-A +A
عبده خال
يبدو أنني سأدمن غزل الدكتور سلمان العودة، فبرنامجه (حجر الزاوية) أطل من خلاله كشخصية مفكرة تجمع مابين حركية العقل الجبارة وبين عمق النصوص المتفجرة في كل زمان والتي تنبه لحركيتها المتدفقة كفار قريش منذ أن سمعوا تلك الآيات الكريمة كقول الوليد بن المغيرة (إن أعلاه لمثمر وأن أسفله لمغدق)، فهذا الشطر من مقولة الوليد بن المغيرة هي دلالة تكتسب أهمية قصوى، فرأي الخصم المنصف يكون حجة، والنصوص القرآنية أو الأحاديث النبوية هي بحاجة للعقلية التي تستنبط الأعمق والذي يفيض في كل زمان وفق معطياته ليبين أن هذا الماء يمكن أن تشربه حاراً أو بارداً وفق حالة وقوفك من هذا النهر الجاري إلى أن تقوم الساعة. إن الدكتور سلمان العودة خرج بالدراسة والتمحيص والملاحظة كشخصية منبتة على أرض واقعنا الحالي، وهذه مقولة ليست إقلالا من شأن أحد إلا أنها ملاحظة يمكن لنا جميعا تتبع الخطاب الديني الذي يموج في حياتنا اليومية ويجعل المرء يتساءل: لماذا يتفرد الدكتور سلمان العودة بهذا الاتساع بينما تضيق عقول الكثيرين عن السعة التي يمكن التحرك فيها ضمن الإطار. فهناك شخصيات لاتستطيع بعقليتها المنغلقة الخروج من حالة الضيق إلى حالة السعة، ولهذا تكون شخصيات متأزمة ترى في كل فعل إنساني خطراً على الدين. في حين أن الدين مسألة تبليغية، والتبليغ يقتضي سعة الحجة وسعة الأفق وسعة الصدر. فليس كل مخالف لخطاب ديني بالضرورة أن يكون ضد الدين، فربما تكون مقولاته المضادة هي شحذ الهمة لاستنباط الإجابات التي لم تقل في زمن سابق لاختلاف المعطيات.
وهذا بالضرورة يقود إلى الحديث عن أن هناك شخصاً ضيق الصدر والرؤية يرى في كل فعل أنه أداة هدم، بينما هناك شخص يرى في نفس الفعل أنه أداة بناء، رغم أن الفعل هو نفسه، فالمعرفة توسع المدارك وتجعل الرؤية ترى الأبعد والأعمق، ويغدو تعبيرها عن أي حالة تعبيراً متزناً، ربما تكون عبارته مشفرة لكون من يسمع لايستطيع الوقوف على صلاح الفعل في نفس الوقت الذي هو فيه ولذلك فكثير من الآيات القرآنية هي آيات ترميزية تفهم في زمنيتها ولذلك بجل اللغويون مقولة النفري: (كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة). وضيق الرؤية يجعل الشخصية قادرة على التسرع في الحكم ودفع الناس للاحتراب، وليس للبناء. وتصبح مثل هذه الشخصيات خطرة على الدعوة الاسلامية وعلى صورة الاسلام في زمن يتحرك في فضاء الاعلام، فأي مقولة متعصبة أو تنطلق من عقلية ضيقة الأفق يتم ترويجها أكثر من أي مقولة متسامحة، وليس بالامكان ان تتمنى على هذه الشخصيات التنبه لخطورة الفتوى أو إبداء الرأي الحاد في وسيلة إعلامية لكون نفس الشخصية ترى الفساد في كل فعل. بينما كل فعل له مستويات في التلقي وفي الأثر، وله صورة ظاهرة وصورة باطنة، وله هدف قريب وهدف بعيد.. لنتعمق في الأحداث التالية: صلح الحديبية، توزيع الغنائم في معركة حنين، نقض معاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة الخندق من قبل اليهود، موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من الرجل الذي قال له: اعدل يامحمد، ندم عمر بن الخطاب من موقفه من جبلة بن الأيهم، تخاصم الصحابيين الجليلين سعد بن أبي وقاص وعبدالله بن مسعود على مال بيت المسلمين في العراق، موقف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في معركة الجمل. مواقف لا حصر لها كانت تمثل حركية إرسال واستقبال، فالعقلية الضيقة تستقبل الحدث وفق ضيقها، والعقلية المنفتحة تجد اتساعاً للفعل الحادث.
وعندما أقول ان الدكتور سلمان العودة يمثل الان الشخصية المنبتة في واقعنا الحالي كونه افترق عن الخطاب المتزمت ليؤسس خطوات في الخطاب المتسع، الذي يعرف تماما انه يمتلك خطابا ليس هو الخطاب الوحيد الموجود على الأرض بل هو خطاب من جملة خطابات تموج في العالم وأن من يسود منها هو الخطاب التبليغي ذو السمة المتسعة وليس ذا السمة الضيقة (لنلحظ الخطاب التبشيري كيف يتحرك وماهي آلياته).
لا أحد يرغب في أن نتخلى عن ديننا ولكن جميعنا يرغب في أن تكون الشخصية المتحدثة باسم الدين هي شخصية غير مأزومة أو قلقة أو ترى أن الخطاب الذي يقود الناس من أعناقهم هو الحل أو أن الوسيلة الوحيدة لبقاء الاسلام هي التهديد بالقتل والتصفية. إن دم الانسان هو دم مصان عند رب العالمين وليس دما مسفوكا مباحا مجانيا كما يرى البعض.
الأمنية التي أتمنى ان يجيب عليها الدكتور سلمان العودة وتخصص لها حلقة هي الحديث عن تجربته الذاتية في كيفية انتقاله الى هذه السعة، فذكر هذه التجربة قد تفيد البعض لتغير أدوات التفكير لديه وتوسع مداركه.

abdookhal@yahoo.com