سيبقى نجيب محفوظ أحد أهمّ الأقلام المُثيرة للجدل في تاريخ الأدب العربي. ليس فقط لأنّه الوحيد الذي جرجر جائزة نوبل إلى الحوش العربي وساهم بذلك في لفت انتباه كلّ سكّان الأرض إلى هذا الجزء الرمليّ الموحش من الأدب الإنساني الذي كان يتعامل معه باستخفاف وبعدم جديةّ، وينظر إليه على أنّه أدب حكواتي وترديد أخرق لأساطير وحكايات ألف ليلة وليلة. وليس لأنه كان مثالا للأديب الرصين والمثقف الذكيّ المثابر الذي يشتغل وفق رؤية ثاقبة. وليس فقط لأنّه استطاع أن يرتق الفتق بين الواقعي والوجودي والذهني بمهارة وسلاسة مذهلة. فكلّ ذلك صحيح. لكن الأخطر والأهمّ في أدب نجيب محفوظ، هوّ أنه حققّ ما لم يحققه أحد قبله، رغم أنّه وبصراحة، لم يكن يتوفرّ على عبقريّة وألمعيّة كتاب معاصرين له، في قيمة يوسف إدريس أو يحيى الطاهر عبدالله أو فتحي غانم أو الطيب صالح أو غيرهم من العباقرة الملهمين. فنجيب محفوظ لم يكن غوّاصا في اللّغة ولا هوّ يدعي عبقريةّ النحت فيها، ولم تكن له تخريجات فذّة ولا حتى تجارب مخبريّة أضافت للأدب الإنساني. وحين تقارنه بيوسف إدريس مثلا في تهويماته وتخريجاته المرعبة، أو تقارنه بيحيى الطاهر عبدالله المُربك الفذّ الألمعيّ أو بمكر الطيّب صالح، فلا يمكن إلا أن تتعجبّ من سرّ هذا الكاتب الأعجوبة الذي نال نوبل وشغل العالم وأجبر الجميع على الاعتراف بأدبه والإعجاب بمسيرته ومنهجه في الكتابة والحياة على السواء.
وإذا صحّ لنا تشبيه كتابات يحيى الطاهر عبدالله، أو يوسف إدريس مثلا، بأنها كتابة تُشبه معجزة النّحلة، طيبا وطرافة وإضافة على المستوى الفنيّ والإبداعي، وخاصة في تحويل رحيق غبار الورد المرّ إلى شهد وعسل مصفى، فكتابات نجيب محفوظ يمكن أن نشبّهها بمعجزة النّملة، التي تعدّل موضع الأشياء بتحويلها عبر الصبر والإصرار والمكابدة اليوميةّ إلى موضع أمين، لا يمكن إلا أن تعجب بعبقريّة بنائه ومساربه وأخاديده وحفيره.
فنجيب محفوظ، لم يوهب عبقريّة الأفذاذ من عباقرة السرد العالمي الذين يصرعون مثل النينجا بضربة نصّ نافذ واحد، أو فقرة أو جملة يتيمة. إطلاقا، على العكس من ذلك تماما، فلغة نجيب محفوظ بسيطة ولكنهّا عميقة، سلسة لكنّها أمينة، فهي تتساءل برفق وتجيب بتمعّن، تحيط بلطف ولا تتعمّد المناورة والتضليل والمكر. هيّ لغة معجونة بأدوات الحكّائين والفلاسفة الطيّبين الذين ينشدون الوصل لا الفصل، التراكم لا القطيعة، البناء لا الهدم.
ولكن رغم ذلك، فقلّة فقط من المغفلين من النّقاد أو الأدباء الصغار السطحيين، من يظنّ أنّ نجيب محفوظ كاتب طيبّ وبسيط وعلى باب الله، كما يصفونه بمكر. فنجيب محفوظ، كان ماكرا، وذكيّا وشديد التمكنّ ويعرف بالضبط ماذا يريد وإلى أين يرغب وماذا ينشد. ولم يكن ليحيّده عن مساره قوةّ في الأرض. فعزيمته من الصلب وإرادته من الفولاذ وإيمانه بجدوى الكتابة والإنجاز عجيب ومُلهم.
وقد استعدّ لذلك كلّ الاستعداد منذ وقت طويل، وشحذ قلمه للنضال دون أن يعلن التحدي أو حتى استفزاز أحد من معاصريه.
وفي حين نشفق على مصير العبقريّ نجيب سرور الذي جندل وصرع نفسه بالخمر والصياح والغضب والعصبيّة والغيرة واليأس والمرارة والتذمّر والتمرّد، وهي خصال افتعلها افتعالا وتحصّن بها من العالم، لتوصله في النهاية لعتمة الجنون والجري في شوارع القاهرة بجلباب ملطّخ ومكنسة في يديه.
وفي حين قام يوسف إدريس بكلّ ما يمكن أن يأتيه بشر ليسيء لنفسه، بالسكر والعربدة والمعارك والخصام مع من هم دونه بملايين السنوات الضوئيّة، ملطّخا اسمه ورسمه وثيابه وأنفه وسمعته ووقاره وعبقريّته في الطين.
وفي حين طار الطيب صالح مع أوّل أسراب الطيور المهاجرة، ليتجمّد مع روايته الفذّة والوحيدة الهامة، (موسم الهجرة إلى الشمال) في أرض ولغة ومهنة وحياة غريبة وصحارى من الصقيع الأوروبي. في ذلك الحين، كان نجيب محفوظ يداوم على حصّته اليومية في الكتابة. يكتب كلّ يوم ولا تكاد تراه إلا صاحيا على كوب من الشاي أو البنّ المُحنّك. يزن كلامه بميزان الماس. ويتربّص وهو يضيف كلّ يوم. دون كلل أو تذمرّ أو صياح أو عنف لفظي أو ماديّ أو معنويّ. لا يكاد يتدخّل فيما لا يعنيه. يراكم النصّ على النصّ والكتاب على الكتاب والمقال على المقال، ويتجنبّ الخوض فيما قد يؤجج ويؤلّب عليه زملائه، ويخطو خطوه ببطء ويقين وثقة على إيقاع عكاز لا يخون، فكيف كان يمكن له بعد ذلك أن لا يكون؟!
لقد تعلّمنا من نجيب محفوظ أنّ الموهبة وحدها لا توصل إلى الخلود والبقاء، وهي وإن كانت ضروريّة أحيانا في الشعر وفي الأدب والفنّ كلّه، لكن الأكثر ضمانا من الموهبة، هيّ العزيمة والإصرار والرؤية المتوّجة بالرؤيا والفهم العميق لطبيعة تحولات ومزاج الكائن البشري، فتعمّد أن يحاصر الشعب المصري ومزاجه، بحصره في شوارع مصر وأزقّتها الضيّقة، ونفذ إلى عمق الحارة المصريّة والمزاج المشترك والخاص فيها، ولم يهوّم ولم يخط خطوة واحدة أبعد من جُرح النيل وضفافه، تاريخيا وحضاريا وواقعيّا، فحقّ له بذلك أن يكون عالميا، مثل كلّ من فهم أنّ أحد أضمن الطرق إلى العالميّة هيّ المحليّة، وهو يتجلى لنا أكثر وضوحا في مجمل أعماله التي عاد من الممكن قراءتها كلوحة فسيفساء، لا يمكن الحكم عليها أبدا قبل اكتمالها وتصفيف جميع حجارتها الصغيرة المختلفة الألوان والبريق.
علينا أن نعترف الآن، أنّ نجيب محفوظ كان فعلا على حقّ، وأنّ معجزة النّمل أشدّ وأبقى أحيانا من معجزة النّحل الذي يحوّل مرّ رحيق الزهر إلى عسل وشهد بديع ولكنه غير مضمون، وهو يوفرّ حلاوة وطلاوة، قد تتغيّر مذاقها باختلاطها بعناصر دخيلة، وقد يميل عشّ النحل وبيته، ويسيل شهده إلى التراب ويضيع، في حين أنّ بيت النّمل حفير عميق وأخاديد وفجاج ضاربة في عمق أديم الأرض ورحمها، ومن الصعب أن تعبث به الريح أو الأنواء، ومن الصعب أن يلحقه الخراب والعطب.
وإذا صحّ لنا تشبيه كتابات يحيى الطاهر عبدالله، أو يوسف إدريس مثلا، بأنها كتابة تُشبه معجزة النّحلة، طيبا وطرافة وإضافة على المستوى الفنيّ والإبداعي، وخاصة في تحويل رحيق غبار الورد المرّ إلى شهد وعسل مصفى، فكتابات نجيب محفوظ يمكن أن نشبّهها بمعجزة النّملة، التي تعدّل موضع الأشياء بتحويلها عبر الصبر والإصرار والمكابدة اليوميةّ إلى موضع أمين، لا يمكن إلا أن تعجب بعبقريّة بنائه ومساربه وأخاديده وحفيره.
فنجيب محفوظ، لم يوهب عبقريّة الأفذاذ من عباقرة السرد العالمي الذين يصرعون مثل النينجا بضربة نصّ نافذ واحد، أو فقرة أو جملة يتيمة. إطلاقا، على العكس من ذلك تماما، فلغة نجيب محفوظ بسيطة ولكنهّا عميقة، سلسة لكنّها أمينة، فهي تتساءل برفق وتجيب بتمعّن، تحيط بلطف ولا تتعمّد المناورة والتضليل والمكر. هيّ لغة معجونة بأدوات الحكّائين والفلاسفة الطيّبين الذين ينشدون الوصل لا الفصل، التراكم لا القطيعة، البناء لا الهدم.
ولكن رغم ذلك، فقلّة فقط من المغفلين من النّقاد أو الأدباء الصغار السطحيين، من يظنّ أنّ نجيب محفوظ كاتب طيبّ وبسيط وعلى باب الله، كما يصفونه بمكر. فنجيب محفوظ، كان ماكرا، وذكيّا وشديد التمكنّ ويعرف بالضبط ماذا يريد وإلى أين يرغب وماذا ينشد. ولم يكن ليحيّده عن مساره قوةّ في الأرض. فعزيمته من الصلب وإرادته من الفولاذ وإيمانه بجدوى الكتابة والإنجاز عجيب ومُلهم.
وقد استعدّ لذلك كلّ الاستعداد منذ وقت طويل، وشحذ قلمه للنضال دون أن يعلن التحدي أو حتى استفزاز أحد من معاصريه.
وفي حين نشفق على مصير العبقريّ نجيب سرور الذي جندل وصرع نفسه بالخمر والصياح والغضب والعصبيّة والغيرة واليأس والمرارة والتذمّر والتمرّد، وهي خصال افتعلها افتعالا وتحصّن بها من العالم، لتوصله في النهاية لعتمة الجنون والجري في شوارع القاهرة بجلباب ملطّخ ومكنسة في يديه.
وفي حين قام يوسف إدريس بكلّ ما يمكن أن يأتيه بشر ليسيء لنفسه، بالسكر والعربدة والمعارك والخصام مع من هم دونه بملايين السنوات الضوئيّة، ملطّخا اسمه ورسمه وثيابه وأنفه وسمعته ووقاره وعبقريّته في الطين.
وفي حين طار الطيب صالح مع أوّل أسراب الطيور المهاجرة، ليتجمّد مع روايته الفذّة والوحيدة الهامة، (موسم الهجرة إلى الشمال) في أرض ولغة ومهنة وحياة غريبة وصحارى من الصقيع الأوروبي. في ذلك الحين، كان نجيب محفوظ يداوم على حصّته اليومية في الكتابة. يكتب كلّ يوم ولا تكاد تراه إلا صاحيا على كوب من الشاي أو البنّ المُحنّك. يزن كلامه بميزان الماس. ويتربّص وهو يضيف كلّ يوم. دون كلل أو تذمرّ أو صياح أو عنف لفظي أو ماديّ أو معنويّ. لا يكاد يتدخّل فيما لا يعنيه. يراكم النصّ على النصّ والكتاب على الكتاب والمقال على المقال، ويتجنبّ الخوض فيما قد يؤجج ويؤلّب عليه زملائه، ويخطو خطوه ببطء ويقين وثقة على إيقاع عكاز لا يخون، فكيف كان يمكن له بعد ذلك أن لا يكون؟!
لقد تعلّمنا من نجيب محفوظ أنّ الموهبة وحدها لا توصل إلى الخلود والبقاء، وهي وإن كانت ضروريّة أحيانا في الشعر وفي الأدب والفنّ كلّه، لكن الأكثر ضمانا من الموهبة، هيّ العزيمة والإصرار والرؤية المتوّجة بالرؤيا والفهم العميق لطبيعة تحولات ومزاج الكائن البشري، فتعمّد أن يحاصر الشعب المصري ومزاجه، بحصره في شوارع مصر وأزقّتها الضيّقة، ونفذ إلى عمق الحارة المصريّة والمزاج المشترك والخاص فيها، ولم يهوّم ولم يخط خطوة واحدة أبعد من جُرح النيل وضفافه، تاريخيا وحضاريا وواقعيّا، فحقّ له بذلك أن يكون عالميا، مثل كلّ من فهم أنّ أحد أضمن الطرق إلى العالميّة هيّ المحليّة، وهو يتجلى لنا أكثر وضوحا في مجمل أعماله التي عاد من الممكن قراءتها كلوحة فسيفساء، لا يمكن الحكم عليها أبدا قبل اكتمالها وتصفيف جميع حجارتها الصغيرة المختلفة الألوان والبريق.
علينا أن نعترف الآن، أنّ نجيب محفوظ كان فعلا على حقّ، وأنّ معجزة النّمل أشدّ وأبقى أحيانا من معجزة النّحل الذي يحوّل مرّ رحيق الزهر إلى عسل وشهد بديع ولكنه غير مضمون، وهو يوفرّ حلاوة وطلاوة، قد تتغيّر مذاقها باختلاطها بعناصر دخيلة، وقد يميل عشّ النحل وبيته، ويسيل شهده إلى التراب ويضيع، في حين أنّ بيت النّمل حفير عميق وأخاديد وفجاج ضاربة في عمق أديم الأرض ورحمها، ومن الصعب أن تعبث به الريح أو الأنواء، ومن الصعب أن يلحقه الخراب والعطب.