لا يُعلم على وجه اليقين ما إذا كان الشعور الذي انتاب الكاتب والروائي البرتغالي «أفونسو كروش» إبان قراءته رواية «جزيرة الدكتور مورو» للإنجليزي البارع «هربرت جورج ويلز» قد دفع به إلى الاعتقاد بأن الرواية قد تلتهمه وتقذف به نحو الشاطئ ليتشارك و«برينديك» دهشة الاكتشاف ومحاولات الهرب من المخلوقات المتحولة، أم أن تساؤلًا عما إذا كان بمقدور الكتاب أن يلتهم قارئه قد لمع فجأة في مخيلته فعمد إلى صياغته من خلال عمله الروائي ذائع الرواج «الكتب التي التهمت والدي» كما يفعل الروائيون عادةً حيال تساؤلاتهم.
لكن ما يبدو أكيدًا أن في إحالته القارئ إلى أربعٍ من أشهر الروايات العالمية وأجملها إشارة إلى يقينه بأن للكتب قدرة تفوق ما نعتقده، وللقراءة أثرًا يتجاوز الإمتاع والإثراء.
تتطلب القراءة انصياعًا تامًا لإرادة الكِتاب وتماهيًا مع أفكاره، وتفترض قدرًا وافرًا من الانتباه والعناية حيال إيماءاته وسكونه، فيما يفترض القارئ إزاء ذلك أن يحظى بالحد الأدنى من المتع الصغيرة والمباهج المخبأة خلف جمله وبين صوره فيجدُّ في التهام صفحاته الواحدة تلو الأخرى، آملًا أن تماثل في أثرها ما حظي به سابقًا، بيد أن ما تجترحه القراءة أعمق وأبعد من مجرد إمتاعه وإبهاجه، فمن خلالها يستطيع أن يكتشف عالمه الداخلي وباستمرارها يتشكل وجدانه وتتأثر مناخاته وأمزجته وعبرها يستطيع أن ينفذ إلى أكثر المناطق تعقيدًا في روعه، وعلى عكس المتعة والبهجة اللتين تنطويان على فنائهما فإن الأثر الذي تتركه رواية حيكت بعناية وحبكت بدراية يبقى راسخًا في وجدانه متأصلًا في طويته مشكلًا لعاطفته؛ وهو التهام مجازي كالذي عناه كروش.
ثمة كتب قصية ومغتربة على غرار جزيرة ويلز، وثمة ما يبدو غريبًا كالمخلوقات التي تسكنها، وهناك ما يبدو كشعاع يضمحل لإصراره جلاء أفكارنا والكثير منها لديه القدرة على التهام جزء يسير منا، ولكن ثمة ما يستطيع التهامنا بشكل كامل.
فبهدف مواجهة المزاج النائي والتوتر الذي يباغته أحيانًا في ليالي الشتاء، قد يلازم قارئ ما أريكته المفضلة ليقرأ رواية كما «وراء الشتاء» للكاتبة والروائية التشيلية «إيزابيل الليندي»، ولكن كتابًا كهذا سيتحول إلى مخلوق محسوس بعنق رفيع وعينين نابهتين وشعر كستنائي، وسيستدعي عاصفة ثلجية ثم يضطجع الأريكة المقابلة ليحدث قارئه عن الحب المتأخر والمهاجرين الوافدين إلى أمريكا، فبإمكان كاتبة، كإيزابيل، أن تخلق في روع قارئها شتاءه الخاص وتدثره بحميمية جملها وتأخذه إلى عوالم متعددة من الرؤى والأفكار ليشعر أنه وكأنما يسكن قبوًا في ليلة عاصفة ويستمع إلى فريديريك شوبان.
قد تنطوي قراءة راوية ما لـ«ايزابيل الليندي» في إحدى ليالي الشتاء على شعور محفوف بالكثير من الوجع وعاطفة يثقلها الفقد فلا شيء يوازي قدرتها على إثارة عاصفة تعبر من خلال الروح لتضرب ما بنته من آمال لصباح الغد، فقد اعتادت أن تطرح الكثير من القضايا الشائكة الدقيقة وتحاجج من خلال الحزن المتجذر في أعماقها وهي حرية بتأليف كتب تلتهم القارئ.
وكذلك هو العبقري الروسي «فيودور دوستويفسكي» في روايته «مذكرات قبو» على سبيل المثال؛ إذ إن انجذابًا ملتبسًا إلى بؤسه سيحيل قارئه إلى قارب صغير في بحر متلاطم الأمواج، ولن يلبث حتى يقفز عن قاربه مستسلمًا للغرق ولرغبة التهامه عن طيب خاطر؛ كما هو باتريك زوسكيند وستيفان زفايغ وكثر غيرهما.
وبخلاف ما يعتقده القارئ حيال ما تذروه رياح النسيان عن ذاكرته، فإن للكتب طريقتها في استعادة شتاتها وتجاوز قتامة الزمن والعودة مرة أخرى على هيئة أفكار ورؤى تسكن لا وعيه وتتمدد في جغرافيا عاطفته وتبسط نفوذها على أفكاره، وهو باعتقادي ما عناه كروش الذي طرح إجابته الخاصة وخلق من خلالها أفقًا رحبًا للتخمين.
لكن ما يبدو أكيدًا أن في إحالته القارئ إلى أربعٍ من أشهر الروايات العالمية وأجملها إشارة إلى يقينه بأن للكتب قدرة تفوق ما نعتقده، وللقراءة أثرًا يتجاوز الإمتاع والإثراء.
تتطلب القراءة انصياعًا تامًا لإرادة الكِتاب وتماهيًا مع أفكاره، وتفترض قدرًا وافرًا من الانتباه والعناية حيال إيماءاته وسكونه، فيما يفترض القارئ إزاء ذلك أن يحظى بالحد الأدنى من المتع الصغيرة والمباهج المخبأة خلف جمله وبين صوره فيجدُّ في التهام صفحاته الواحدة تلو الأخرى، آملًا أن تماثل في أثرها ما حظي به سابقًا، بيد أن ما تجترحه القراءة أعمق وأبعد من مجرد إمتاعه وإبهاجه، فمن خلالها يستطيع أن يكتشف عالمه الداخلي وباستمرارها يتشكل وجدانه وتتأثر مناخاته وأمزجته وعبرها يستطيع أن ينفذ إلى أكثر المناطق تعقيدًا في روعه، وعلى عكس المتعة والبهجة اللتين تنطويان على فنائهما فإن الأثر الذي تتركه رواية حيكت بعناية وحبكت بدراية يبقى راسخًا في وجدانه متأصلًا في طويته مشكلًا لعاطفته؛ وهو التهام مجازي كالذي عناه كروش.
ثمة كتب قصية ومغتربة على غرار جزيرة ويلز، وثمة ما يبدو غريبًا كالمخلوقات التي تسكنها، وهناك ما يبدو كشعاع يضمحل لإصراره جلاء أفكارنا والكثير منها لديه القدرة على التهام جزء يسير منا، ولكن ثمة ما يستطيع التهامنا بشكل كامل.
فبهدف مواجهة المزاج النائي والتوتر الذي يباغته أحيانًا في ليالي الشتاء، قد يلازم قارئ ما أريكته المفضلة ليقرأ رواية كما «وراء الشتاء» للكاتبة والروائية التشيلية «إيزابيل الليندي»، ولكن كتابًا كهذا سيتحول إلى مخلوق محسوس بعنق رفيع وعينين نابهتين وشعر كستنائي، وسيستدعي عاصفة ثلجية ثم يضطجع الأريكة المقابلة ليحدث قارئه عن الحب المتأخر والمهاجرين الوافدين إلى أمريكا، فبإمكان كاتبة، كإيزابيل، أن تخلق في روع قارئها شتاءه الخاص وتدثره بحميمية جملها وتأخذه إلى عوالم متعددة من الرؤى والأفكار ليشعر أنه وكأنما يسكن قبوًا في ليلة عاصفة ويستمع إلى فريديريك شوبان.
قد تنطوي قراءة راوية ما لـ«ايزابيل الليندي» في إحدى ليالي الشتاء على شعور محفوف بالكثير من الوجع وعاطفة يثقلها الفقد فلا شيء يوازي قدرتها على إثارة عاصفة تعبر من خلال الروح لتضرب ما بنته من آمال لصباح الغد، فقد اعتادت أن تطرح الكثير من القضايا الشائكة الدقيقة وتحاجج من خلال الحزن المتجذر في أعماقها وهي حرية بتأليف كتب تلتهم القارئ.
وكذلك هو العبقري الروسي «فيودور دوستويفسكي» في روايته «مذكرات قبو» على سبيل المثال؛ إذ إن انجذابًا ملتبسًا إلى بؤسه سيحيل قارئه إلى قارب صغير في بحر متلاطم الأمواج، ولن يلبث حتى يقفز عن قاربه مستسلمًا للغرق ولرغبة التهامه عن طيب خاطر؛ كما هو باتريك زوسكيند وستيفان زفايغ وكثر غيرهما.
وبخلاف ما يعتقده القارئ حيال ما تذروه رياح النسيان عن ذاكرته، فإن للكتب طريقتها في استعادة شتاتها وتجاوز قتامة الزمن والعودة مرة أخرى على هيئة أفكار ورؤى تسكن لا وعيه وتتمدد في جغرافيا عاطفته وتبسط نفوذها على أفكاره، وهو باعتقادي ما عناه كروش الذي طرح إجابته الخاصة وخلق من خلالها أفقًا رحبًا للتخمين.