-A +A
خالد نايف الهباس
أعتقد أن الكثيرين من أعداء أمريكا والمعارضين لها حول العالم يرددون «اللهم لا شماتة», نظير ما حل بأمريكا وبنظامها الاقتصادي الرأسمالي من المآسي. فبوتين وكاسترو وشافيز وغيرهم كثيرون, يعارضون الآحادية الأمريكية التي حاولت من خلالها واشنطن أن تدير العالم في العقدين الأخيرين. فيا ترى ما هي التداعيات السياسية للأزمة المالية؟
يمكن معرفة تداعياتها من خلال أكثر من مستوى للتحليل. فعلى المستوى القومي أو الوطني, لا شك أن الأزمة, كما هو واضح من الإجراءات السريعة التي اتخذتها الدول الصناعية والأخرى منها, تدل على الميل الواضح إلى الابتعاد عن «الرأسمالية المطلقة» القائمة على حكومات صغيرة الحجم, تنظيمات وإجراءات رقابية أقل, وضرائب أكبر, وتدفق كبير للاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد الأمريكي. هذه كانت ملامح الحقبة الأمريكية التي بدأت في عهد ريجان واستمرت في عهد بوش وقادت العالم إلى انفتاح اقتصادي وتوسع في العمليات الاقتصادية, خاصةً المالية منها, بشكل غير مسبوق. اليوم نحن أمام عودة لتدخل الدولة في الاقتصاد الوطني, من خلال تمّلك المؤسسات المالية, وهو ما يتنافى مع روح النظام الرأسمالي, لكنها خطوة ضرورية لتصحيح مسار النظام النقدي العالمي وإعادة الثقة إلى أسواق المال العالمية وممارسة رقابة أكثر صرامةً على المؤسسات المالية المختلفة, ومنعها من التمادي في منح القروض العالية المخاطرة, على الأقل في الوقت الراهن. كذلك فإن الأزمة لها تأثير على الدول التي تواجه استحقاقات سياسية قريبة, كما هي الحال في أمريكا حيث الانتخابات الرئاسية بعد أقل من ثلاثة أسابيع, ومن المتوقع أن تؤثر الأزمة على قرارات الناخب الأمريكي.
أما على المستوى الدولي, حيث تظهر التداعيات بشكل أكبر, فإن الأزمة ألحقت ضرراً كبيراً بالهيمنة الأمريكية؛ اقتصادياً, يمثل الاقتصاد الأمريكي نحو ربع اقتصاد العالم البالغ أكثر من خمسين تريليوناً, وتراجع حجم ونمو الاقتصاد الأمريكي يرتبط به تراجع هيمنة أمريكا الاقتصادية وهيمنة النموذج الأمريكي الرأسمالي. كما أنه في نفس الوقت يؤدي إلى إضعاف هيمنتها السياسية والعسكرية على العالم, وتزايد أهمية قوى أخرى كروسيا والصين واحتمال انفكاك أوروبا من عباءة أمريكا. فجميع القوى عبر التاريخ كانت قوى اقتصادية, ولا اعتقد أن أمريكا سوف تمضي قدماً في خططها التوسعية في مناطق مختلفة من العالم إذا لم تستعد عافيتها الاقتصادية. فقد كلفتها الحرب في افغانستان والعراق لوحدها تريليونات الدولارات, وأي توسع عسكري يحتاج إلى مقومات اقتصادية. من ناحية أخرى, قد تضعف المركبات الصناعية والعسكرية الأمريكية, التي هي دافع رئيسي للتوسع العسكري الأمريكي, فالأزمة المالية تؤثر سلباً على قوة أمريكا المالية مما يحملها على خفض نفقاتها المختلفة.
الأزمة من المحتمل أن تساهم في إضعاف شرعية النموذج الرأسمالي على مستوى العالم, التي حاولت أمريكا تسويقه بعد الحرب الباردة. فقد تكون الرأسمالية الشمولية, كما في روسيا, أو النظام المختلط كما في الصين, أو الرأسمالية الاشتراكية كما في ألمانيا, حلاً مقبولاً لدى الكثير من الدول التي يساورها الخوف من مثالب النظام الرأسمالي المطلق. كما يمكن القول أن الأزمة العالمية سوف تؤثر بشكل سلبي على المساعدات التي تقدمها الدول الغنية للدول النامية.
لكن في جميع الحالات يجب أن لا نتستهين بقدرة النظام الرأسمالي على التكيّف, فقد عانى خلال القرنين الماضيين من أزمات اقتصادية لكنه استطاع تجاوزها, وهو بحاجة فقط إلى عملية تصحيحية لبعض قواعده ومبادئه, خاصةً المالية منها, وفي إطار جماعي.
knhabbas@hotmail.com


للتواصل ارسل رسالة نصية sms إلى الرقم 88548 تبدأ بالرمز 145 مسافة ثم الرسالة