم يترجم لأن هذا مصدر رزقه ولا عيب في ذلك، وهناك مترجم يترجم لأنه يريد أن يقول شيئاً. أنا أقول أشياء وأشياء من خلال الترجمة. من يقرأ بلغة أوروبية لا بد أن يشعر بالخجل من معظم ما يكتب بالعربية. العرب لا يقولون شيئاً جديداً، فكل ما يكتبونه ويتباهون به في معارض الكتب هو ترجمة سواء اعترفوا بذلك أم وضعوا أسماءهم على تلك الكتب وكأنها من تأليفهم. هذا ما يجب أن نعيه، نحن في عصر الاتباع وسيأتي فيما بعد عصر الإبداع ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نحرق المراحل. يخرج كتاب عن علم الجهل ويحتفي به الناس وكأن صاحبنا هو من كتبه وجاء به من بنيّات أفكاره، ثم يكتشف الناس أن الكتب في علم الجهل بالإنجليزية أكثر من أن تحصى. ثم إنك عندما تكتب فإنك لا تدري صدقاً إن كان ما تكتبه هو فعلا من تحليلاتك الفلسفية والسياسية والعلمية، أم أنه مما علق بذاكرتك مما قرأته لغيرك. لكل ذلك أجد أن الترجمة مجال أكثر صدقاً ونزاهة.
• ماذا ينتظر المترجم من وزارة الثقافة؟
•• بلا شك المترجمون بحاجة لمن يدعمهم ويفرغهم لهذه المهنة العظيمة النبيلة، فهي تحتاج إلى أن يبقى المترجم وقتاً طويلاً في بيته. وقد كان لفايروس كورونا وأيام حظر التجول فضل كبير عليّ فقد أنجزت فيه ثلاثة كتب دفعة واحدة، كتاب «تعاليم المتصوفة» وكتاب «طريق الزن» وكتاب «نظريات اللذة من أبيقور إلى سبنسر» والأخير لم ينشر بعد.
• الأفكار والقناعات التي تتغير بالنسبة لنا.. لماذا نرى الإعلان عنها عيباً ونخجل من ذلك؟
•• بالنسبة لي أنا لا أخجل من ذلك. تخرجت من جامعة الملك سعود قسم اللغة الإنجليزية شاباً عادياً بلا اهتمامات تذكر. ثم انخرطت في عالم الصحوة، ثم الليبرالية، ثم تصالحت مع كل من يهمني أمرهم وتوجهت إلى عالم التصوف.
• ابتداء، لماذا كانت التحولات الفكرية لديك كثيرة؟
•• لا أراها كثيرة. ثم إن المشكلة ليست في أن تتغير أفكار من يقرأ ويكتب، خصوصاً عندما يكون الحديث عمن يكتب بصفة أسبوعية منذ عشرين سنة في الصحف السعودية والخليجية، ويدخل في أنواع مختلفة من الصراع مع التيارات الفكرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. حين نفهم نظرية التطور جيداً ودخولها في كل شيء في حياتنا، عندما نتصور الديالكتيك الذي يحكم الحياة، أي أن كل فكرة سيخرج من رحمها فكرة نقيضة للأولى، وستتصارعان ليخرج من الصراع مركب من الفكرتين يتصف بأفضل ما في الاثنتين، فعندها سندرك أن التغير هو الأصل وهو الشيء الطبيعي. يحدث هذا في كل لحظة للعالم ويحدث في الإنسان نفسه، فهذا الغبار المتراكم على مكتبك جزء كبير منه هو بقايا خلاياك الميتة. 70% من غبار منزلك هو من خلاياك. هناك مليون خلية من خلايا جسمك تموت وتسقط في كل يوم، فكيف تتوقع ألا تتغير أفكارك؟! زد على هذا أن من يقرأ ويعيش تجارب غيره المبثوثة في الكتب والصحف ومواقع التواصل، لا بد أن يسبب له الاحتكاك تأثرا. التغير طبيعي، لكن تبقى قضية واحدة لا بد من إدانتها، إلا وهي قضية «التلوّن»، أعني بالمتلوّن ذلك الكاتب أو الإعلامي الانتهازي الذي يميل مع الرياح حيث تميل بهدف تحقيق مصالح شخصية صغيرة حتى إن كان ذلك على حساب الوطن أو القيم الأخلاقية. الذي أعرفه عن نفسي أنني منذ بدأت في الكتابة في جريدة الوطن التي ما زلت أحفظ لها الفضل عليّ منذ سنة 2000 إلى هذه اللحظة كنت أكتب بإخلاص لوطني، ولم أحد عن ذلك شبراً. لكننا ابتلينا في زمن الصحوة بمن يكفروننا ويخرجوننا من الدين بسبب خلافات فقهية، ثم ابتلينا بتكفير من نوع جديد في السنوات الماضية، حين زعم بعضهم -سامحهم الله- أنني قد تحوّلت إلى صحوي، رغم أن هذا لم يحدث قط، فقد كنت أتقدم باستمرار ولم أتراجع قط. الرغبة الصوفية في التصالح فسرت تفسيراً غير صحيح على الإطلاق ونسي الرفاق عِشرة عشرين سنة يعلمون فيها جيداً ما كابدت وواجهت. ثم هدأ كل ذلك وانتهى. التزمت وضيق الأفق هما سبب التكفير الأول وهما سبب «التخوين» أو التكفير الجديد.
• هل ترى أنّ الفلسفة ضرورة؟
•• بلا شك، مشكلة الفلسفة أنها هي الأخرى عانت من التكفير والملاحقة، مع أنها لا تعني شيئاً آخر سوى السعي العقلي لمعرفة القوانين العامة للوجود من خلال التفكير الإنساني ومن خلال عملية المعرفة، وهذا ما يصنع في النهاية وعياً اجتماعياً وتحديداً لعلاقة الفكر بالوجود، وتكويناً لنظرة عامة مستقلة للعالم ودراسة عناصره وقوانينه العامة. الفلسفة هي العلم الذي كان يقوم على العقل والملاحظة ثم أضيفت له التجربة فيما بعد، وعندما نتحدث عن فلسفة التاريخ فالمقصود هو الدراسة العقلية للتاريخ، وعندما نتحدث عن فلسفة اللغة فالمقصود هو الدراسة العقلية للغة، وعندما نتحدث عن فلسفة الدين فالمقصود هو الدراسة العقلية للدين، وهكذا. المشكلة كانت ولا تزال تكمن في الخوف من العقل، كيف أخاف من العقل والله هو من رزقني هذا العقل؟ ولو فرضنا أن العقل زلت به القدم، أتصور أن باب المسامحة سيكون مشرعاً، إذ لا مؤاخذة هنا، فالعقل من الله.
• تقول إنّ الصورة النمطية للتصوف شوهت التصوف بالنسبة لنا كمسلمين «سلفيين».. هل يعني هذا أنّ التصوّف حلّ جذري لمشكلاتنا؟
•• ليس حلاً جذرياً لجميع المشكلات، ففايروس كورونا يحتاج إلى لقاح، وهذا ما فعلته أنا وعائلتي من أول يوم. لا يمكن لعاقل أن يذهب للتصوف هنا. مثلما أن القرآن الكريم ليس بكتاب فيزياء ولا يجوز إدخاله في صراع النظريات الفلكية، فإن التصوف لا يصلح لأن تتحدى به الأمراض، هو فقط حل للمشكلات الروحية وطريق للخلاص. على سبيل المثال، في أمريكا اليوم ارتفعت أسهم شعر الصوفية وفلسفاتهم وأصبح الإنسان العادي يعرف ابن عربي والغزالي والحلاج والعطار الخ. في بلادنا، ما زالت أسهم التصوف منخفضة الثمن، بل لعلها أبعد البلدان عنه. الناس عندنا لا يتخيلون الصوفيين إلا مجموعة من الناس يحسنون الرقص، أو يلبسون الصوف ويسيحون في الصحراء، وهذا كله سوء فهم. والمتصوفة يلامون بدورهم عليه. هناك ثلاثة أصناف من المتصوفة؛ متصوفة «أرزاق» أي يسيرون في طريق التصوف لكي يشفق عليهم الناس ويطعمونهم، وهؤلاء جماعة من العاطلين لا أكثر، وهناك متصوفة «رسوم» أي انشغلوا بالرسم والهيئة وخشونة اللبس واللحية، أي انشغلوا بالمظاهر. وهناك متصوفة «حقائق» وهؤلاء هم من عاشوا التجربة الصوفية بحق وعرفوا السلام الداخلي الذي يتوق إليه كل إنسان. ترسخت الصورة السابقة لأن أصحاب الحقائق قليل كلامهم غارقون في متعتهم الروحية.
• ما رأيك في المثقف السعودي؟
•• العبارة نفسها غامضة «مثقف». ماذا تعني كلمة مثقف؟ إذا كانت الثقافة تعني الفكر هنا، فأعطني مثقفاً سعودياً تقدم بفكرة أصيلة لم يسبقه إليها أحد. أعطني شعراء للفصحى غير الثبيتي والقصيبي تتكرر أبياتهم على الألسن كحال الشعر الشعبي. لنكن صادقين مع أنفسنا نحن لم نقدم أي جديد على الصعيد الفكري والإبداعي وبيئتنا لم تكن مناسبة لإنتاجه. دعنا نكرر السؤال، من هو المثقف عندنا؟ دعنا نقول إن الأشياء تعرف بأضدادها، وإن «المثقفين» هم الرجال والنساء الذين يقرؤون ويملكون من الوعي ما جعلهم يدركون أن «الصحوة» لم تكن على حق، فكان لهم رأي مغاير لما طرحته حول الدين والحياة، سواء أسموا أنفسهم ليبراليين أو يساريين. اليوم ظهر زيف الصحوة وانهار بناؤها وعرف أبناؤها قبل غيرهم أن البناء كان هشّاً للغاية ولم يكن صادقاً. قلة من المتدينين الصادقين، وكثرة من الانتهازيين الكذابين الذين ارتكبوا جرائم حقيقية بحق الناس، جرائم بشعة من كل نوع، تبدأ من تحريض المراهق على قتل أمه وأبيه، وتنتهي بإتعاس شعب كامل قضى ثلاثين سنة من عمره في السواد يشم رائحة الموت في كل لحظة ويسمع أحاديث العذاب في كل ثانية. الصحوة كرست عقدة الذنب في نفوس الناس وأشبعتهم بعقدة الخطيئة، بغرض الهيمنة عليهم، لكي يبحث الناس عندهم عن الخلاص. المثقفون هم من تصدى لبيان حقيقة هؤلاء وهذا شيء يحمد لهم، لكن بعد زوال الصحوة، اتضح أن بناء الثقافة بدوره كان هشّاً، فالمثقفون السعوديون لم يقدموا شيئاً على الإطلاق، لا شيء سوى مجموعة من الأشخاص الفقراء فكرياً، يجري تكريمهم بين الحين والآخر، وكأنهم هم الثقافة. ألوم هنا الإعلام بصفة عامة فهو الذي صنع فكرة «المثقف الصنم» صنم لا يختلف كثيراً عن رموز الصحوة، فمثقف الثمانينات حداثي قشوري وقد قال كل ما عنده ولا يمكن لشيء أن يبعث فيه الحياة من جديد بعد نهاية الصحوة التي كانت سبب مجده. بيئتنا في السابق كانت طاردة وغير منتجة، وإذا كنا نريد لعالم الفكر والثقافة أن يزدهر في بلادنا مواكباً نهضتها القائمة الآن، فلا بد من التأسيس الجديد لثقافة سعودية جديدة بحيث تترك الكلمة لجيل الشباب لكي يقول كلمته دون أن نمارس عليه الأستاذية. نحن بحاجة لنهضة فكرية شاملة تنطلق من الترجمة، ككل الأمم التي نجحت، فالمرحلة التي نعيش فيها هي مرحلة الترجمة. إذا أردنا حقاً أن نخرج من مأزقنا الثقافي الحالي حين نتأمل أننا لم نقل شيئاً أصيلاً على الإطلاق، فإن الحل هو أن يقضي المثقفون الشباب وقتاً كافياً يمارسون فيه الصمت والترجمة وقراءة المترجَمات، فترة الصمت هذه ستصقل عدسات الرؤية، وبعد انقضاء زمن كافٍ سنرى الإبداع السعودي في شتى المجالات الفلسفية والأدبية والفنية والشعرية.
• كتابك جواز صلاة الرجل في بيته أحدث أثراً كبيراً وردود أفعال كبيرة، لكنك تبرأت منه وعدت لتؤكد حضوره وصحة ما فيه.. ألا ترى أنك تتناقض كثيراً في هذا؟
•• لم يحدث قط أن تبرأت من كتابي «جواز صلاة الرجل في بيته» لا في السر ولا في العلانية. هناك أناس يكذبون علي ويقوّلونني أشياء لم أقلها أبداً. كتاب «جواز صلاة الرجل في بيته» على درجة عالية من الأهمية بالنسبة لي لأنه ارتبط بقصة معاناة طويلة مع بيئة الرأي الواحد ومجتمع متزمت دينياً، ويعرف الإخوة في وزارة الإعلام كم بذلت وتحملت بسببه من الأذى والتهديد بالأذى والتهديد بالفصل من التعليم، بسبب محاولاتي أن يُطبع في السعودية وأن يصل لكل مواطن من أبناء المملكة، وما زلت وبكل إصرار أحاول أن أحقق هذا الهدف، وسوف يتحقق. الدين والإيمان والصلاة لا تكون أبداً إلا بالرغبة والاختيار والإرادة الحقيقية، ولا يمكن أن يتحقق أدنى مقدار منها بالعصا والإكراه.
• هل أنت متفائل بدخول الفلسفة في التعليم العام؟
•• قرأت كتاب «التفكير الناقد» الذي أصبح منهجاً يدرّس في التعليم العام، وهو عبارة عن نسخة حديثة لكتب المنطق التي تدرس في العالم العربي والإسلامي منذ ألف سنة، لكنها -بلا شك- خطوة جيدة تشكر عليها وزارة التعليم. ثم إنني عبرت عن هذا الامتنان للوزارة عبر صفحتي في (تويتر)، وتقدمت باقتراح على الوزارة بأن يتم تدريس «نظرية المعرفة» (الإبستمولوجيا) في المرحلة الثانوية من التعليم العام. «نظرية المعرفة» هي خلاصة الفلسفة وزبدتها. هل يمكن أن نعرف؟ ماذا يمكن أن نعرف؟ ما طبيعة المعرفة؟ ما أدواتنا المعرفية؟ ما المنهج العقلي؟ ما المنهج التجريبي؟ نظريّة المعرفة تهدف إلى تحقيق الوعي اللازم لفهم المعارف ضمن إطار الواقع والوصول إلى اليقين فالمعرفة بالشيء تقتضي التيقُّن منه وإزاحة الشكوك فيه، حتى نصل إلى إدراك حقيقته. لو دُرست نظرية المعرفة في التعليم العام، فسنرى أي جيل سعودي علمي التفكير سيخرج للعالم.
• العادات كما ترى تحولت لدينا إلى دين.. لماذا؟
•• العادة يا أخي طاغوت، طغيان لا يفوقه طغيان. خذ مثلاً قضية الصلاة عبر المايكروفون، فعندما وصل المايكروفون لبلادنا أول مرة، اقترح البعض أن يكون الأذان للصلاة عبر المايكروفون، فقامت قيامة الناس ولم تقعد، واعتبروا ذلك بدعة مضللة وكل ضلالة في النار، ثم تعود الناس على سماع الأذان بالمايكروفون والصلاة أيضاً، ومنذ أشهر لما قررت الوزارة أن توقف نقل الصلاة بالمايكروفون قامت قيامة الناس من جديد. كيف أصبح المايكروفون بدعة؟ كيف تحول المايكروفون إلى دين؟ كيف تحول إلغاء استخدامه إلى دين؟ كل هذا اسأل عنه العادة، ذلك الطاغوت الرهيب الذي يقف حجر عثرة دائماً أمام أي تطور.
• لديك اهتمام بالترجمة، ولك كتب في هذا، ولكنها ما زالت جهوداً فردية.. ماذا تنتظر كمترجم من وزارة الثقافة في هذا الشأن؟
•• الترجمة بالنسبة لي هي مشروعي الثقافي. هناك مترجم يترجم لأن هذا مصدر رزقه ولا عيب في ذلك، وهناك مترجم يترجم لأنه يريد أن يقول شيئاً. أنا أقول أشياء وأشياء من خلال الترجمة. من يقرأ بلغة أوروبية لا بد أن يشعر بالخجل من معظم ما يكتب بالعربية. العرب لا يقولون شيئاً جديداً، فكل ما يكتبونه ويتباهون به في معارض الكتب هو ترجمة سواء اعترفوا بذلك أم وضعوا أسماءهم على تلك الكتب وكأنها من تأليفهم. هذا ما يجب أن نعيه، نحن في عصر الاتباع وسيأتي فيما بعد عصر الإبداع ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نحرق المراحل. يخرج كتاب عن علم الجهل ويحتفي به الناس وكأن صاحبنا هو من كتبه وجاء به من بنيّات أفكاره، ثم يكتشف الناس أن الكتب في علم الجهل بالإنجليزية أكثر من أن تحصى. ثم إنك عندما تكتب فإنك لا تدري صدقاً إن كان ما تكتبه هو فعلا من تحليلاتك الفلسفية والسياسية والعلمية، أم أنه مما علق بذاكرتك مما قرأته لغيرك. لكل ذلك أجد أن الترجمة مجال أكثر صدقاً ونزاهة.
• ماذا ينتظر المترجم من وزارة الثقافة؟
•• بلا شك المترجمون بحاجة لمن يدعمهم ويفرغهم لهذه المهنة العظيمة النبيلة، فهي تحتاج إلى أن يبقى المترجم وقتاً طويلاً في بيته. وقد كان لفايروس كورونا وأيام حظر التجول فضل كبير عليّ فقد أنجزت فيه ثلاثة كتب دفعة واحدة، كتاب «تعاليم المتصوفة» وكتاب «طريق الزن» وكتاب «نظريات اللذة من أبيقور إلى سبنسر» والأخير لم ينشر بعد.
• الأفكار والقناعات التي تتغير بالنسبة لنا.. لماذا نرى الإعلان عنها عيباً ونخجل من ذلك؟
•• بالنسبة لي أنا لا أخجل من ذلك. تخرجت من جامعة الملك سعود قسم اللغة الإنجليزية شاباً عادياً بلا اهتمامات تذكر. ثم انخرطت في عالم الصحوة، ثم الليبرالية، ثم تصالحت مع كل من يهمني أمرهم وتوجهت إلى عالم التصوف.