-A +A
حوار:غازي كشميم
في الجزء الثاني والأخير من حوار المفكر الإسلامي السعودي د.محمد الأحمري، أبان الضيف أن الحديث عن سقوط الحضارة مقارنة بالدول هو مجرد وهم، مؤكدا أنه لو سقطت الحكومات الغربية لكانت فروع الحضارة الغربية منقذة لنمط جديد منها، وتعرض الضيف إلى تأثيرات الأزمة المالية في الغرب، وعبر عن رأيه بأن الغرب قادر على معالجتها، وأنه لن يقبل أن يتحول إلى نظم البنوك الإسلامية لأنه أكثر ثقة بنفسه وأكثر غرورا أيضا، وتطرق الأحمري إلى انعكاس الأزمة على المثقفين العرب وعبّر عن أسفه في ظهور العاطفة في المواقف، بين مواقف إسلاميين متوهّمين يرون أنها نهاية الغرب، وبين مثقفين متغربين متوترين حاقدين على أي احتمال نجاح يأتي تحت عنوان إسلام أو عرب، والى تفاصيل الحوار:
نسمع كثيراً منذ أواسط القرن الماضي عن سقوط الغرب والحضارة الغربية وتجددت مثل هذه المقولات مع ظهور الأزمة المالية العالمية، ما مدى دقة مثل هذه الأطروحات لاسيما وأن الغرب مازال محتفظاً بمكانته كقوة عظمى؟
-ثقافة الحديث عن انحطاط الغرب عميقة في التفكير الغربي، حتى قيل إن بعض الدراسات المبكرة كدراسة جيبون عن الإمبراطورية الرومانية كان هاجسها الكبير الدرس للغرب الحاضر الذي يعيشه من الماضي البعيد، وكان قد بدأ الكتابة قبل قرابة قرنين ونصف، ثم كان من أهم الدراسات التي ناقشت انحطاط الغرب كتاب شبنجلر في مطلع القرن العشرين، وبعد الحرب العالمية الأولى كثرت الدراسات عن نهاية الغرب، ثم تكاثرت بعد الحرب الثانية، وبعض كتابات توينبي تصب في الجانب الروحاني من هذه المسألة، ثم مع نهاية القرن العشرين أصبحت الفكرة نفسها والدراسات عن انهيار الغرب حقلا واسعاً للدراسات، وترجم بعضها للعربية، مثل كتاب هرمان عن: "الاضمحلال"، ولعل أهم كتاب في العقدين الأخيرين كتاب بول كيندي، "قيام القوى العظمى وسقوطها" والذي ركز على واحدة من النظريات وهي أثر الجيوش الإمبراطورية في هدم الإمبراطوريات، وهناك كتاب يعد للطباعة باللغة العربية وهو الانهيار لديموند جاريد، وقد عالج جانباً من هذه الدراسات وأخذ نماذج قديمة من الحضارات. وبخاصة حضارات أمريكا الجنوبية. والمهم في مراقبة الحضارات أن نفرق بينها وبين الدول والحكومات، فالحكومات قد تسقط في أي وقت، ولكن الحضارة روح وأفكار ونظم سارية تنتقل من مكان لمكان ومن شعب أو جنس لشعب أو جنس آخر في مكان بعيد، فاستراليا وأمريكا الشمالية والجنوبية واليابان وكوريا الجنوبية وربما الهند قد تكون هي الحضارة الغربية، وربما تستكمل الصين بعض جوانب الاتباع فتصبح هي أيضا من الحضارة الغربية، ونحن في العالم الإسلامي نعمل ونفكر ونطبق الكثير من جوانب هذه الحضارة، وهي تتعمق كل لحظة في حياتنا، ولهذا فالذين يقولون إنه بعد تواصل العالم لا يوجد إلا حضارة واحدة وهوامش لها ليس كلامهم بعيدا من الصحة فالهوامش تعيش اقتصادها ومظاهرها على مركز الحضارة وقد لا تستكمل فكرته، انظر لدبي ولأي حاضرة غربية ملابس وعمل ونمط معيشة وتعلق مادي شبه خالص وقناعة بالنمط المرجعي الغربي وحتى باللغات الغربية. مثل ما كان يحدث لهوامش العالم الإسلامي في أوج حضارته، كجنوب أوروبا، وبقية العالم المصاقب له.
والحديث عن سقوط الحضارة مقارنة بالدول مجرد وهم فلو سقطت الحكومات الغربية لكانت فروع الحضارة الغربية منقذة لنمط جديد منها، ولو قامت الصين بديلا أو الهند فهل نستفيد منها أكثر؟ وليس سقوطهم يعني ارتفاعنا، أبداً فقد تأتي أمم تكرهنا أكثر منهم، وماذا لو قامت لنا حضارة هل ستكون مختلفة وفي ماذا ستكون مختلفة عن الغربية؟ عندما سقطت الخلافة العباسية لم يسقط العالم الإسلامي، فالعباسيون حكومة وعندما سقطت الخلافة العثمانية سقطت حكومة فقط، وهكذا لم يمت المسلمون بل لبسوا لباس حضارة جديدة وبقيت لهم روح في عالم جديد. فالحضارات لا تسقط بسرعة، ومنذ أيام ابن خلدون راقب صعود الغرب، ولاحظ حلول الظلام في عالم المسلمين. فقد نتحدث عن سقوط الغرب ويبقى قروناً. وقد كتبت عن الأزمة المالية في كتاب "ملامح المستقبل"، ولكن كنت أقرأ كلامهم عن بوادر ذلك، وبعد سنين حدث الأمر وتأكد رغم أنه أزمة صغيرة في سياق حضارة كما أزمة عام 1929م.
تأثيرات الأزمة المالية
بصفتك أحد الذين عاشوا بالغرب واحتكوا بحضارتها، يحضرني سؤال حول تأثير الأزمة المالية على الهيمنة الأمريكية والغربية بشكل عام؟ وأي منظومة مرشحة للمنافسة؟
-إذا كانت مالية الدولة تعاني فإن جيشها سيعاني، وخدماتها ستعاني، والسيطرة تقل، ومعنى هذا ضعف القدرة على التحكم والتنازل الجزئي للخصوم، ولكن أتباع أمريكا كثر وقد بدأوا في التعويض، والبنوك السيادية العربية تنقذ قدر طاقتها، والدول المستفيدة من النفوذ الأمريكي، فليست هيمنة أمريكا مهددة بسرعة لأن هوامشها ستحاول بل عملت على إنقاذها. أما منظمومة الصين التي يتوقع أنها مضادة فهي كما يرى كثيرون بعيدة التقدم، وبعضهم يرى أن الصين تحتاج قرناً لتنافس، وقد تكون هذه مبالغة ولكن ليس أقل من خمسين عاما. أما الهند فهناك حرص على تغريبها وربطها بالمعسكر الغربي اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، لتكون ضد الصين ولتكون حامياً غربياً لثقافة الغرب، وبخاصة مع انتشار الانجليزية فيها فاللغة أهم مراكب الحضارة.
هل الأزمة المالية تعبر عن أزمة فكر وأيديولوجيا في الغرب أم أنها أخطاء في الممارسات والآليات قابلة للتصحيح والتعديل؟

-الغرب في هذا الجانب عملي، ولا يهتم بالفكرة إلا إذا كانت منجبة أو مفيدة، والفكر الغربي في الجانب الاقتصادي يشارك الفكر الإسلامي كثيراً في ثقافة الانفتاح وحرية السوق المحلي، أما غير المحلي فلم تنضج عند المسلمين ثقافة إمبريالية حتى نقارن، وهي عندهم أقرب لكونها ممارسات تطرف في حرية الاقتصاد يمكن تصحيحها، والتغلب على عيوبها. وهناك روح تجديد ذاتي وإصلاح سياسي مرافق لعلاج المشكلات الاقتصادية، ولا يمكن الفصل في النجاح والتأثير بين العاملين، وإن كان بعضهم يرد على هذه الفكرة بأنموذج سنغافورة، وماليزيا، ولكنها رافقت بعض استبدادها بفكرة الشفافية، والتطلع الديموقراطي ثم آلت فيما بعد إلى ديموقراطية.
انقسام الغرب
تذكر كثير من التحليلات أن الأزمة المالية سببها سياسات أمريكية طائشة وغير مقيدة لايوافقها عليها أغلب الدول الأوروبية، هل يمكن أن نشهد انقساما في التحالف الأمريكي الأوروبي؟ وهل يمكن أن تؤجج الأزمة لصراع ظاهر أو خفي بين الغرب ونفسه؟


الغرب كان جاهزاً للصراع الداخلي يوم كان يحكم العالم، ويتنافس على المستعمرات، ولكن بعد أن شهد مخاطر عالمية من تجاربه في الصراع على المستعمرات، ومن خطر قيام أو توحد خصومه ضده أو شبح تدمير نفسه فإنه أخذ دروساً في القرن العشرين لم تزل حاضرة لتجنب هذه الصدامات، وهناك كتابات عديدة حول احتمال هذه المواجهات ولكن يبدوا أنها في إطار التحذير من خطر الانزلاق لها وليس لأنها احتمالات ممكنة قريباً.
ثم إنهم في الفترة الأخيرة نسقوا علاقاتهم في اقتسام النفوذ والمشاريع والمصالح، وقللوا من الشره المثير في مناطق النفوذ، فنجد مشاريع وبنوكا وعقودا فرنسية بجانب ألمانية بجانب أمريكية في العالم العربي دون مواجهات.
انعكاس الأزمة على المثقفين
ما مدى انعكاس هذه الأزمة على المثقفين والمفكرين العرب المتبنين للمنظومة الغربية؟
-للأسف ظهرت العاطفة في المواقف أكثر بين مواقف إسلاميين متوهّمين يرون أنها نهاية الغرب، وبين مثقفين متغربين متوترين حاقدين على أي احتمال نجاح يأتي تحت عنوان إسلام أو عرب، فهم كاليهودي الكاره لنفسه ولجنسه، ولو كانت فقط في أن يلوح أن عند المسلمين حلا أو شبه حل فهم مسلوبو الموقف الفكري والثقافي، ومن المفترض أن لا يكبر من موقفهم ولا من توترهم لأنه موقف هم منسجمون فيه مع أنفسهم، فالعالم الإسلامي والعربي عندهم مورد مالي، وعملهم عمل وسطاء يهمهم بقاء الحال كما هو، وابقاء القوى الفكرية والثقافية والمالية كما هي، لا يتغير فيها شيء، وهذا منطق الثقافة المستقرة والمورد الثابت وحال المستفيد منه. غير أن تحميل المثقف المتغرب أكثر من طاقته ولومه ليس إنصافا، كما أن تحميل المسلم المتدين اللوم على عاطفته ليس انصافا أيضا، لأن المسألة المالية هذه تعسر على المتخصصين فكيف بغيرهم!، ثم إن هناك أرواحاً للرأسمالية لا تجعلها تموت بسرعة ولا بسهولة كما يتخيل مثقفونا، من أهم أرواحها حرية السوق، وحرية النقد وحرية التجديد والبحث عن الحلول، بسعة أفق وانفتاح لأي احتمال، فالمسلمون كانوا هم أنفسهم أول من حارب قيام البنوك الإسلامية، وكانت تصعد على خجل واستحياء، وبعد تملق وتستر في بلاد المسلمين وبعد وجود شخصيات اعتبارية ساعدتها في الأسوق المملقة كالسودان، لما سمحت لها الحكومات في العالم الإسلامي، ولكن بمجرد أن بدأت أرباحها كان من أوائل من فتح بابه لها سيتي بنك، ثم تسامحت بعض الحكومات في العالم الإسلامي معها، وبعضها لم يقبل.