-A +A
عبدالرحمن بن عبدالعزيز العثمان
ثمة أسئلة فرضتها الأحداث الأخيرة: لماذا لم تؤثر الأزمة المالية التي عصفت باقتصاديات النمور الآسيوية عام 1999م على العالم بينما شملت أصداء الأزمة المالية التي ضربت “وول ستريت” مؤخرا العالم بأسره؟.. وهل الأزمة المالية الراهنة تعني نهاية الرأسمالية على غرار نظرية نهاية التاريخ؟... وهل من الممكن أن تؤدي تلك الأزمة إلى انهيار الإمبراطورية الأمريكية مثلما كان الأمر نهاية الثمانينيات، عندما انهار الاتحاد السوفييتي وانهارت معه الأنظمة الاشتراكية في دول أوروبا الشرقية؟
هذه الأسئلة وعشرات على شاكلتها باتت تطرح نفسها على الساحة في محاولة لتفسير الانهيار الاقتصادي، العظيم الذي ضرب الاقتصاد الأمريكي.

في محاولة الإجابة على مثل هذه الأسئلة ليس من السهل تجاهل بعض الحقائق المتعلقة بهذه الأزمة، والتي يأتي في مقدمتها أن الاقتصاد الأمريكي يشكل عصب الاقتصاد العالمي، بمعنى أنه ليس من مصلحة العالم انهيار هذا النظام، خاصة في ظل حقيقة تعذر إيجاد نظام بديل (جاهز) للتطبيق ليحل محل هذا النظام، لا سيما بعد انهيار النظام الاشتراكي.
ويمكن الوقوف على هذا الوضع الكارثي من خلال حقيقة أن الأزمة ألحقت أضرارا باقتصاديات الدول التي كانت مرشحة لمنافسة الاقتصاد الأمريكي -وفي مقدمتها الصين - أكثر من الأضرار التي لحقت بالاقتصاد الأمريكي نفسه. فالصين التي كانت تعتمد في اقتصادها على الاستثمارات الأجنبية والصادرات التي تغمر أسواق العالم كله بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها، بأسعار منخفضة أصبحت مهددة بفقدان هذه الاستثمارات وتلك الأسواق في ظل الأزمة.
وربما يحلو للبعض مقارنة تدخل الرئيس الأمريكي جورج بوش في مواجهة الأزمة، باللجوء إلى أموال دافعي الضرائب وتأكيد دور الدولة في الاقتصاد من خلال التأميم الجزيء للبنوك -وهو العكس تماما لمفهوم الرأسمالية - بأنه محاولة لإيجاد نظام اقتصادي دولي جديد من خلال التزاوج بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي. بيد أن الواقع يؤكد أن هذه الخطوة لا تعدو كونها خطة إنقاذ آنية، أو بمعنى آخر خطة طوارئ، وليست مشروعا لنظام مالي دولي بديل، وهي محاولة تشبه إلى حد بعيد محاولة الرئيس السوفييتي ميخائيل جورباتشوف الحيلولة دون انهيار إمبراطورية الكرملين من خلال “البروسترويكا”. فهل تفشل خطة بوش مثلما فشلت خطة جورباتشوف؟
يبدو من الواضح جيدا أن محاولة إعادة الروح إلى “الرأسمالية” من خلال التدابير التي تتخذها الولايات المتحدة وأوروبا على الصعيدين الداخلي والخارجي، ستتواصل وتزداد وتيرتها لإعادة الاستقرار إلى الاقتصاد العالمي والذي يعتبر ضخ السيولة في المصارف وتخفيض سعر الفائدة والدعوة إلى قمم عالمية بعض مظاهرها. بيد أن تلك الجهود لا يمكن أن تأتي ثمارها في المستقبل القريب ما لم تواكبها جهود موازية على صعيد العمل على ترويض النظام الرأسمالي وإكسابه البعد الإنساني الذي اتضح في ذوبان الطبقة المتوسطة التي تعتبر عنصرا أساسا في توازن المجتمعات واستقرارها. كما أن هذه الجهود لا يمكن أن تحقق الهدف منها ما لم تواكبها -أيضا- جهود سياسية استنادا إلى الحقيقة بأنه كما تقف السياسة وراء الحرب ومخاطرها، فإن السياسة تقف أيضا وراء الاقتصاد ومخاطره، وهو ما يعني أن السياسات الأمريكية الخاطئة والتي تمثلت بشكل كبير في الحرب على العراق والعزوف عن القيام بدور الوسيط النزيه في النزاع العربي - الإسرائيلي من خلال الانحياز السافر إلى جانب إسرائيل، ورفض وضع تعريف معياري متفق عليه دوليا لمعنى الإرهاب، وغير ذلك من الممارسات، يعتبر المسؤول الأول والأخير عن الأزمتين (الأزمة المالية العالمية والإرهاب الدولي) اللتين تعملان معا وتهزان امن واستقرار العالم، وأنه مالم تغير واشنطن من هذه السياسات بدءا من الكف عن الكيل بمكيالين، والتخلي عن محاولات الهيمنة واستخدام أسلحة العزل والمقاطعة والعقوبات الاقتصادية والحصار ضد من يخالفها الرأي، فإن كافة محاولات الإنقاذ تلك ستؤول إلى الفشل.
كما يتعين على الولايات المتحدة في محاولتها تجاوز الأزمة وتبعاتها وتداعياتها توخي خطة على المدى الآني والمتوسط والبعيد لإصلاح العيوب في نظامها المالي التي كشفت عنها الأزمة وفي مقدمتها تفشي الفساد والافتقار إلى الشفافية، والعمل على إصلاح الخلل في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وإخراج هاتين المؤسستين الدوليتين اللتين تشكلان صمام الأمن الاقتصادي للعالم من دائرة الهيمنة الأمريكية.