كمال العيّادي
كمال العيّادي




أدونيس
أدونيس
-A +A
كمال العيّادي الكينغ
مثلما كان الأمر دائما، وكما هو الشّأن في كلّ مرّة يتمّ فيها الإعلان عن أسماء الفائزين بإحدى الجوائز الأدبيّة، كيفما وأينما كانت، جهويّة أم وطنيّة. عربيّة أو عالميّة، فقد صاحب الإعلان عن فوز الشّاعر الكبير- أدونيس - بجائزة نوبل للآداب لهذه السّنة الكثير الكثير من التململ واللّغط والهمز والغمز. وكأنّه كان هناك مرشّح عربي أهمّ من أدونيس لنيل هذه الجائزة المتواضعة.

وقد وصلت الوقاحة ببعض أنصاف وأرباع المثقّفين وأشباه الكتّاب من الكتبة المحلّيين، لحدّ التشكيك صراحة في نزاهة الجائزة وحيادها، زاعمين أنّ رئيس لجنة التّحكيم الذي يتمتّع (حسب القانون الدّاخلي لهيئة الجائزة) بأربعة أصوات، مقابل صوت واحد لكلّ عضو من بقيّة الأعضاء، قد لعب دورا رئيسا من جديد في التّأثير على زملائه، وكأنّ ذلك ليس من حقّه الذي يضمنه له القانون الدّاخلي الواضح، وضميره ككاتب لا يرقى الشّكّ لنزاهته إضافة لعدم ارتباطه بأيّ جهة سياسيّة أو تكتّل خطّي في أيّ يوم من الأيّام.


وبالرّغم من أنّ الجميع كان يعرف بأنّ أدونيس أكثر المرشّحين للجائزة جدارة بنيلها، فلم يكن الأمر سهلا كما يظنّ البعض، فقد كانت هناك أيضا ظروف موضوعيّة هامّة لم يكن من البساطة تجاهلها، كما كانت هناك عدّة أسماء كلّ منها يستحقّ الجائزة وأكثر.

وبمجرّد الإعلان عن الجائزة على السّاعة التّاسعة والنّصف، مساء الخميس الفارط، تجمّع العديد من المثقّفين بمقهى العالم الواحد بمنطقة شفانتالا- شتراسيا- بميونيخ وسرعان ما انقسموا إلى مجموعتين، احتلّتا يمين ويسار الطّاولات المنتشرة بالبهو والفسحة. وسمع الكثير من اللّغط، والجدال الحادّ، خاصّة عند الطّاولة الثّانية يمينا، التي تجمّع حولها العديد من أعضاء النّادي الفلسطيني، ورغم عدم درايتهم بالموضوع والحيثيّات، ورغم عدم اهتمامهم بالأدب أصلا، فضلا عن الشّعر، فقد كانوا مستائين جدّا من أنّ الجائزة لم تمنح لشاعرهم محمود درويش المعروف جدّا خاصّة بين أفراد الجاليّة السّوريّة والفلسطينيّة بل إنّه يحظى أيضا بمساندة العديد من المهاجرين المغاربة الذين يحفظون قصيدة – مديح الظلّ العالي - عن ظهر قلب، إضافة لبعض المقاطع المناسبة من ديوانه -لماذا تركت الحصان وحيدا- تصلح في صورة حفظها مشكولة مع أبيات أخرى لأبي الطيّب المتنبّي ولأبي نوّاس للاستشهاد بها خلال الحوارات والنّقاشات السّاخنة التي تتشكّل عفويّا أو بمواعيد مضبوطة مسبقا بشارع شفابينغ وشارع شيلنغ بميونيخ.

وحتّى يكون الأمر واضحا، ولقطع دابر كلّ الشائعات المغرضة، فقد بيّن السيّد رئيس لجنة التّحكيم الأسباب التي من أجلها تمّ منح الجائزة للشّاعر العربيّ الكبير أدونيس، وليس للشّاعر الفلسطيني محمود درويش، ولخّص هاته الأسباب في أربع نقاط جوهريّة كانت كالتّالي:

1- أسباب علميّة بحتة: منها أنّ وظيفة الشّعر التّحرّش بقانون الجاذبيّة:

ذلك أنّ الكائن البشري لا يزال يتعرّض لإهانات مخزية، بدأت بمقايضة قيمته بتفّاحة لا قيمة لها، كانت السّبب في بطحه إلى الأرض وتركه لمصيره الذي لم يختره في يوم من الأيّام. وكأنّ ذلك لم يكف، فقد لعبت نفس الثّمرة اللّعينة دورا خطيرا في إذلال الأحفاد مستغلّة سذاجتهم وقصور بصيرتهم وبصرهم، بغواية العلم هذه المرّة، فكان أن تساقطت تفّاحة أخرى على رأس المدعوّ نيوتن، نافثة فيه من غنج سمّها ما جعله يعتقد بأنّه اكتشف قانونا خطيرا، يتمثّل (يا للبلاهة) في انتباهه إلى أنّ التّفاح يسقط فعلا ولا يطير، وبذلك شرّع لقبول قانون الجاذبيّة الفاشي الذي سرعان ما فرّخ العديد من القوانين الأخرى انتهت بوباء الكهرباء والعياذ بالله، وغيره من القوانين والأمراض التي كانت تنهش شاعريّة الكون والعناصر من الدّاخل، وكان من آثار ذلك ما تعرفون من إخضاع الورد لدبابيس المجهر وصولا للبول فوق سطح القمر وإرسال الكلبة الهجينة لايكه للدّوران حوله قبل ذلك، كمزيد من الإذلال والحطّ من أهمّ ما كان يلهم الشّعراء البائسين لوصف من يحبّون أو ببساطة للشّكوى والمناجاة، فكان صباحا أغبر ونذير شؤم حين نفثوا في كلّ الأجهزة الخشبيّة في ذلك الوقت صورا تبيّن - يا للفضيحة - فعلا أنّ القمر كوكب قبيح وتافه وأنّ قلبه ميّت وجاف.

فكان التّفاح بذلك ألدّ أعداء الشّعر. الشّعر الذي يتماهى أساسا بتجاوز القوانين الثّابتة

والعطاء بدل الأخذ والتسامح بدل العقاب، والوعد بدل الوعيد والارتفاع بدل السّقوط.

2- ما دخل كلّ ذلك في منح الجائزة لأدونيس وليس لمحمود درويش؟

الجواب سهل وبسيط، فشعر محمود درويش متدلّق إلى الأرض. مرتبط بها ارتباطا لا سبيل للفكاك منه. ولولا نفس قطعة الأرض تلك المدنّسة بالدّم والتي كانت عبر كلّ العصور مذبحا ومسرحا لسفك دماء لا نهاية لكفكفة نزيفها، لما كان محمود درويش، أو الأصحّ لكان محمود درويش، ذلك أنّه أبدع في مواضع كثيرة رغم كلّ ثقل تاريخ أرضه الصّغيرة وحدّة أسياخ جغرافيّتها. واستطاع أن يكون مع الوقت ما يشبه ضميرا يتكلّم بلسان أمّة مظلومة مقهورة، فكان خطابه ومشروعه الشّعري مشدودا بذلك لمواقف وأحداث آنيّة، هيّ طويلة نسبيّا بقياس متوسّط العمر البشري، ولكنّها لا شيء أمام ديمومة الشّعر، ومتوسّط حيّز الخلود والتّاريخ خارج جغرافيّة التّاريخ وحدوده.

مقابل ذلك، نجد أنّ شعر أدونيس يحلّق بعيدا بعيدا عن هذه المدارات المحدودة، فقد انتبه منذ زمن طويل إلى أنّ قضيّة الشّعر هيّ تخليصه من كلّ ما هوّ أرضيّ فيه. فكانت الأرض بالنّسبة له بقعة تحت قدميه تذكّره بفضاضة عسكريّة، أنّه ليس إلهاً. وكانت علاقته بها علاقة الفطن لخطورة أمومة الأنثى في أسر طينتها ووليدها. فكان في أغلب شعره مارقا متحدّيا فاضحا لمكر الأرض والعلم والزّمن وكلّ العصابة المتحالفة ضدّ تحرّر الشّعر واستقلاليّته وأعاد الاعتبار لوظيفة العناصر الممكنة بمحاولة خلقها من جديد ثمّ تسميتها، بدل تكريسها وإعادة تجريبها وتلمّسها على اعتبار أنّها كانت موجودة بالفعل قبل وجودها الأصلي. (وعلّمنا آدم الأسماء كلّها).

لذلك فليس من الغريب في ضوء كلّ هذه المعطيات أن يعرف محمود درويش ببيته الشّهير - نازلا من نخلة الجرح القديم إلى تفاصيل البلاد ...-

في حين يجيبه أدونيس من هناك، من السّماء التي سوّاها، قائلا: (حاضنا سنبلة الوقت ورأسي برج نار...) ومن خلال مئات الأمثال المشابهة تتوضّح لنا ملامح الهمّ الحقيقي لكلّ منهما، متراوحا بين إطارين، الزّمان والمكان.

3- أسباب وعوائق لغويّة أيضا، تفضح التّرجمة بعضها بحدّة مؤلمة:

من البديهيّ أن يكون الشّعر عالميّا. ذلك أنّ كتابته أوّل الأمر بلغة معيّنة لا تفقده شيئا من تعاليه على كلّ اللّغات، وأنّ ذلك لم يكن إلاّ لقصور ومحدوديّة إمكانيّات تدوينه. فاللّغة، كلّ لغة صندوق صغير مصنوع بعناية من خشب أو طين الأرض وفق حاجيّات ملّحّة للتّواصل، وهي تتآكل من جوانب وتينع من جوانب أخرى، حسب الحاجة وتغيّر أمكانيّات الاتّصال والانفصال. ووفق تراكم متقاطع.

ولا غرابة أن نجد أنّ أبسط مساعد كيميائي يعرف من أسماء الزّهور ووظائفها أكثر من أيّ شاعر بنفس الزّمن والأرض. وربّما بسبب ذلك، بقي الشّعر متخلّفا في أغلب مناطق الأرض، عبر كلّ العصور، ما عدا بعض البلدان الأقلّ مصابا، كالصّين مثلا أو اليونان بسبب كبرياء ابداعيّة خاصّة جدّا. في حين نجد أنّ الشّعر العربي كان في أغلب الوقت مجرّد استعراض عضلات في إتقان لعبة اسمها التبييت لركوب بحر. والمحافظة بحذر في مسك رويّ وتوزيع الجراح بين صدر وعجز. هذا طبعا باستثناء بعض الحالات النّادرة جدّا استطاعت التحايل والخروج من هذا المأزق بقدرة شياطين أصحابها بالأساس ومنهم بعض أصحاب المعلّقات وثلاثة شعراء من العهد الأموي ثمّ مثل ذلك من العهد العبّاسي ونفس العدد موزّع على ألف سنة أخرى.

ولم تعرف التّجربة الإنسانيّة فترة لازدهار الشّعر مثل هذا القرن الذي نعيشه ونصف القرن الذي سبقه، حيث أمكن لنا عبر ترجمات متقنة وتقارب حدود الأرض من تطوير أدواتنا للفهم والتّذوّق وقبول الشّعر كتجربة إنسانيّة تخاطب الكائن البشري من داخل قضبان ضلوعه، فكان من نتاج ذلك أن تمدّدت مفاصل القصيدة أوّل الأمر، متخلّصة من حدودها المتخشّبة لتلد قصيدة تّفعيلة حسناء فتيّة يانعة، لكنّها تلوك الكثير من معتقدات أمّها وتكاد ترفل في نفس الثّوب التقليدي الدّاكن، بعد أن تمّ تفصيله لها من جديد بحيث أصبح أكثر إغراء وانحصارا عند الصّدر والكفل والرّكبتين وبعض الثّنايا الأخرى كما يليق بفتاة جميلة ومتحضّرة وتفهم الدنيا، في ذلك الوقت وبمقاييسه. ثمّ لم تلبث أن انتصرت طبيعة الشّعر كما كان عليه منذ البدء أن يكون، ولم يكن من الممكن إعادة المارد المخصيّ المبنّج لقمقمه بعد ذلك، فرمى بكلّ القيود مذكّرا إيّانا بصيحة شمشوم الجبّار حين جذب إليه بالعامودين صارخا:

«عليّ وعلى أعدائي». ... ولا أرى داعيا للتّذكير بأنّ أدونيس كان وراء كل ذلك.

وهو الذي هندس بتخطيط جبّار بدأ بمراجعته للثّابت والمتحوّل مع كثير من الشّاعريّة أمكن تطويرها بصبر ومهارة مذهلة، لم يكن من الممكن اكتسابها ولا تعلّمها. وهو بذلك كان أيضا، كان المتسبّب في فقء عين الدّمّلة ليحدث الجرح الضّروري. ومن المؤكّد أنّ الحشرات ستلعق من عطب هذا الجرح، ومن المؤكّد أنّ الجراثيم ستزيد رخوته وبطء التئامه، ولكنّ الأمل كبير، ولم يكن في أيّ وقت من الأوقات أكبر، لرجوع الشّعر لأصوله وعافيته، ولعب دوره الحقيقي والنّبيل في الإساءة لحرّاس القيود من الكائنات والجماد والظّنون، وفضح مزاعم ومكر العلم.

في ضوء كلّ ذلك، تساعد التّرجمة الجيّدة في الإسراع بوصول الشّعر لغايته من ناحيّة، ثم إنّها تتّخذ دور الحكم المحايد في غربلة خام الشّاعريّة

وفائض الشّعر من المحلّيّة و الشّعارات والتّحذلق وبقايا المقوّيات والدّسم المضرّ.

وقد بدأنا فعلا في التّمتع بثمار ذلك منذ ترجمة رامبو وليركه وغوته ونيرودا وقبلهم بوشكين وليرمنتوف ودافيدوف ويلسين وبودلير ومئات من الأسماء التي ساهمت في نقاحة جسم الشّعر العالمي العليل، بشدّ بعضه بعضا وتبادل الوظائف والخبرة بين مراكز تجمّع خلاياه. وسيكون لكلّ نصّ شعري حقيقيّ ومتين مترجم دور هامّ في التّخلّص من الدّاء والخدر.

والآن أطرح سؤالا ماكرا، ولن أجيب عليه:

ماذا استفاد الآخرون وماذا استفاد الشّعر العالمي من ترجمة محمود درويش؟ لنقل مثلا بالألمانيّة أو اليابانيّة أو البلغاريّة أو حتّى الهولنديّة:

(وكنت وحدي...أه يا وحدي ....؟؟؟!!!)

شخصيّا حاولت الكثير إقناع سيّدة ألمانيّة تعبد الشّعر بقصائد لمحمود درويش مستعينا بترجمات بين يديّ محترمة جدّا، وهي أفضل ما يوجد في سوق الكتب، ولكنّها كانت تنظر لي ببلاهة ثمّ بشفقة قبل أن تطلب كأس جين آخر.

طيّب، لقد سحرتها في نفس اللّيلة حين قرأت لها ما أحفظ من شعر أدونيس، وكانت تتنهّد كامل الوقت، حتّى أنّها سألتني إن كان يأكل بلحا ويركب الجمال مثلنا... وهي الآن تعلّق صورته حين كان في الخمسين من العمر في قاعة الضّيوف، وتلوي شفتيها حين يسألها زائر عن الصّورة، وتجيبه: أندونس !!

4- أنّ جائزة نوبل جائزة متواضعة، لكنّ مؤسّسها يمنحها لمن يشاء:

بعد كلّ هذه الشّروح، فإنّ جائزة نوبل جائزة شخصيّة ومتواضعة يمنحها النّادي الثّقافي أبو القاسم الشّابي بميونيخ، وبالتّحديد رئيسه والمشرف عليه شخصيّا، القيرواني المتواضع، كمال العيّادي الكينغ، للمبدعين الأحياء أو الأموات، وقيمتها مبلغ مئة وسبعين أورو يعلم الله كيف وفّرناه، إضافة لقلم حبر جيّد ومحفظة جلديّة من الصّناعات التّقليديّة التونسيّة.

ويمكن لكلّ شخص لم يعجبه قرار منحي للجائزة لأدونيس أن يبعث بنفسه جائزة ويمنحها لمن يشاء ممّن يراه جديرا بذلك. دون التّهجّم على شخصي بدون موجب.

أنا حرّ أن أهب جائزتي لمن أشاء. وربّما غيّرت اسمها أيضا حتّى لا يظنّ الصّائدون في الماء العكر المتربّصون بي وبالنّادي الثّقافي الذي أشرف عليه بميونخ أنّني سميتها كذلك لاستغلال اسم جائزة عالميّة معروفة جدّا تكتب بحرف الباء

B – NOBEL

وليس بحرف الباء اللاّتينيّة التي يكتبها الكثير بدمغ ثلاث نقاط في الأسفل.

P / NOPEL

كما هوّ الشّأن مع جائزتي هذه، التي أمنحها لنفسي ولأصدقائي ممّن أؤمن بهم حقّا، وأفعل ذلك بكلّ نزاهة، مقتطعا قيمتها من مصروفي الشّخصي وعلى حساب ميزانيّة النّادي الذي أموّله منذ ثلاث سنوات بنفسي. رافضا أن يركبه أيّ حمار أو بغل، يأكل من زادي ويمسكني على حدّ قول المتنبّي. ثمّ بصراحة ليست مشكلتي أنّ الحروف الأبجديّة توفّر حرف الباء (B) بكرم حاتميّ ولكنّك لا تجد بها حرف الباء (P) المقصود لحدّ اليوم.