-A +A
طارق على فدعق
بدأت هذا المقال في أغرب الأماكن فقد كنت واقفا فوق قمة أحد التلال في جدة... موقعه في شمال شرق مدينتنا، وارتفاعه يفوق طول سيارتي «لاند كروزر»... وهو عبارة عن كومة ضخمة من القمائم المضغوطة في مردم جدة القديم... والمذهل هو كمية البلاستك تحت قدمي وحولي... ولو فكرت في كمية البلاستيك التي «نزقلها» يوميا فستجدها كافية لطمر مدن بأكملها... تل أبيب مثلا مساحتها تبلغ 52 كلم مربع ويمكن أن نغطيها نظريا بطبقة من البلاستيك الموجودة حاليا في مردمي جدة القديم والجديد... المشكلة ليست في كمية ما نستهلك ولكنها في كمية ما نتخلص منه... وخصوصا في التغليف والمشروبات... والبلاستيك له خلفية جديرة بالذكر فالكلمة معناها طيّع وقابل للتشكيل بسهولة... وتاريخ تصنيعه بدأ بحشرة... وتحديدا بإحدى أنواع الخنفساء واسمها العلمي هو «لاكيفير لاكا» على وزن «على كيفك يا لكََِّع» وتعيش هذه على جذوع بعض الأشجار وتتغذى على عصارتها... وبعد أن تتكاثر تنتج وتغلف نفسها في مادة شبه صلبة اسمها «شيلاك» وهي مشتقة من كلمة «غلاف اللاكا» shell lacca... ولها خصائص عزل مهمة جدا جعلتها مناسبة لتغليف الأسلاك الكهربائية... وفى مطلع القرن العشرين وبانتشار الكهرباء، زاد الطلب على هذه المادة الطبيعية بشكل هائل... المشكلة أن تكلفة استخراج تلك المادة كانت باهظة... حوالى ثلاثين ألف حشرة لإنتاج كيلوجرام واحد... وكالعادة نجد العقول التي اغتنمت الفرص الكبرى في حالات كهذه، ففى مطلع القرن العشرين بدأ العالم البلجيكي “ليو بايكلاند” في دراسة وتحليل مخرجات تلك الحشرة لتطوير مادة صناعية بالكامل، ولكنها بنفس خصائص مخلفات الخنفساء المذكورة لسد احتياج الطلب الهائل على تغليف الأسلاك الكهربائية في الولايات المتحدة وأوروبا... وكانت هناك أيضا أزمة عاج كبيرة في العالم آنذاك مما زاد الحاجة على المواد البلاستيكية... وقد نجح “بايكلاند” نجاحا باهرا فدخل التاريخ باختراع مادة أسماها “بايكلايت” وهي مشتقة من اسمه... تألقت المادة الجديدة بخصائصها فكانت رخيصة التكلفة، وسهلة الإنتاج، ومقاومة للشمس، والحريق، والكسر، والذوبان... وانتشرت نظرا لزيادة الطلب على أسلاك الكهرباء والهواتف... وهناك أيضا الصحون، والمفروشات، والراديوهات، والكاميرات، والمعدات الصحية، وقطع غيار السيارات، والأقلام، وآلاف المنتجات الأخرى... فضلا أنظر في كمية المواد البلاستيكية حولك أثناء قراءتك لهذه الكلمات علما بأنها تندس في بعض أغرب الأماكن ومنها أجزاء من ملابسنا... الأزارير وبعض مكونات الأقمشة... بل بعض الأحبار التي استخدمت في طباعة هذه الصفحة... ولا تنس بطاقة الأحوال والرخصة والاستمارة وبطاقة العائلة وبطاقات الصرف الآلي وبطاقات الإئتمان... تخيل أن العالم يستهلك أكثر من مائة مليون طن من البلاستيك سنويا... وهذه الكمية المخيفة تفوق وزن خمسين مليون سيارة كابريس... وكمية البلاستيك التي ترمى في البحار حول العالم تصل إلى حوالى عشرة ملايين طن... فضلا تأمل في هذه الكمية الضخمة... ولكن هناك ما هو أهم من كل هذا وهو وضع كميات البلاستيك في نفايات مدينتنا فسأعود إلى حيث بدأت فوق أكوام قمائم جدة... كل كومة قمامة في العالم تحكي قصة تعكس واقع المجتمع الذي ينتجها... كمية البلاستيك التي “نزقلها” في قمائم جدة يوميا تفوق وزن ثلاثمائة وخمس سيارات كامري.
* أمنيــــــــــة :
عندما سكنت في الولايات المتحدة كنت وجيراني نتحدى بعضنا في من يخرج الكمية الأقل أسبوعيا من قمامته المنزلية الخاصة... مبدأ يستحق التأمل... وهنا حاجة لوقفة جادة لتقويم ما نتخلص منه يوميا في وطننا لأننا نورث تحديات بيئية لأولادنا وأحفادنا تتعارض تماما مع مبدأ الاستدامة ومبدأ خلافة الأرض في الإسلام... أتمنى أن نقنن كميات ونوعيات قمائمنا ولنبدأ بتقليص آلاف أطنان البلاستيك التي نتخلص منها سنويا في مرادم النفايات في وطننا، وخير ما نبدأ به هو برامج توعية وتدوير النفايات وتقويم ما يرمى.
والله من وراء القصد.

للتواصل ارسل رسالة نصية sms إلى الرقم 88548 تبدأ بالرمز 122 مسافة ثم الرسالة