لا يخفي الدكتور عبدالله بن سليم الرشيد تخوّفه على اللغة العربية، ولا يرى خوفه هذا تهويلاً، لأنّ هناك ارتباكاً -كما يقول- في علاقتنا بهذه اللغة، والنتيجة ثمار فجّة، وأخرى مُرّة.
وللتفصيل أكثر في هذه المسألة يؤكد الرشيد أنّ لدينا ضعفاً في الكتابة، وضعفاً في الكلام، وضعفاً في التنشئة على حبّ العربية والاعتزاز بها. ويعيد الأمر إلى الدعايات المغرضة، وإنهاك قيمة العربية على مدى عقود في الأفلام والإعلانات التجارية ما أوجد جيلاً كارهاً للغته وساخراً منها!
المزيد من الآراء حول هذه القضية وقضايا أخرى في هذا الحوار:
• دعنا نبدأ من المشكلة الكبرى التي تكتب فيها كثيراً وهي مشكلتنا مع اللغة العربية كتابة وتحدثاً، ألا ترى أن هناك تهويلاً في تصوير هذا الخوف عليها وعلى أبنائها وربط هذا الخوف بفقدان الهوية؟
•• لست أرى في المسألة تهويلًا، ولننطلق لإثبات هذا من المآلات، فالواقع يشهد أن علاقتنا المرتبكة باللغة أثمرت ثمارا فجّة، وأخرى مُرّة، ابتداءً من ضعف القدرة الكتابية، والضعف في الكلام بها، ودونك ما يُلاحَظ على المذيعين مثلًا، فإن قدرتهم على النطق السليم ضعيفة جدا، وعندهم كوارث في الأداء، وخُذ المتحدثين الرسميين لكثير من الجهات الحكومية، تجدْ ما يسوء الأسماع، مع أن المنتظَر من أبناء الجزيرة العربية أن يكونوا أقدر الناس على اللغة، وواقعهم مضادٌّ لهذا كلّ المضادّة، والتفتْ أيضًا إلى أمر أخطر، وهو أن ضعف التنشئة على حبّ العربية والاعتزاز بها، مع وجود دعايات مغرضة ضدّها، وإنهاك لقيمتها على مدى عقود في الأفلام والإعلانات التجارية... إلخ، أوجد جيلًا كارهًا للغته، ساخرًا منها، لا يشعر بانتمائه إليها، ولا تثور حميته لها، ويقدّم غيرها عليها. وكلّ ذلك مما ينبغي لنا حكوماتٍ وأفرادًا أن ننهض لمعالجته بكل السبل؛ فإن اللغة هُويّة ووجود.
ويكشف أيضًا أن المسألة ليست تهويلًا ما نشاهده في السنوات الأخيرة من مظاهر إساءة للعربية ناشئة عن ذلك التساهل في حمايتها وسنّ القوانين لنصرتها والحفاظ عليها، ومن هذه المظاهر السيئة اعتماد الإنجليزية في التسميات التجارية والعاميات في الإعلانات التجارية، والتشويقات الدعائية، والتغريب في أسماء الشركات والمؤسسات وتعاملاتها، وكتابة أسماء المدن في مداخلها بغير العربية، وإهمالها في شعارات المهرجانات والاحتفالات وغيرها، حتى صارت بقاع الجزيرة العربية التي استُقيت منها اللغة، معرِضًا لتسميات مثل (وندرلاند)، و(بوليفارد)، و(سيتي سنتر)، و(داون تاون)! وكل هذا تلوث لغوي ضرره أشد من ضرر التلوث البيئي! أليس هذا مدعاة للخوف على مستقبل العربية في نفوس أبنائها؟
ومن المظاهر المسيئة جعل العربية للمحال الشعبية، والإنجليزية للمحال الراقية -وهذه ملحوظة الدكتور بندر الغميز- وذلك يضرب في عمق الوعي، ولا سيما عند الأجيال الجديدة، فيرسخ في أذهانهم -وإن لم يشعروا- أن العربية هي الدنيا، وأن الإنجليزية هي العليا.
إن اعتماد العامية أو الأسماء والتراكيب الأجنبية في مجالات عدة، هو من مظاهر الجناية على اللغة، وأشنعها أن تجد المحل كله اسمًا ولافتات داخلية وفواتير ونحوها باللغة الإنجليزية ولا وجود للعربية فيه!
وعلى ما سبق يكون السعي إلى محاربة الظاهرة وردّ أصحابها إلى الجادّة مطلبًا وطنيًّا، وغاية قوميّة، لأن في ذلك حفاظًا على الهُويّة، وإظهارًا للشخصية، وتحقيقًا للأمن اللغوي، ودفعًا لفساد الألسنة، وردًّا لغوائل التغريب.
ومن جهة أخرى، فالحرص على سلامة الألسن معينٌ للتعليم على أداء مهامه؛ لأن التلميذ يجد ما درسه بين عينيه في كل مكان، ولا يرى ما يناقضه أو يخالفه، فيقوى بذلك فهمه واستيعابه، وشتّان بين جيل لا يعرف سوى العامية والركاكة و(العربيزي) وهلمّ شرًّا، وجيل يعرف لغته ويقرأ بها ويكتب، ويشعر بالانتماء إليها والحمية لها!
وحتى أزيدك اقتناعًا بأن المسألة ليست تهويلًا أدلك على مظاهر من الضعف تسربت إلى المعلمين! فهل تصدق أنني رصدت أسئلة ومذكرات كتبها معلمون في المرحلة المتوسطة، فيها ما يشبه بعض الكتابة في (الوتساب) وغيره مما يختلط فيه العامي والأجنبي بالفصيح، وتُهدر فيه قواعد الرسم؟ بل إن بعض الجمل المكتوبة ليست من العربية في شيء!
وإن استمر التساهل والتهاون في أمر الضبط اللغوي، فسوف نشاهد ما يندى له الجبين في علاقتنا باللغة! بل قد وقع ما ندِي له جبيني، ففي جملة محاضرات في كلية اللغة العربية (لاحظ أنهم طلاب اللغة العربية) كان المتجلّون المبدعون الواعون للغة، هم طلاب المنح غير العرب! وأبناؤنا السعوديون إلا من رحم ربي، يفغرون أفواههم، جامعين جهلًا مركّبًا وسقوط همم! كنت أسأل أسئلة هي من البدهيات في اللغة، فيبادر الصيني والأفريقي والأوروبي إلى الإجابة الصحيحة الكاملة، ثم إذا كتب هؤلاء رأيت الإبداع في التعبير وفي جمال الخط، وأبناؤنا هائمون في أودية الضعف والجهل! وكل هذا نتاج نظرتنا القاصرة إلى اللغة وخطرها.
والشيء بالشيء يُذكر، الذي أتوقعه أن معرفة المسلمين غير العرب بالعربية ستكون أقوى من معرفة العرب بها، وسيحمل هؤلاء راية الدفاع عن العربية، وربما جاهدوا العربَ المنخذلين الذين لبس كثير منهم لَبوسَ عداوتها.
من سنن الحياة التغيير، وإن لم يتنبّه العرب إلى ضرورة الحفاظ على لغتهم، فسيأتي الله بقوم يحبونها وتحبهم. والله المستعان.
• هل كشفت مواقع التواصل الاجتماعي ضعفنا اللغوي والإملائي؟
•• نعم، هذا ظاهر جدًّا، والمشكلة هي في الخلط بين الكتابة الفصيحة والعامية، وإسباغ سمة العجلة والاختصار التي تنحو إليها العامية على الكتابة الفصيحة، والداهية أن ذلك الضعف ظاهر حتى عند جمهور من المثقفين والكُتاب الصحفيين، بل حتى عند بعض أساتذة الجامعات، والأدهى من ذلك أن نجد من يدافع عن الضعف اللغوي بوصفه تطوّرًا! ومن قال بهذا فهو جاهل للفرق بين التطور والفساد.
مواقع التواصل أفادتنا في التنبّه إلى الخلل الكبير في تعاملنا مع اللغة، وسذاجتنا في النظر إليها، إذ إن بعضنا لا ينظر إليها إلا بوصفها وسيلة تواصل نفعية عابرة، ولا يهتم بإجادتها، ويرى أن ما يُوصِل المعنى كافٍ لعدّه لغة سليمة! وهذا جهل بطبيعة اللغة (كل لغة)، ولو صحّ هذا الادعاء لكان ما يكتبه الجاحظ مماثلًا لما يقوله عامل أجنبي يتكلم بلغْوة (أنا ما في معلوم)!
• لك جهود طيبة في تقويم اللسان من خلال صفحتك في تويتر.. كيف تنظر إلى هذه التجربة؟
•• التجربة مشجّعة جدًّا، وحكمي منـْبَنٍ على ما يرِد إليّ من تفاعل وطلب استمرار في عرض نماذج التصحيح اللغوي، وهي تجربة تضاف إلى تجارب أساتذة آخرين يمكن أن تكوّن تيارًا من تقويم الأساليب، وإزالة ما يعلق باللغة من مظاهر الوهن أو الفساد.
ولنسأل في هذا المقام: هل اللغة وسيلة تخاطب فحسب، فنكتفي بأن نفهَم بها ونُفهِم، مهما تكن وسائل الإفهام وطرقه؟ وهل يؤخذ (التصحيح اللغوي) جملة واحدة، فيُغَلّ ويقيّد، ويُرمى بأهله في غياهب الصمت والتصميت؟
لنكن من أمرنا على بيّنة، فإن القضية أهمّ من أن تؤخذ هذا المأخذ الرهيف، إننا في التصحيح اللغوي لا نُعنى بكلام العامة في أسواقهم وبيوتهم وشوارعهم، ولا نهتمّ إلا بأن نمنع الانحراف العامي والركاكة والتفكك من التسلل إلى لغة الكتابة والتدوين، وهي الخيط الذي ينتظم الفكر مع الزمن، ويصل أوله بآخره، ويفضي بجديده إلى قديمه، ويجعله نسيجًا واحدًا متشاكلاً يروق العين، ويُمتع النفس، ويؤجّج الشوق إلى المزيد من العلم والمعرفة.
وهل تداولية اللفظ أو الأسلوب كافية لقبول الخطأ والركاكة في نظام اللغة؟ ماذا نقول إذن عن لَغْوة (ما في معلوم) التي ابتُلي بها مجتمعنا الهشّ لغويًّا؟ إنها -أي تلك اللغوة العقيم- سائرة على ألسن الناس، فهل تخاطُبُهم بمثل: (أنا يجي)، و(أنت ما فيه كويّس) كافٍ لأن نجعلها لغة مبجّلة ونقبلها في معجمنا؟ ألأنها استُعمِلت تُبجّل وتُقبَل؟ أوَ لَو نشِطت جماعة متطوعة أو جهة حكومية، لتعليم العمال الأجانب العربية السهلة، وجنّبتْهم تلك (اللَّغْوة)، أيكون ذلك مدعاةً للتثبيط والسخريّة وادعاء أن أصحابه معقّدون؟
إن ضبط اللغة -كلّ لغة- يصدر عن أهداف وغايات، أهمها أن يبقى حبل الوصل قائمًا بين سلف وخلف، وأن يفهم اللاحق عن السابق، وأن تُضبط لغة التعامل؛ حتى لا يتحيّفها التحريف أو التبديل، فاللغة إرث مشترك، لا يحقّ لأحد أن يعبث به، أو يمسّه بسوءٍ، اتباعًا لهوى، أو استجابة لضعف، أو تسويغًا لفساد.
ثم إن العناية باللغة وضبط قوانينها ليست خاصّة بالعرب، فكل الأمم -ولاسيما ذات اللغات الحية- تبذل جهدًا ووقتًا ومالًا للحفاظ على لغاتها، وحسبنا ما فعلتْه هولندا إذ ألزمت الأجانب تعلمَ لغتها وإلا مُنعوا البقاءَ فيها، وما سنّته فرنسا من نُظُم تحمي الفرنسية، وتعاقب من يستهين بها، أو يتحدث في المحافل الرسمية بغيرها. وموقف الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك مشهور، إذْ انسحب من اجتماع أممي؛ احتجاجًا على تحدّث مندوب فرنسا بالإنجليزية. وكذلك ما سنّته دول أوروبية أخرى كبلجيكا وفنلندا وغيرهما.
بل إن بعض الدول تناقش المسائل اللغوية في أعلى المجالس، في (البرلمان) وما يشبهه، كبريطانيا التي عُرضت فيها -قبل عقود- قضية شيوع عامية الضواحي عند تلاميذ المدارس.
• تنظر-ومعك مختصون في اللغة العربية- إلى العاميّة على أنها خطر على اللغة العربية، ويرى آخرون أنّ هذه العاميات هي لغة عربية أصيلة... كيف يمكن التوفيق بينكم؟
•• العاميات كثيرة، وليست عامية واحدة، وكلها متفرّع من اللغة الفصيحة. وتراكيبها وألفاظها -ولا سيما قبل وسائل التواصل الحديث المتسارع- مستمدة من العربية، ولو نظرت في الألفاظ التي كانت شائعة في البيئات العربية، لوجدتها ذات نسب عريق، ولكنها ملحونة غالبًا، أي مُحالة عن طريقة نطقها الصحيحة.
ورأيي أن العاميات شرٌّ لا بدّ منه، ولكن ينبغي لها أن تبقى في نطاقها الطبيعي، أي أن تظلّ شفوية منطوقة فحسب، فإذا أريد نقلها إلى الكتابة والتدوين، فحينئذ تصبح خطرًا على الفصحى وفهمها واستيعابها، إذْ تزداد الهوّة بين المتلقين والفصحى، وتضعف الروابط بين الشعوب الناطقة بالعربية، وتنبتّ صلتنا بالتراث العربي على مدى قرون.
فالرأيان متفقان على أنها ذات أصول فصيحة غالبًا، ولكن الخلاف في أن الفريق الآخر يبجّلها ويُعظّم قدرها، وبعضهم يدعو إلى دراستها وتدريسها، بوصفها قرينًا للفصحى.
• وماذا عن دراسة العامية وتدريسها أو ما يسمى (الأدب الشعبي)؟
•• أود الإشارة ابتداءً إلى رفضي مصطلح (الشعبي) وإيثاري مصطلح (العامي)، فالشعبي ما يفهمه الشعب كله، وهو ما يخاطب كل البيئات، ويترجم مشاعر الناس كلهم، في كل زمان ومكان، ولهذا فشعر الحكمة الفصيح الذائع هو عندي من الأدب الشعبي.
وحتى يتضح موقفي من هذه المسألة أنطلق من الغايات والأهداف المتوخاة من دراسة الأدب، وأهمها وَصْل المتعلم بلغته الأم الفصحى، والارتفاع بالملكات الأدبية إنشاء وتذوّقًا، والنجاةُ بالأذواق من سوء التراكيب وركاكة التعبير وسطحية التفكير، التي تغلب على ما يُنشأ بالعامية.
فإذا انطلقنا من هذا، فإن دراسة ما يُنشأ باللهجات العامية يضاد الغايات، فضلًا على أنه يفتح أبوابًا من التدابر؛ لكثرة اللهجات المحكية في بلاد العرب، وصعوبة بعضها، أضف إلى ذلك أن اللهجات ليست مستقرة، وهي تخضع للحاجة الاستعمالية العابرة، ولهذا لا يخضع المتكلم بها لقاعدة أو منهج، ولو شاء أحد وضع قواعد للّهجات، لانهدمت فكرته من أساسها؛ لأن العامية سائلة لا يُمسك بها، ولذلك وقف صفي الدين الحلي موقف المعتذر من تدوين زجله العامي في كتابه (العاطل الحالي والمرخص الغالي) وقال ما معناه إن البقاء للفصحى.
ومن أجل ذلك أيضًا أخفق مشروع بعض المستشرقين في تقعيد العامية، وتعرف أن وِلْمَرْ وسبِيتا وغيرهما سعوا إلى تقعيد اللهجة المصرية، وألف أحدهم كتابًا عنوانه (قواعد اللهجة القاهرية)، وزعم بعضهم في محاضرة له أن الفصحى هي التي منعت المصريين من الاختراع! وجهدهم ذلك ذهب أدراج النسيان، وبقي شاهدًا على تاريخ العداوة المتأصلة للعربية الفصحى، ودليلًا على أنها أقوى وأثبت مما سُعي إليه من هدم وإفناء، وإن بقيت بعض أوضارهم في اللسان وفي الوعي.
إن الباحث في الأدب يعرف أنه يدرُس الأدب الفصيح؛ ليرتقي بذوقه وأذواق من يقرؤون له، ولأنه يعلم أن المكتوب بالفصحى هو الباقي، وهو الجامع لكل الناطقين بالعربية، وما دراسة المحكي بوصفه نتاجًا أدبيًا عاليًا إلا هدم وإفساد للذوق، وصرم للعلائق بين أبناء العربية، الذين تتعدد محكياتهم وعامياتهم تعَدُّدَ الأقطار والمناطق والجهات.
ومع ما قدمت أعيد السؤال:
هل يُترك ذلك النتاج العامي من شعر وغيره دون دراسة؟
وجوابي: لا، بل يُدرس، ولكن من يدرسه ولأي غاية؟
هنا المسألة المهمة، إن في ذلك النتاج ما يفيد دارسي علم اللغة، فلهم أن يخضعوه للدراسة، تتبعًا لنشوء العاميات، وأسبابها، وأسباب تكوّن ما يسمّى الجزر اللغوية، والمراد بها أن نجد صيغًا وألفاظًا وتراكيب تشيع في بيئة لغوية، ولا تشيع في أخرى مجاورة لها، فيكون لكل بيئة معجم لغوي تتسع الهوة بينه وبين غيره كلما اتسعت المسافة، وزاد البعد بين البيئتين، فلِلّغوي أن يدرس تلك الجزر اللغوية العامية، ليخدم بدرسها قوانين الفصحى نفسها، وليكشف بعض تاريخها، ولو استطاع بعضهم إدراك أسباب الانحراف وبدايات التغير، لأمكنه أن يخدم مسألة نشوء اللغات مطلقًا.
وبدَرْس اللغوي لها يمكن كشف بعض مظاهر اللغة، وصفات أصواتها، وخصائص تراكيبها، ولا سيما إن شُفع ذلك بعمل ميداني.
وعليه فالمختصون في علم اللغة الجغرافي وعلم اللغة الاجتماعي وعلم اجتماع اللغة ونحوها يجدون في هذا النتاج مادة علمية صالحة للنظر والتحليل لغايات لغوية محض، وأهداف اجتماعية مرتبطة باللغة وتحولاتها وتأثّرها وتأثيرها.
وفي مسألة تتبع النتاج العامي لخدمة الفصحى أضرب أمثلة بما جمعه شفيق جبري في سلسلة مقالاته في مجلة مجمع دمشق، بعنوان (بقايا الفصاح) وما أنجزه أحمد رضا في (ردّ العامي إلى الفصيح)، والمثال الأقرب كتاب الشيخ محمد العبودي الضخم (معجم الأصول الفصيحة للألفاظ الدارجة، أو ما فعلته القرون بالعربية في مهدها)، فهؤلاء وآخرون سلكوا مسلكهم رصدوا ظواهر في العامية تفيد تقعيد الفصحى، وقيّدوا بعض ما عدّوه تطورًا أو انحرافًا، وكشف بعضهم أسباب الانحراف ومحركات التطور.
كذلك يمكن أن يدرس النتاجَ العامي علماءُ الإناسة وعلماء الاجتماع والتاريخ، فيحللوا ما فيه من مظاهر اجتماعية ثاوية في التعبير، وما تنطوي عليه من إشارات وعلامات مفيدة في تتبع ظواهر من العلاقات الإنسانية ونحو ذلك.
وتلك الدراسات مشروطة بأن تبقى في ميدان المتخصصين فحسب، ويفادَ منها في الدراسات اللغوية والاجتماعية، أما أن تطرح العامية للناس ويحضَّ عليها، وتعظّم وتُجعل قسيمًا مقارنًا للفصحى، فهذا عين الخطأ، وهو ما سماه الدكتور مرزوق بن تنباك (نظرية الفكر العامي) محذرًا من خطورته.
ولن ينتج من دراسة النتاج العامي في الأقسام الأدبية سوى مزيد من انحدار الذوق، واضطراب المعرفة اللغوية، وفساد الإتقان اللغوي، الذي يصلنا بأصول فصحانا، ونصوصها القديمة والمتأخرة.
وأقول إجمالًا للرأي: النتاج العامي هو كأوراق الشجرة التي تصفرّ وتسقط، والنتاج الفصيح هو الجذور الباقية والجذع الصامد.
• نظرت إلى تعليم اللغة الإنجليزية في المراحل الابتدائية على أنه خطر على العربية وهناك تجارب ودراسات علمية ترى أنّ تعليم أكثر من لغة لا يشكّل خطراً على الطفل.. ما رأيك؟
•• أحيلك هنا إلى كلام مختصين في علم اللغة، ومن عندهم إلمام باللغات الأخرى ودراستها، ثم أحيلك إلى مشاهد واقعة، تسمع فيها الطفل الذي يتكلم بلغة هجين، بل إننا شهدنا كبارًا لا يستطيعون الوفاء بلغة واحدة في أثناء الحديث، فتختلط عندهم العربية بالإنجليزية أو بالفرنسية.
ليس عندنا ثنائية لغوية، بحيث نحتاج إلى تعليم اللغة الثانية للتلاميذ في سنّ مبكّرة، ومسألة تمكينهم منها ممكنة، حتى وهم في سن متقدمة، والتجارب كثيرة، وخذ الأجيال السابقة التي لم تدرس الإنجليزية في صغرها، ومنها الآن أساتذة ومترجمون كبار.
• هناك نصوص بديعة في أسلوبها ولكنها تمتلئ بالأخطاء الإملائية والنحوية وهناك نصوص ركيكة في أسلوبها ولكنها سليمة في نحوها وإملائها.. إلى أيهما تميل؟
•• النص البديع الممتلئ بالخطأ الإملائي والنحوي، تُقوّم كتابته، ويُنبّه كاتبه إلى مواضع الخطأ، لأن الخطأ الكتابي عارض، ولا تأثير له على قيمة النص الفنية غالبًا، أما الخطأ القولي فهو ثابت مستقر. فإذا كان النص ركيك الأسلوب ضعيف القيمة الفنية، فهو في درجة دنيا وإن سلم نحويًّا وإملائيًّا، وحينئذ يقال لكاتبه: أحسنت الكتابة، ولم تُجِدْ الصياغة.
• هل أنت مع (قل ولا تقل) التي ينظر إليها بعض المختصين على أنها تقييد للغة وتضييق على مستخدميها؟
•• هذا متصل بسؤال سابق، وهنا أضيف ما أراه مفيدًا:
هل ابتكر أصحاب (قل ولا تقل) نمطًا في التصحيح من عند أنفسهم؟ لا، فهم يستضيئون بالقرآن الكريم الذي جاء فيه أول توجيه لغوي، وذلك في قوله تعالى: (لَاْ تَقُوْلُوا رَاعِنَا وَقُوْلُوا اْنْظُرْنَا) أي: قولوا هذا ولا تقولوا ذاك؛ لأن في قولهم (راعِنا) إيهامًا بمعنى يُعجِبُ اليهودَ أن يصرفوا اللفظ إليه، وهو من الرُّعونة، على ما جاء في سبب نزول الآية وتفسيرها.
ثم إن دعاة التصحيح اللغوي بعد ذلك يستنّون بسنة المصطفى، فهو الذي قال لأصحابه: «لا يقولنَّ أحدكم: خَبُثَتْ نفسي، ولكنْ لِيَقُل: لَقِسَتْ نفسي»، قال ابن حجر: «قال الخطابي تبعًا لأبي عبيد: لَقِسَتْ وخَبُثَتْ بمعنى واحد. وإنما كره من ذلك اسم الخَبَث فاختار اللفظة السالمة من ذلك، وكان من سُنّته تبديل الاسم القبيح بالحسن». تأمّل خطر اللغة التي يُراد أن تكون همَلًا بلا زمام!
وفي حديث آخر قال: «ولا يقل أحدكم: عبدي أَمَتي، وليقل: فتايَ وفتاتي وغلامي» ورُوي هذا الحديث بلفظ آخر فيه «لا يقولن أحدكم: عبدي، فكلكم عبيد الله، ولكن ليقلْ: فتاي، ولا يقل العبدُ: ربي، ولكن ليقلْ: سيّدي».
فالآية والحديثان دالّة على أن ما نعتدّه من اللغة المتداولة قد يكون غير مقبول شرْعًا (كما في قول ربّي للسيّد) أو أدبًا وعُرفًا (كما في خبثت ولقست)، وهذا يعني أن من المهم تنقية اللغة مما يعلَق بها أو يُساء به فهمها، أو يغيّر دلالتها.
وقد يقول قائل: التوجيه الوارد في الآية والأحاديث لا صلة له باللغة، بل بالمعاني والدلالات غير المقبولة، وأقول: اللغة غير منفكة عن دلالاتها، والتوجيه بإيقاع لفظ موقع آخر دالٌّ على مشروعية إبدال تعبير بآخر، ووضع لفظ مكان آخر، إن اللغة وسيلة تواصل تحمل دلالات اجتماعية ونفسية وثقافية، ومثلما يُغيّر اللفظ ذو الدلالة المرغوب عنها، يُغيّر اللفظ غير الدقيق، أو الذي أوقع في غير محلّه، وهكذا.
ومع ما قدّمت، أقول: إن اللغة حيّة تنمو وتكبر وتتوسع، فإن كان نموّها خاضعًا لنُظُمها وقوانينها، فهو نموّ صحيح، وإن كان عشوائيًّا غير منضبط، فهو كالترهّل والسِّمنة، اللذين هما مرضان يُعالَجان، وقد يكون ورمًا خبيثًا يجب استئصاله. وغالب ما يتحيّف اللغةَ من خروج عن نظمها وقوانينها هو من هذا النوع الأخير، ورم خبيث يوشك أن يقضي على لغة المتحدث أو الكاتب.
فمن النوع الأول - أي التطور الخاضع لقوانين اللغة - التوسّع المجازي، كقول (طرح عليه سؤالًا)، فهو تعبير صحيح لا إشكال فيه، ولا معنى لردّه ووصفه بالخطأ،ومثله قول (مُسْوَدّة).
ومنه التوسّع الاشتقاقي، كقولنا: تَعَنْتر، وكاشتقاق أسماء الآلات الحديثة، ومنه النسب إلى الجمع، فكله صحيحٌ، فللقائل أن يقول (موضوعاتي، وغرائبي) مثلًا، ومن خطّأه فله رأيه، ولكنّ اللغة ترحُب لهذا. ومثله اشتقاق الفعل وغيره من (موضع = تموضع)، ومن (مظهر= تمظهر)، ومن (ما هو = تماهى) ومن (ما جرى = ماجريات)، ومنه التوسع في النحت والنحط (بالتاء والطاء)، مثل: (زمكاني، وبرمائي، وجستن)، فكلها صحيحٌ يقبله صدر اللغة الرحيب.
ومن النوع الثاني الأخطاءُ الصادرة عن ضعف في النحو، أو في معرفة بِنى الكلمات وأوزانها، أو جهل بالدلالة، أو بنمط التركيب اللغوي السليم، ونحو ذلك، وما هذا الذي يشيع في كلام الناس اليوم من تكرار (كلما) في الشرط في مثل (كلما سافرتُ كلما عرفت جديدًا)، وقولهم (في أحد يقول كذا = ويعني: في الدنيا أحد يقول كذا)، وقولهم (نفذ المال بالذال المنقوطة = والصواب نفِد بالدال المهملة) وهلم جرًّا، إلا مظاهر للخطأ الصريح الذي لا يُقبل إسباغ الصواب عليه، وإن قيل وقيل.
وينبغي لنا -ونحن نعرض لهذه القضية- أن ندرك أن استعمال اللغة ذو طبقات، منها الدنيا ومنها العليا، وما يُنبّه إليه أو يصحّح للطائفة العليا قد يُغضّ الطرف عنه مع غيرها، فلغة الباحث مثلًا يجب أن تكون في أعلى درجات السلامة اللغوية وحسن البيان، ولغة الأديب والكاتب والإعلامي ينبغي لها أن تعلو على لغة من دونهم، وهلمّ جرًّا.
وعليه فربما مررتُ بتعبير أراه ضعيفًا واهنًا عند متكلم مرتجل، فلا أثرّب عليه، ولكني إن وجدته في رسالة علمية أو بحث محكّم أو في كلام أديب منظور إليه، وقفت عنده وأشرت إلى خطئه أو ضعفه.
فإذا كان صاحب (قل ولا تقل) قاصدًا تغيير الفساد والانحراف فأنا معه، أما إن كان مخطِّئًا ما نشأ عن التوسّع المجازي أو الاشتقاقي أو التعريب فلست معه، أنا وسط في هذه المسألة، قرأت لأحد العلماء تخطئته لقولنا (اعتنق فلان الإسلام)، وقال: إنه ليس تعبيرًا عربيًّا! صحيح أن العرب لم ينطقوا به، وأنه نتاج الترجمة، ولكنه تعبير مجازي اتسع له صدر اللغة، وقسْ عليه كل تعبير يوائم روح العربية، ويتفق مع نواميسها وقوانينها.
• ما رأيك في النصوص الوظيفية التي يلزم طلاب المراحل الدراسية في التعليم العام بحفظها.. ألا تشكل خطراً على ذائقة الدارس الأدبية وحجاباً عن الأدب وجماله؟
•• النص الوظيفي يتنازعه ثلاثة مقاصد، المقصد التعليمي، والمقصد التربوي، والمقصد الجمالي، والملاحظ على النصوص التي امتلأت بها المواد الدراسية في الأوان الأخير أن أغلبها مهدرة فيه القيم الجمالية، على أهميتها في تربية الذوق، وإرهاف الحس، والارتقاء بالاستعمال اللغوي، ومشكلتنا مع وزارة التعليم أنها تعمل - على ما يبدو - بعيدة عن أهل التخصصات والمطلعين على ما يلائم التلاميذ، ولهذا ظهرت عندها مشكلات، منها هذا الذي تشير إليه، وقد وقفت على نصوص غاية في الرداءة، ولا أعرف معايير اختيارها. وليت الوزارة تعيد الطلاب إلى النصوص العالية التي تحقق لها المقاصد الثلاثة.
وأنا معك في أن النص الرديء حجاب دون تذوق الأدب.
• طالبت الباحثين في تاريخ الأدب والنقد بألاّ يسلموا بكثير من المقولات المرسلة ومنها احتفال العرب بنبوغ شاعر... ألا ترى أنّ هذه المقولات المرسلة تملأ فضاءنا الأدبي وأنّ الباحثين والدارسين من أسباب شيوعها بين الناس؟
•• بلى، وهي مقولات تبجّل أحيانًا، ولا تحاكم، وينقلها لاحق عن سابق، بلا نظر فيها ولا تأمل! المشكلة الرئيسة هنا في الباحثين والدارسين السكونيين الذين يتقبلون بلا مساءلة، ولا تفكير، وأنا كثيرًا ما أقول للطلاب في الدراسات العليا (كن كيِّسًا ولا تكن كيسًا)، أي كن عاقلا متأمّلًا مناقشًا، ولا تكن كِيسًا لا يعترض على أن يملأه من شاء بما شاء، إن مشكلتنا في الدرس العلمي أن الأكياس (جمع كِيس) أكثر من الأكياس (جمع كَيّس بفتح الكاف وتشديد الياء المكسورة).
• تدريس الإملاء في مراحل التعليم العام بقواعد مختلف عليها ألا يُربك الدارسين؟
•• الرسم الكتابي (أو ما يصطلح عليه بالإملاء) وسيلة وليس غاية؛ وعليه فالكتابة التي اتفق عليها جمهور أهل اللغة، هي التي تُعلّم وتُتَعلّم، والحق أن جُلّ قواعدها مستقر واضح هيّن، ولكن المشكلة في الدارس الذي لا يريد أن يبذل للتعلم والفهم، وكل علم له قواعد تُراعى، وقوانين تحتاج إلى تفكير لتُفهَم، وتبقى مسائل الهمزة هي الأكثر إشكالًا عند الناس، ولو عرفوا قواعدها الضابطة الموجَزة لسهلت عليهم.
وأما تعدد الآراء فهذا يهوّن مسائل الرسم ولا يربكها، ومن المستحسن في تدريسها أن يُشار إلى صحة رسم بعض الكلمات على عدة هيئات، ما دامت لا تخلّ بالقواعد العامة، وتُيَسّر الأمر.
وعلى ذكر هذا فقواعد الرسم العربية هي- في ما طالعت من كلام العارفين باللغات الأخرى -هي من أهون القواعد قياسًا إلى قواعد الرسم في الإنجليزية مثلًا، ومما يشيرون إليه في اضطراب الرسم الإنجليزي أن الحرف (c) يُنطق حينًا كالسين وحينًا مثل الكاف وحينًا كالشين، وأن كثيرًا من الأحرف فيها تُكتب ولا تُنطق، وبعضها يُنطق ولا يُكتب، وهذه أمثلة وغيرها كثير.
• أخطاء كثير من المتخصصين في اللغة العربية الإملائية والنحوية في شبكات التواصل الاجتماعي ألا تفسد علاقة المتابع بلغته العربية؟
•• بلى، وهو إفساد مضاعف، لأن هؤلاء هم من يُنتظر منهم أن يكونوا القدوة في التعامل مع اللغة وبها.
من مشكلاتنا الكبرى أن كثيرًا من التخصصات دخل فيها طلاب الوظائف لا المحبون للتخصص نفسه، ومن أشرتَ إليهم هم من الموظّفين الذين لا يقدمون شيئًا للتخصص، ولا يبدعون فيه، ولا يضيفون إليه، وبعضهم وَبالٌ عليه. وما أحراهم بأن أتمثل معهم:
وكنت أُعِدّك للنائبات فها أنا أطلبُ منك الأمانا!
• في كتابك الأخير توسعت كثيراً في دراسة المجون في التراث العربي منطلقاً من سعة المفهوم واتجاه المصنفين إلى إثبات المجون في مصنفاتهم، فهل كان الأولون يفصلون بين الدين والأدب أم أنّ التدين يختلف من عصر إلى عصر؟
•• فضاء المجون عند القدماء واسع متشعب، والعلاقة به متعددة، والذين اعتنوا بتدوينه والتبسّط فيه رجال علم، فيهم المفسر والفقيه والمؤرخ واللغوي والأديب، وتلك العناية مرتهنة بزمان التدوين، وثقافة التأليف، وطبيعة المتلقين آنذاك، فالتأليف في القرون القديمة ليس كطباعة الكتب الآن، إذ نستطيع اليوم طباعة آلاف النسخ وتوزيعها في العالم في أيام، أما في زمانهم فالتأليف يعني كتابة نسخة واحدة قد يُنسخ منها نسخ معدودة، وتُوجّه إلى فئات محدودة، وهذا أهم أسباب تبسّطهم؛ إذ الكتاب في زمانهم محدود الانتشار، وعند طبقات الخاصة.
ومع ذلك فقد وصلت إلى نتائج، منها ما أشرتَ إليها، من أن الفصل بين الدين والأدب ظاهر عندهم، فمع اعتزازهم بالدين، وتمسّكهم بأهدابه، وحرصهم عليه، لم يروا في تدوين المجون حرجًا؛ لأن لهذا مقامه، وللدين مقامه.
ولم تكن مظاهر التديّن عندهم تنافي أن يعجَبوا بالأدب الذي نراه اليوم خارجًا عن الوقار والخلُق، لأنهم ينظرون إليه من زاوية الفن، ولا يُقِرّون معناه غالبًا. ويتصل بهذا أنهم كانوا أرحبَ صدورًا منا للتبسّط والمزاح ورواية (الأدب المكشوف)، ولهم حججهم في ذلك، وقد بسطتها في كتابي.
وتبقى مسألة اختلاف التديّن من زمان إلى زمان، فهذه أتركها لغيري؛ لأن الحكم فيها ينبغي أن يصدر عن معرفة بالتاريخ والاجتماع وحركة العلم وقراءة تاريخ الرجال ونحو ذلك.