-A +A
خالد نايف الهباس
يخطئ الذين يتحدثون عن حرب باردة جديدة, أو هم يتحدثون عنها بشكل مجازي بهدف المحاكاة وليس المطابقة لوضع دولي ماض. فالحرب الباردة كانت تنافساً متعدد الجوانب: اقتصادياً, سياسياً, أيديولوجياً, وعسكرياً. كان العالم فيه منقسماً على نفسه إلى كتلتين متنافستين, لعبت الأسلحة النووية إبانها دوراً بارزاً في تلافي العالم حرباً عالمية ثالثة. وقد انبثق عن هذه الوضعية العالمية الغابرة نظام أحلاف ثنائي تابع لثنائية القطبية في القوة الدولية آنذاك. لكن الصورة اليوم تختلف كثيراً عما كانت عليه.
صحيح أن هناك بوادر قوية لعودة التنافس بين روسيا وأمريكا, لكن ذلك وفق تقديري لن يكون مشابهاً للماضي, بل سوف تكون له أنماط تفاعل وقوانين مختلفة عن السابق. الحرب في القوقاز بين روسيا وجورجيا أشعلت فتيل التخمينات عن عودة قوية لروسيا إلى الساحة الدولية متحديةً بذلك إرادة أمريكا ومن ورائها حلف الناتو لبسط سيطرته على العالم. لكن يجب أن نأخذ بالاعتبار أن روسيا كالنمر الجريح, وليس أي شيء آخر. أمريكا والناتو هاجما روسيا في عقر دارها بعد السقوط المدوي للإتحاد السوفيتي, ولا تزال أمريكا تحاول أن تثخن جراح روسيا من خلال محاصرتها في محيطها الإستراتيجي, القوقاز. في المقابل روسيا بدأت تتعافى نسبياً وتحاول استعادة ماء الوجه وتقليل خسائرها قدر الإمكان من خلال الحفاظ على ما تبقى ومنع أي خسائر جيوسياسية أخرى.

ما يحصل هو سباق وصراع محمومان بين القوى الكبرى- أمريكا, روسيا, الصين, أوروبا, ومن الممكن الهند قريباً,- على النفوذ والمصالح حول العالم. وهذا الصراع على النفوذ والمغانم الاقتصادية ليس بجديد؛ فدائماً ما شهد العالم هذا النوع من التعاطي السياسي بين القوى العظمى. الفارق الوحيد أنه خلال الحرب الباردة كان هناك نظامان متعارضان في كل شيء تقريباً, وكثير من دول العالم الأخرى اضطرت إلى التحالف مع إحدى القوتين العظميين للحصول على الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي والتقني لأهدافها الخاصة, وأحياناً أخرى وجدت نفسها تدخل مرغمةً في حروب بالوكالة. رغم أن الغالبية العظمى من دول العالم اختارت رسمياً الحياد ودخلت في عضوية منظمة عدم الانحياز بعد إنشائها عام 1961, لكنها فعليا ناصرت طرفاً أو آخر بما في ذلك مصر والهند ويوغسلافيا- الدول الثلاث الرئيسية في حركة عدم الانحياز.
ما يحصل الآن في العالم هو عدم رضا عن تسّيد أمريكا للمشهد السياسي الدولي, خاصةً من قبل روسيا والصين. ولو تركت أوروبا لوحدها لوجدت لها سبيلاً للتعامل بعقلانية مع روسيا وستجد نفسها مجبرة على التعاون مع روسيا لأن روسيا دائماً ما كانت دولة عظمى ومؤثرة على الساحة الدولية وسوف لن يكون بالإمكان عزلها, لاسيما بالنسبة لأوروبا التي تعتمد على موارد الطاقة الروسية.
ما يحصل الآن هو عدم رضا عن قوانين اللعبة الدولية, وعدم رضا عن آليات التنظيم الدولي المتمثلة بالأمم المتحدة وما يتبع لها من أجهزة. هناك إدراك من قبل القوى الكبرى المناوئة لأمريكا بالحاجة إلى إعادة صياغة النظام الدولي ومؤسساته بحيث تعكس عالماً متعدد الأقطاب تعترف فيه أمريكا بوجود قوى عظمى أخرى لها مصالح يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار.
ما يحصل الآن هو فشل لنظريات التبشير السياسية الغربية حول سيادة الفكر الليبرالي الغربي وأن القيم الاقتصادية والسياسية الغربية هي القادرة على البقاء وأنها سوف تكتسح بقية دول العالم. روسيا أصابت المنظرين الغربيين بالإحباط لأنها لم تصبح دولة ليبرالية (رأسمالية اقتصادياً وديمقراطية سياسياً). بل لا تزال تحتفظ بنظام سياسي تسلطي إلى حد ما يوظف طموح الهيمنة والنفوذ على آليات العمل الديمقراطي الحر. وكذلك هي الصين احتفظت بنظام مختلط حقق لها التقدم الاقتصادي السريع. وفي اعتقادي أننا نشهد ولادة عالم متغير وصراعاً لا يزال في طور التبلور.
knhabbas@hotmail.com
للتواصل ارسل رسالة نصية sms إلى الرقم 88548 تبدأ بالرمز 145 مسافة ثم الرسالة