-A +A
شايع بن هذال الوقيان
رائحة الموت تملأ كل مكانٍ في غزة , وتحت وطأة السلاح المتطور والتقنية الحديثة لا مجال إلا للموت فقط , فتخيَّرْ موتَك. لماذا أصبحت التقنية الحديثة متحالفة مع الموت؟ نحن نعرف أنها نشأت طلباً للحياة , لمزيدٍ من الرفاهية , لتكون في خدمة الإنسانِ. ولكن يبدو أن مفهوم «الإنسان» المرافق لمفهوم «التقنية» يشوبه نوعٌ من الغموض. لقد تقدَّم مجموعةٌ من مثقفي ما بعد الحداثة بطلب استيضاح لمفهوم الإنسان في الفكر الحديث فقاموا بتحليل وتفكيك خطاب الحداثة الحضاري من أجل مساءلته حول من هو الإنسان؟ فوجدوا تحت الشعارات المعلنة والسطوح المتلونة بالمقولات العالمية مفهوماً قاصراً للإنسان , إنه الإنسان الأقوى الحائز على مصدر القوة: التقنية. والقوة تجلب معها مزيداً من القوة , والضعف ينتهي إلى مزيد من الضعف. لقد تشكّلت العلاقات الإنسانية والأخلاق العامة بناءً على ثنائية التقنية: القوي والضعيف. وأصبح استخدام السلاح الفائق التطور مشروعا ومبررا داخل هذه الثنائية. فما أن يخرج سلاح جديد إلى النور حتى تُشنَّ حربٌ لمعرفة فعاليته ولتسويقه. حتى أن معارض الأسلحة تقام في الدول الصناعية الكبرى والمصانع تزدهر ولكننا نتلمس المشروعية في حتمية التطور التقني الذي لا يجب أن يقف في طريقه أحدٌ. ويبدو أن في خلفية هذا المشهد يوجد معرض آخر هو معرض للضحايا. فمن يشتري سلاحاً معروضاً يشتري معه ضحية ما!.. إنه يضمر الحرب والموت لإنسان ما. وهكذا تتم هذه الوحشية التقنية في غفْلةٍ من الأخلاقيين الإنسانيين ودعاة الحقوق الذين انصرفوا عنها إلى البحث في مشكلات أقل أهمية. إن وجود السلاحِ لدى قوةٍ ما ؛ بلد أو منظمة أو ميليشيا سيفتح طرقاً فسيحة للحرب. سيخلقُ حرباً. إن السلم والمفاوضات والحوار ليست إلا عزاءً ضعيفاً لغياب القوة ؛ لغياب السلاح. لا مجال للسلام مادامت تقنية السلاح في تطور أكثر تسارعاً وقدرةً من تطور أدوات السلم.
فلنقف قليلاً عند أخلاق الحرب ولنجعلْ ما تقوم به إسرائيل في غزة نصبَ أعيننا كمثال نموذجي لوحشية تقنية السلاح. في الحروب التقليدية التي ازدهرت قبل التقنية المعاصرة كانت هناك مبررات للقتل , وكان الجنديُّ لا يعترفُ بإنسانية العدو , فيطرده من دائرة مَن يستحقون الشفقة والرحمة... ولكنَّ فضاء القتل كان ضيقاً لانعدام التقنية. فجاءت التقنية لتفتح للموت أبواباً مغلقة. لتدخلَ بالجندي المتوحش الحامل للسلاح المتطور إلى المنازل والأقبية والخنادق ومدارس الأطفال والمستشفيات... إنه يجد أمامه عدداً أكبر من الضحايا , فيضحي بهم من أجل اختبار فعالية السلاح وإعلان انتصار التقنية وانهيار الأخلاق الإنسانية المعاصرة التي رافقت التقنية. ومادام السلاح متطوراً كما وكيفاً فلا بد من البحث عن مزيد من الضحايا والقتلى. ففعالية السلاح ورواجه مرتبطة بعدد الجثث التي يتركها وراءَه. وكل هذا مبررٌ مادامت التقنية أصبحت مسلَّمة. فبقدر ما يبكي البعض على الضحايا بقدر ما تأخذه الدهشة والإعجاب للقدرة التقنية الفائقة. كانت التقنية في خدمة الإنسان , ثم أصبح الإنسان في خدمتها... والآن أصبح ضحية لها. ولكن أي إنسان؟ إنه بالتأكيد الإنسان الأضعف الذي لا يحوز عليها.
في غزة هناك قوتانِ: واحدة تملك السلاح وأخرى لا تملكه.. وهذه هي معادلة الحرب المعاصرة. حيث لا يمكن – بعد اليوم – أن تتلاقى قوتان تملكان السلاح لأن فضاء القتل ومساحة الدمار ستعم العالم كله كما كان سيحدث في أزمة الصواريخ النووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. لقد أصبح هناك اتفاق ضمني على مهادنة طويلة الأمد بين القوى العظمى التي تملك تقنية السلاح. إذن فما فائدة السلاح الذي يتطور بشكل متسارع مادام ليس هناك حرب؟! من أجل هذا لا بد من ابتكار حروب جديدة لا تتورط فيها قوتانِ عظميان.
وهكذا تصاغ المعادلات الثلاث بالشكل التالي: في حالة امتلاك قوتين للسلاح المتطور يحدث سلم أو مهادنة طويلة الأمد كالتي تكلمنا عنها قبل قليل. وفي حالة افتقار القوتين للسلاح يحدث السلم اضطراراً لأن وجود السلاح في يد أية قوة يغري باجتراح الحروب. أما المعادلة الثالثة فهي القائمة على ثنائية تقنية السلاح: الضعف والقوة. حيث تملك واحدة السلاح والأخرى تؤدي – رغماً عنها – دور الضحية. وهي المعادلة المشروعة الآن! وأنا على يقين أن العالم لن يسكت عن قيام حربٍ بين قوتين تملكان السلاح الفائق كالهند وباكستان مثلاً.. ولكنه سوف يسكت سكوتاً مخزياً في حالة قيام حرب بين قوتين إحداهما ضعيفة! وهذا ما يحدث في غزة الآن. وكما حدث في العراق وفيتنام وغيرهما.
هذا النوع من الحروب هو الباقي , والقضاء عليه رهنٌ بيدِ القوى العظمى ذاتها مادمنا لا نريد للعالم مزيداً من التسلُّح. وسكوتُ هذه القوى عن ما يحدث في غزة وما حدث في غيرها دليل على انهيار الأخلاقيات الإنسانية الحديثة التي رافقت ظهور التقنية. إنها شاهدٌ على خضوع الإنسان المزري لإغراءات التقنية التي أضحى خادماً لها. إن إشعال أو اشتعال الحروب أسهل بكثير من إقرار السلام في ظل هذا السعار التقني والمتهافت على تصنيع واقتناء السلاح الفائق , ولكنَّ إحلال السلام سيكون أسهل إذا عاد الإنسان إلى موقعه الحقيقي بوصفه القيمة المطلقة الأولى التي لا يمكن المزايدة عليها. هذه القيمة التي يفتقدها مطلع القرن الواحد والعشرين. إن امتلاك السلاح بصورة عادلة قد يؤدي إلى إحلال نوع من السلام ولكن نزع السلاح بصورة عادلة أيضاً أكثر ضمانة وأقل خطراً.


للتواصل ارسل رسالة نصية sms إلى الرقم 88548 تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة