من لا يقرأ التاريخ جيداً ويستوعب متغيراته لن يفهم حاضره، ولن يستشرف مستقبله.
وحياة البشرية في تغير مستمر، فإن أخذت دورة الزمن دورتها دون أن تقرأ تلك المتغيرات ستجد نفسك متأخرا عن محيطك، وأعتقد أن الأمة العربية -وإلى حد ما الإسلامية- مرت عليها دورة الزمن دون أن تقرأ ذلك جيدا، فأصبحنا متخلفين عما وصل إليه العالم من متغيرات طالت جميع الصعد.
وفي ذلك يقول عالم الاجتماع العراقي علي الوردي في كتابه «خوارق اللاشعور»: «إن الحياة في حركة متواصلة.. وهي في الواقع متقلبة، إذ هي تتغير من يوم إلى آخر، ولا ينجح فيها إلا ذلك المحنّك الذي يرقب تغييرها بعين ثاقبة، وينتهز فرصتها المتراكمة انتهازا عاجلا».
هذا على مستوى الأفراد، فما بالكم بحياة أمة؟
والأمة -كما يعرف المختصون- هي خليط من أديان وعرقيات مختلفة ومتباينة في عاداتها وتقاليدها وبالتالي في أنماط تفكيرها وسلوكياتها.
ومجتمعاتنا تعيش -راهنا- تحت وطأة العادات والتقاليد التي تحولت مع تقادم الزمن إلى «نظام» يصعب كسره!! بل أصبحت عرفا، علما أن أغلبها يتعارض مع صريح الدين.
ولعقود خلت لم يأت قائد يبرهن لهذه الأمة عن وجود مقومات ومقدرات يمكن استثمارها في الفرد والمجتمع ومن ثم الدولة، وتأخُر مجيء هذا القائد أفضى إلى تكوين مجتمعات استهلاكية تعتاش على اقتصاد ريعي، وباتت تمثل عبئا ثقيلا على كيان الدولة.
ومن هنا أرى أن عملية التغيير في المجتمعات لا تتحقق إلا عبر فرد، نعم الفرد البطل، لأن التاريخ البشري لم يقدم أنموذجا واحدا يؤكد أن مجتمعا ما قدّم للبشرية (تجربة دولة) دون تدخل من قائد!!
لا يمكن لمجتمع أن يتطور بسبب أن هذا المجتمع غيّر من نمط حياته واستثمر مقدراته وأدى إلى تغيير إبداعي.
هذا لم يحدث قط، بل تجارب التاريخ -وما أكثرها- برهنت أن القائد هو من يتولى عمليات التغيير في المجتمع.
وأنا -على المستوى الشخصي- أؤمن أن الديمقراطية لا تحقق حلما لمجتمع مهما بلغت وتعددت ثرواته، كما أنها لا تحمي الدولة من التهاوي، ولمن يريد معرفة أهمية العظماء في النهوض بالمجتمعات وبناء الدول والإمبراطوريات عليه الرجوع إلى كتاب «أهمية البطل في التاريخ» للفيلسوف البريطاني كاريل.
من هنا تأتي مسؤولية الحاكم التاريخية للأمة، كيف يستطيع أن يقرأ حاضر ومستقبل أمته بما يتوافق ومتغيرات العصر الذي يعيش.
حاضرا، لا توجد تجربة ناجعة تستحق أن نطلق عليها ما سبق سوى تجربة الأمير محمد بن سلمان، وهي تجربة حركة.. وتصيّر، استوعبت ضرورة التغيير ومواكبة العالم الحديث.
* * *
المملكة العربية السعودية، تشهد تجربة رائدة في الحركة والتصيّر، قرأت جيدا متغيرات العصر، وهي متغيرات هائلة على مختلف الصعد، ليس أقلها ثورة الاتصالات التي انعكست على سلوك الأمم (سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا).
وهذه التجربة الوليدة التي انطلقت بواكيرها تحتاج إلى مساحة من الوقت لكي يشهد العالم أنها أينعت.
وتجارب التاريخ تثبت أن كل ظاهرة تهدف إلى تغيير ما هو سائد وتقليدي للأخذ بالأمة إلى حيث بلغت الأمم المتطورة، تواجه بتحفظ من التفكير الجمعي السائد، هؤلاء لا يحذقون ما يحدث!! فهم جدليون لا طائل من مجادلتهم، لأنه مهما أتيت بحجج فلن تفلح في إقناعهم، وإن فعلت وجادلتهم فسوف تخسر شيئين مهمين، الوقت والشك، فهم يفقدونك وقتك، وقد يزرعون في أعماقك بذرة التشكيك في مشروعك، وما نريد قوله إن الإنسان الناجع عليه ألا يتراجع حين يصطف حوله الجدليون، لأنه إن ترك الباب مواربا «لأفكارهم» فلن يتقدم قيد أنملة.
وهم معذورون في ذلك لأن عامة الناس ممن لا يقرأون المستقبل يجهلون كيف يديرون أمور حياتهم اليومية، فما بالكم بمصير أمة؟
إن المبدع لن يستطيع أن يفرغ إبداعه إذا ركن إلى المبدأ الأرسوطاليسي، لأن الإبداع حالة لا شعورية تنبثق في وقت يحدده اللاشعور الكامن في أعماقه، (كما هي حالة الشاعر حين يهدي الإنسانية قصيدة عظيمة) فإذا ما دخل في جدلٍ مع المناطقة فلن يكمل مسيرته، وفي هذا يقول وليم مارستون في كتابه «امض قدماً»: «إن الأغلب فيمن أصابوا نجاحا كبيرا كان الفضل في ذلك إلى العمل بما يهيب بهم من نفوسهم».
* **
المملكة العربية السعودية كانت بحاجة لمن يكمل مسيرة المؤسس الملك عبدالعزيز -رحمه الله- ولكن بمعطيات حديثة، دون أن تغفل موازين القوى العالمية التي بدأت في التغيّر.
القائد الذي يتنبأ باكرا باختلال موازين القوى العالمية ويسارع إلى مجاراة تلك الاختلالات للحفاظ على الأمن القومي لأمته لا شك أنه قائد حاذق، لقد بدأنا نشاهد انهيارات متسارعة لرأسمالية أمريكا، ففي أقل من أسبوعين تابعنا انهيار 3 بنوك أمريكية (سيليكون فالي خسر 212 مليار دولار، وبنك سيغنتشر فقد 110 مليارات دولار، وبنك سيلفر غيت فقد 11.4 مليار دولار)، وفي الجانب الآخر، تابعنا الأخبار التي تشير إلى أن البنوك الأوروبية تكبدت خسائر بـ100 مليار دولار عقب إفلاس بنك سيليكون فالي، وهو ما أشار إليه رئيس بنك كريديت سويس: «هناك مخاوف من انتشار أزمة بنك سيليكون فالي على نطاق العالم».
ولعل الأزمة الأكثر عمقا في بريطانيا، ولكن لم يسلط عليها الضوء، وستكشف الأيام القليلة المقبلة ذلك.
السؤال الأهم: كيف استطاع الأمير محمد أن يقرأ أو يتنبأ بتلك المتغيرات في موازين القوى؟!!
* * *
لقد أتى الأمير محمد بن سلمان في وقت مفصلي، كنا نتألم حسرة ونحن نرقب الأمم الأخرى تسابق الزمن، ونحن ساكنون نجتر الألم والحسرة.
ولكن حين أتى الأمير محمد وأطلق ثورته الإدارية والاقتصادية والسياسية والثقافية استبشرنا خيرا بهذا القائد الرمز.
وأستطيع القول إنه القائد الذي يسير وفق أسس حديثة.. إنه يؤسس لبناء دولة المستقبل.