هناك من يركن إلى الإلهام بوصفه الأداة الأهم في الكتابة، وهناك من يختلف مع هذا الرأي جملةً وتفصيلاً، ولعلّ الروائي صنع الله إبراهيم واحد من هؤلاء المختلفين الذين ينفون الإلهام جملةً وتفصيلاً، ويرى أنه أكذوبة اخترعها الكتّاب؛ كي يعملوا لأنفسهم هالة!
ابتكار ذاتي وليس إلهاماً خارجياً
الكاتبة العراقية لطيفة الدليمي كان لها رأي مفصّل في مسألة الإلهام نشرته في مقال، رأت فيه أنّ الكتابة الإبداعية لا ترتبط في مرحلة الاحتراف المتقدم بوجود عنصر إلهام محفز، خاصة في مجال القصة والرواية، إلّا أنها لا تستبعد أن يصح الأمر على بعض أنماط الكتابة الذاتية وبعض طرز الشعر، أما السرد القصصي والروائي فإنه يتطلب مرجعيات متعددة تقوم عليها بنية النص وتيسّر له إنتاج العمل السردي؛ منها مؤثرات مكانية وإنسانية وخزين معرفي وخلاصات تجارب وأبحاث ورؤى متباينة للعالم والزمان والمكان والشخوص. وترى أنّ الركون إلى ما يدعى بالإلهام في مرحلة تلمس سبل الكتابة، فترة المراهقة الإبداعية حين لا يزال الكاتب أو الكاتبة مشروع مبدع لم يمتلك بعد أدواته ورؤيته الخاصة وقدرته التخييلية المدربة ولم يكتشف أسلوبه الشخصي بالمثابرة، فيقتنص أو تقتنص شرارة نص ما من حالة تناغم إنساني أو وهجة وجدانية أو مغامرة عشقية أو الإعجاب بفكرة شخص يمثل للكاتب والكاتبة حلماً ما، لكنّ التجربة الإبداعية كما كتبت الدليمي تتخطى فكرة الإلهام الخارجي إلى الابتكار الذاتي عندما تستند التجربة الإبداعية إلى سعة الحياة ومكوناتها، وأحلام النفس الإنسانية وخرابها وازدهارها واندحارها وعقدها واختلاف نزوعاتها!
مكوّن من مكوّنات النصّ الإبداعي
الشاعر الحسن آل خيرات، رأى أنّ الألفاظ والمعاني ليست وحدها مكونات النص الإبداعي، إذ لا بد إلى جانب ذلك من مكونات أخرى يأتي في مقدمتها الإلهام؛ وهو عنصر أساس في مخاض وميلاد النص بالصورة التي تدهش المتلقي وتكتسب الخلود، وهذا النوع من الإبداع ليس من السهل الوصول إليه بغير شجرة الإلهام التي لا يرتقيها ولا يهزها فتسقط ثمراً شهيّاً غيرُ المبدع.
وأكد أنّ الإلهام عنصر فني لا يمكن إغفالُه ولا التنظير حوله بما يجعله أمراً ثانوياً أو بضاعة ملقاةً على الطريق، وأضاف، لو سلمنا جدلاً بما يراه صنع الله إبراهيم فهو يصح على فئة محسوبة على المبدعين غير أنها ليست منهم ولا تمت لهم بأدنى علاقة، لذلك يلجأ بعض المصابين بمتلازمة الظهور الإعلامي والاجتماعي لشراء إبداعات الآخرين أو سرقتها بصورة مباشرة أو غير مباشرة لسد ثقوب أرواحهم المهترئة.
الإلهام لا يدرك بالحواس
الناقد الأدبي محمد الحميدي قال: لا يمكن إدراك الإلهام بالحواس فهو يعرف بآثاره ومن أبرزها إتيانه بالجديد وغير المألوف، لكنه يتقاطع مع الابتكار والاختراع؛ اللذين هما نتيجة عمل مستمر ومثابرة في الوصول إلى النجاح، والأدباء على هذا الأساس يتفاوتون في كتابتهم بين الطبع والصناعة، فالطبع ما يأتيك من إلهام (عفو الخاطر) ودون قصد أو سعي، بينما المصنوع ما تسعى إليه وتجتهد في تحصيله وتجويده، وهي قضية قديمة شغلت الرأي العام منذ قرون ولا زالت، ولم يصل أحد إلى نتيجة حاسمة فيها، فالإلهام بهذا المعنى يقع خارج التجربة الإنسانية ولا يمكن قياسه أو معرفة حدوده، لكن يمكن تهذيبه وتجويده وهو ما يعمل عليه الأدباء، حين يتناولون موضوعاً من المواضيع، حيث الكتابة صنعة تحتاج إجادة ومهارة تتمثل في الإتقان وعدم ترك الثغرات والعيوب، وهو يأتي من التعديل والمراجعة وإعادة القراءة، التي تعتبر مرحلة أساسية ومهمة من مراحل ما قبل إنتاج النص ونشره، وأكد الحميدي أنّ الإلهام والابتكار يرتبطان بالعبقرية، وهو الوصف الذي يطلق على الكتابة الإبداعية المحكمة ذات الفكرة غير المألوفة، وحدود العبقرية غير معروفة ولا يمكن الإحاطة بها كما هو شأن الإلهام، وقد يصح أن تشير إحداهما إلى الأخرى وإن كانتا مختلفتين، فالعبقرية لا تختص بالإلهام ولا تقتصر عليه لأنها تشمل الابتكار والاختراع كذلك، وهو ما يطرح تساؤلاً حول الفرق بين الإلهام والابتكار من ناحية تكوُّن كل منهما.
وأضاف: يصدر الإلهام فجأة ويأتي دون إنذار، فهو حديث في الخاطر (النفس) يلقيه شيطان من الشياطين (الاعتقاد القديم)، يتناول موضوعاً يشغل بال الأديب فترة زمنية قد تطول وتقصر، حتى إذا انغمس في تفكيره وتأملاته وامتلأت نفسه بأحاديثه؛ أتت النهاية بحلول غير متوقعة ولم يكن قد فكر فيها وخطرت على باله، فيدونها ككتابة مبدعة متميزة تختلف عن كتابات الآخرين، تنتشله مما وقع فيه من التفكير إلى حالة مفارقة ومرحلة جديدة، تتيح انتقاله إلى موضوع آخر وحالة مختلفة، أما الابتكار والاختراع فنتيجة عمل جاد وجهد منظم واستمرار في التجريب والاختبار، حتى يصل الأديب إلى الشكل المرغوب والأسلوب المفضل، وبعد الانتهاء من الكتابة والتدوين يعود إليه بالتعديل والتنقيح؛ تلافياً لأي خطأ يمكن أن يكون أُرتكب.
موضوع الإلهام معقّد!
الروائي والقاص محمد الأحمدي أكد أنّ موضوع الإلهام معقّد فيما يخص الكتابة وحتى الإبداع؛ صحيح أن بعض الكتّاب أرادوا بالإلهام إضافة هالة من الغموض وربط أنفسهم بإبداع خارق ما يُستوعب، ولكن في الوقت نفسه من الـصعب أن تغفل فكرة أنّ لحظات الإلهام حقيقية في الكتابة، لهذا أرى الموضوع كالتالي:
أراهن أن كل كاتب عاش لحظات الإلهام، ولكن الوصول إليها ما كان برسالة ربانية أو عبر مرسول من وادي عبقر، ولكن ببساطة ساعات من الانشغال بالكتابة والقراءة وتصفية الذهن، وهذه خطوات يستطيع أي كاتب خلقها لنفسه وتتبعها.
وأضاف: لحظات الإلهام التي ليس للكاتب يد فيها -التي تسقط سقوطاً من السماء- مثل رؤية شهاب، لا ينتبه له إلا من يشخص ببصره على الدوام ويترك وقتاً لتأمل السماء، ومع هذا قبل أن يشبع الشخص من منظرها تختفي، لهذا لا يعوّل عليها ولا يُلتفت لها.
وحتى هذه اللحظات لها مقدّمات كثيرة ولا تأتي من فراغ.
وأكد أنّه يوافق صنع الله إبراهيم في حالة كان الكاتب يتحدث عن الإلهام بمعزل عن جودة أفكاره ومنتوجه، أو يحاول وضع مسافة بينه وبين القارئ، أو يضع كل مشكلات الكتابة في الإلهام ويرفض التطوّر لأن «الكتابة عمل يعتمد على الإلهام الخارجي والكاتب لا يد له فيها».
ورأى الأحمدي أنّ الشخص يمكنه أن يصنع إلهامه، ويحافظ عليه، فمثلاً المداومة على القراءة والكتابة، والمشي اليومي، والتأمل في مختلف أمور الحياة -الشخصية وغيرها- والنقاشات مع الأشخاص الصح، وغيرها من الممارسات تساعد الكاتب على البقاء في هذه الحالة التي من الممكن أن نسميها إلهاماً، ولكنها ليست شيئاً ليس للكاتب يدٌ فيه.
الإلهام مصطلح قديم مهجور!
الكاتب والناقد بكر منصور بريك، قال: حتى ننطلق من صعيد متفق عليه لا بدَّ من تجلية مفهوم الإلهام الذي يعني في جذره اللغوي الإيحاء والإيعاز بالشيء في النفس، فهو باعث خارجي للإنسان على الإبداع مثلما نقول ألهمتْه الطبيعة قصيدة شعرية أو ألهمه فصل الربيع لوحة فنية وهكذا، فالباعث الخارجي أيَّاً كان نوعه وتوصيفه يلقي في ذات المبدع الأفكار والمعاني، وهذا التفسير الكلاسيكي لإنتاج الإبداع كان مأخوذاً به لدى قدماء الإغريق قبل نظرية المحاكاة عند أرسطو، فقد كان للشعراء زعمٌ أنَّ للشعر ربات، وكذلك كان هذا الادعاء موجوداً عند الشعراء العرب الجاهليين فيما يُعرف بالقرين الشعري وأسطورة وادي عبقر ليست ببعيدة عنا، وظلت هذه التفاسير شائعة ورائجة حيناً من الدهر حتى توارثها الرومانسيون الأوروبيون، فبالغوا كثيراً في اعتمادها واستطابوا الميل إلى أهمية البواعث الخارجية المحركة للعملية الإبداعية فاحتضنوا عناصر الطبيعية فاعلاً مؤثراً في إنتاجاتهم الفنية بعامة؛ لذلك سرت هذه اللوثة إلى الرومانسيين العرب وبخاصة لدى الشعراء المهجريين، ولم يسلم منها المتأخرون مثل السياب المتأثر برومانسية الشعر الإنجليزي وهو القائل:
سأهتفُ بالأشعار إما رأيته
وأستقبلُ الإلهامَ سَهْلاً مُواتيا
وعدتُ لرَبِّ الشِّعر جذلان سامعاً
حفيف جناحيه ينادي خياليا
وأكد بريك أنّ المعنى هنا تتجلى فيه عملية الإلهام وأن للشعر رباً يوحي للشاعر في يسرٍ وسهولة، ولا يقصد هنا بالإلهام الموهبة والاستعداد الفطري البتة، فما زال عالقاً بذهنية الشاعر التفسير الأسطوري القديم، وهذا ما جعل أحد الأدباء يبالغ في ادعائه فيزعم أنه حينما يغمض عينيه فإنه يسمع هامساً ينفث في أذنيه الأفكار والمعاني ليصوغها في نص شعري، وهذا من المبالغات الممجوجة في تقدير البواعث الخارجية الخالقة للإنتاج الإبداعي. ولما حدثت الطفرة العلمية في العلوم الطبيعية في القرن العشرين استدعى ذلك قيام العلوم الإنسانية بمضاعفة الجهد البحثي تأسياً بالعلوم الطبيعية، وحتى تُدرس عملية الإنتاج الإبداعي دراسة علمية جادة وموضوعية ظهر النقد العلمي «الجديد» القائم على علم الاجتماع وعلم النفس اللذين قطعا شوطاً من التقدم، كل هذا التطور أدى إلى أن تُدرس الظاهرة الأدبية بعيداً عن التفسير الميتافيزيقي، وأصبح النقد يتجاوز مناهج النقد الكلاسيكي القديم والرؤية الرومانسية تحديداً، وغدا مصطلح الإلهام مفهوماً قديماً مهجوراً، وأضحى الإلهام وما شايعه من (ربات الشعر) أو ما يُعرف عند العرب شياطين الشعر نسياً منسياً، وصار الإبداع الأدبي يختص بالتعبير عن التجارب الحقيقية قليلاً وعن التخييل كثيراً، ويعني بإعادة صياغة الواقع ويهتم بالكتابة عن الظروف الإنسانية والاجتماعية، وبذلك صار الإنتاج الأدبي قابلاً للدراسة الموضوعية وللبحث العلمي، وعليه فقد تحقق التجاوز للإلهام الخارجي وللإيحاء الغيبي وتجاوزنا مرحلة قديمة كانت الدراسات قائمة على الانطباع الذاتي والذوق الشخصي.
ابتكار ذاتي وليس إلهاماً خارجياً
الكاتبة العراقية لطيفة الدليمي كان لها رأي مفصّل في مسألة الإلهام نشرته في مقال، رأت فيه أنّ الكتابة الإبداعية لا ترتبط في مرحلة الاحتراف المتقدم بوجود عنصر إلهام محفز، خاصة في مجال القصة والرواية، إلّا أنها لا تستبعد أن يصح الأمر على بعض أنماط الكتابة الذاتية وبعض طرز الشعر، أما السرد القصصي والروائي فإنه يتطلب مرجعيات متعددة تقوم عليها بنية النص وتيسّر له إنتاج العمل السردي؛ منها مؤثرات مكانية وإنسانية وخزين معرفي وخلاصات تجارب وأبحاث ورؤى متباينة للعالم والزمان والمكان والشخوص. وترى أنّ الركون إلى ما يدعى بالإلهام في مرحلة تلمس سبل الكتابة، فترة المراهقة الإبداعية حين لا يزال الكاتب أو الكاتبة مشروع مبدع لم يمتلك بعد أدواته ورؤيته الخاصة وقدرته التخييلية المدربة ولم يكتشف أسلوبه الشخصي بالمثابرة، فيقتنص أو تقتنص شرارة نص ما من حالة تناغم إنساني أو وهجة وجدانية أو مغامرة عشقية أو الإعجاب بفكرة شخص يمثل للكاتب والكاتبة حلماً ما، لكنّ التجربة الإبداعية كما كتبت الدليمي تتخطى فكرة الإلهام الخارجي إلى الابتكار الذاتي عندما تستند التجربة الإبداعية إلى سعة الحياة ومكوناتها، وأحلام النفس الإنسانية وخرابها وازدهارها واندحارها وعقدها واختلاف نزوعاتها!
مكوّن من مكوّنات النصّ الإبداعي
الشاعر الحسن آل خيرات، رأى أنّ الألفاظ والمعاني ليست وحدها مكونات النص الإبداعي، إذ لا بد إلى جانب ذلك من مكونات أخرى يأتي في مقدمتها الإلهام؛ وهو عنصر أساس في مخاض وميلاد النص بالصورة التي تدهش المتلقي وتكتسب الخلود، وهذا النوع من الإبداع ليس من السهل الوصول إليه بغير شجرة الإلهام التي لا يرتقيها ولا يهزها فتسقط ثمراً شهيّاً غيرُ المبدع.
وأكد أنّ الإلهام عنصر فني لا يمكن إغفالُه ولا التنظير حوله بما يجعله أمراً ثانوياً أو بضاعة ملقاةً على الطريق، وأضاف، لو سلمنا جدلاً بما يراه صنع الله إبراهيم فهو يصح على فئة محسوبة على المبدعين غير أنها ليست منهم ولا تمت لهم بأدنى علاقة، لذلك يلجأ بعض المصابين بمتلازمة الظهور الإعلامي والاجتماعي لشراء إبداعات الآخرين أو سرقتها بصورة مباشرة أو غير مباشرة لسد ثقوب أرواحهم المهترئة.
الإلهام لا يدرك بالحواس
الناقد الأدبي محمد الحميدي قال: لا يمكن إدراك الإلهام بالحواس فهو يعرف بآثاره ومن أبرزها إتيانه بالجديد وغير المألوف، لكنه يتقاطع مع الابتكار والاختراع؛ اللذين هما نتيجة عمل مستمر ومثابرة في الوصول إلى النجاح، والأدباء على هذا الأساس يتفاوتون في كتابتهم بين الطبع والصناعة، فالطبع ما يأتيك من إلهام (عفو الخاطر) ودون قصد أو سعي، بينما المصنوع ما تسعى إليه وتجتهد في تحصيله وتجويده، وهي قضية قديمة شغلت الرأي العام منذ قرون ولا زالت، ولم يصل أحد إلى نتيجة حاسمة فيها، فالإلهام بهذا المعنى يقع خارج التجربة الإنسانية ولا يمكن قياسه أو معرفة حدوده، لكن يمكن تهذيبه وتجويده وهو ما يعمل عليه الأدباء، حين يتناولون موضوعاً من المواضيع، حيث الكتابة صنعة تحتاج إجادة ومهارة تتمثل في الإتقان وعدم ترك الثغرات والعيوب، وهو يأتي من التعديل والمراجعة وإعادة القراءة، التي تعتبر مرحلة أساسية ومهمة من مراحل ما قبل إنتاج النص ونشره، وأكد الحميدي أنّ الإلهام والابتكار يرتبطان بالعبقرية، وهو الوصف الذي يطلق على الكتابة الإبداعية المحكمة ذات الفكرة غير المألوفة، وحدود العبقرية غير معروفة ولا يمكن الإحاطة بها كما هو شأن الإلهام، وقد يصح أن تشير إحداهما إلى الأخرى وإن كانتا مختلفتين، فالعبقرية لا تختص بالإلهام ولا تقتصر عليه لأنها تشمل الابتكار والاختراع كذلك، وهو ما يطرح تساؤلاً حول الفرق بين الإلهام والابتكار من ناحية تكوُّن كل منهما.
وأضاف: يصدر الإلهام فجأة ويأتي دون إنذار، فهو حديث في الخاطر (النفس) يلقيه شيطان من الشياطين (الاعتقاد القديم)، يتناول موضوعاً يشغل بال الأديب فترة زمنية قد تطول وتقصر، حتى إذا انغمس في تفكيره وتأملاته وامتلأت نفسه بأحاديثه؛ أتت النهاية بحلول غير متوقعة ولم يكن قد فكر فيها وخطرت على باله، فيدونها ككتابة مبدعة متميزة تختلف عن كتابات الآخرين، تنتشله مما وقع فيه من التفكير إلى حالة مفارقة ومرحلة جديدة، تتيح انتقاله إلى موضوع آخر وحالة مختلفة، أما الابتكار والاختراع فنتيجة عمل جاد وجهد منظم واستمرار في التجريب والاختبار، حتى يصل الأديب إلى الشكل المرغوب والأسلوب المفضل، وبعد الانتهاء من الكتابة والتدوين يعود إليه بالتعديل والتنقيح؛ تلافياً لأي خطأ يمكن أن يكون أُرتكب.
موضوع الإلهام معقّد!
الروائي والقاص محمد الأحمدي أكد أنّ موضوع الإلهام معقّد فيما يخص الكتابة وحتى الإبداع؛ صحيح أن بعض الكتّاب أرادوا بالإلهام إضافة هالة من الغموض وربط أنفسهم بإبداع خارق ما يُستوعب، ولكن في الوقت نفسه من الـصعب أن تغفل فكرة أنّ لحظات الإلهام حقيقية في الكتابة، لهذا أرى الموضوع كالتالي:
أراهن أن كل كاتب عاش لحظات الإلهام، ولكن الوصول إليها ما كان برسالة ربانية أو عبر مرسول من وادي عبقر، ولكن ببساطة ساعات من الانشغال بالكتابة والقراءة وتصفية الذهن، وهذه خطوات يستطيع أي كاتب خلقها لنفسه وتتبعها.
وأضاف: لحظات الإلهام التي ليس للكاتب يد فيها -التي تسقط سقوطاً من السماء- مثل رؤية شهاب، لا ينتبه له إلا من يشخص ببصره على الدوام ويترك وقتاً لتأمل السماء، ومع هذا قبل أن يشبع الشخص من منظرها تختفي، لهذا لا يعوّل عليها ولا يُلتفت لها.
وحتى هذه اللحظات لها مقدّمات كثيرة ولا تأتي من فراغ.
وأكد أنّه يوافق صنع الله إبراهيم في حالة كان الكاتب يتحدث عن الإلهام بمعزل عن جودة أفكاره ومنتوجه، أو يحاول وضع مسافة بينه وبين القارئ، أو يضع كل مشكلات الكتابة في الإلهام ويرفض التطوّر لأن «الكتابة عمل يعتمد على الإلهام الخارجي والكاتب لا يد له فيها».
ورأى الأحمدي أنّ الشخص يمكنه أن يصنع إلهامه، ويحافظ عليه، فمثلاً المداومة على القراءة والكتابة، والمشي اليومي، والتأمل في مختلف أمور الحياة -الشخصية وغيرها- والنقاشات مع الأشخاص الصح، وغيرها من الممارسات تساعد الكاتب على البقاء في هذه الحالة التي من الممكن أن نسميها إلهاماً، ولكنها ليست شيئاً ليس للكاتب يدٌ فيه.
الإلهام مصطلح قديم مهجور!
الكاتب والناقد بكر منصور بريك، قال: حتى ننطلق من صعيد متفق عليه لا بدَّ من تجلية مفهوم الإلهام الذي يعني في جذره اللغوي الإيحاء والإيعاز بالشيء في النفس، فهو باعث خارجي للإنسان على الإبداع مثلما نقول ألهمتْه الطبيعة قصيدة شعرية أو ألهمه فصل الربيع لوحة فنية وهكذا، فالباعث الخارجي أيَّاً كان نوعه وتوصيفه يلقي في ذات المبدع الأفكار والمعاني، وهذا التفسير الكلاسيكي لإنتاج الإبداع كان مأخوذاً به لدى قدماء الإغريق قبل نظرية المحاكاة عند أرسطو، فقد كان للشعراء زعمٌ أنَّ للشعر ربات، وكذلك كان هذا الادعاء موجوداً عند الشعراء العرب الجاهليين فيما يُعرف بالقرين الشعري وأسطورة وادي عبقر ليست ببعيدة عنا، وظلت هذه التفاسير شائعة ورائجة حيناً من الدهر حتى توارثها الرومانسيون الأوروبيون، فبالغوا كثيراً في اعتمادها واستطابوا الميل إلى أهمية البواعث الخارجية المحركة للعملية الإبداعية فاحتضنوا عناصر الطبيعية فاعلاً مؤثراً في إنتاجاتهم الفنية بعامة؛ لذلك سرت هذه اللوثة إلى الرومانسيين العرب وبخاصة لدى الشعراء المهجريين، ولم يسلم منها المتأخرون مثل السياب المتأثر برومانسية الشعر الإنجليزي وهو القائل:
سأهتفُ بالأشعار إما رأيته
وأستقبلُ الإلهامَ سَهْلاً مُواتيا
وعدتُ لرَبِّ الشِّعر جذلان سامعاً
حفيف جناحيه ينادي خياليا
وأكد بريك أنّ المعنى هنا تتجلى فيه عملية الإلهام وأن للشعر رباً يوحي للشاعر في يسرٍ وسهولة، ولا يقصد هنا بالإلهام الموهبة والاستعداد الفطري البتة، فما زال عالقاً بذهنية الشاعر التفسير الأسطوري القديم، وهذا ما جعل أحد الأدباء يبالغ في ادعائه فيزعم أنه حينما يغمض عينيه فإنه يسمع هامساً ينفث في أذنيه الأفكار والمعاني ليصوغها في نص شعري، وهذا من المبالغات الممجوجة في تقدير البواعث الخارجية الخالقة للإنتاج الإبداعي. ولما حدثت الطفرة العلمية في العلوم الطبيعية في القرن العشرين استدعى ذلك قيام العلوم الإنسانية بمضاعفة الجهد البحثي تأسياً بالعلوم الطبيعية، وحتى تُدرس عملية الإنتاج الإبداعي دراسة علمية جادة وموضوعية ظهر النقد العلمي «الجديد» القائم على علم الاجتماع وعلم النفس اللذين قطعا شوطاً من التقدم، كل هذا التطور أدى إلى أن تُدرس الظاهرة الأدبية بعيداً عن التفسير الميتافيزيقي، وأصبح النقد يتجاوز مناهج النقد الكلاسيكي القديم والرؤية الرومانسية تحديداً، وغدا مصطلح الإلهام مفهوماً قديماً مهجوراً، وأضحى الإلهام وما شايعه من (ربات الشعر) أو ما يُعرف عند العرب شياطين الشعر نسياً منسياً، وصار الإبداع الأدبي يختص بالتعبير عن التجارب الحقيقية قليلاً وعن التخييل كثيراً، ويعني بإعادة صياغة الواقع ويهتم بالكتابة عن الظروف الإنسانية والاجتماعية، وبذلك صار الإنتاج الأدبي قابلاً للدراسة الموضوعية وللبحث العلمي، وعليه فقد تحقق التجاوز للإلهام الخارجي وللإيحاء الغيبي وتجاوزنا مرحلة قديمة كانت الدراسات قائمة على الانطباع الذاتي والذوق الشخصي.