-A +A
حسين الحجاجي- جدة
تلك الخيام التي تتناثر في البراري، تمتد عبر الأودية والفضاءات المخضرة تحتضن هواة البر والحياة البرية من الشباب حتى كبار السن. يجتمعون حول شبة النار، يمضون مساءهم في سمر مع النجوم والنسائم كما تحتضن تلك الخيام أصحاب خبرات من المتقاعدين والموظفين حيث تتميز جلساتهم بالحوارات الهادفة التي تمتد طويلا لتشمل تبادل خبرات طويلة، ربما تمتد لدى بعضهم لأكثر من نصف قرن وهناك من يلوذ بالبر نتيجة لظرف معين أجبره لشراء الخيمة وألزمه مشاطرة عاشقي البراري ولا عشق لديه خاصة عندما تتعلق المسألة بصاحب شقة لايخاف الله نتيجة لطمع أو انتهازية.

في انتظار البيت الجديد

البداية كانت مع سلمان عتيق الحربي 48 عاما الذي كان وحيدا في خيمة في طريق مكة المكرمة - المدينة المنورة قائلا:

هذه ليست خيمتي وإنما خيمة ابن عم لي مع بعض أصدقائه لكنني ضيف عندهم، فقد مضى على حضوري إلى هنا ما يقارب الخمسة أشهر وتحديدا من شهر شعبان حتى الانتهاء من بناء بيتي الذي أضطررت أمام التكاليف التي أرهقتنى لترك الشقة التي كنت أسكنها لأن صاحبها رفع الإيجار، فبعدما كنت مستأجرا لديه بـ18 ألف ريال أبلغنا أنه يعتزم رفع الإيجار مع العقد الجديد إلى 26 ألف ريال وكان عقدي ينتهي بنهاية رجب ومع ذلك لم أكن أتوقع أن يصر على رفع الإيجار بتلك الصورة العجيبة حيث إنني أقدم مستأجر لديه ولم يحدث قط أن أخرت قيمة الإيجار بل كنت كثيرا ما أضطر للبحث عنه لكي أعطيه حقه قبل حلول موعده بشهر، وكنت أظنه سيقدر انتقالي لبيتي الجديد ولهذا طلبت منه أن يبقي على الإيجار القديم لمدة ثمانية أشهر فقط لكنه رفض وطلب مني بكل صلافة إخلاء الشقة ولأن عمارتي على وشك الانتهاء قررت عدم الاستمرار معه وقمت بنقل أسرتي إلى بيت جدهم لأمهم في عسفان ، وتوجهت إلى خيمة ابن عمي هذه على أمل الانتقال لبيتي الجديد مع نهاية شهر محرم الحالي وكان بإمكاني أن أستأجر شقة مفروشة لكن أخذت برأي زوجتي التي أقنعتني بتوفير مبلغ الإيجار لاستكمال بعض النواقص في المنزل الجديد خاصة في ظل ارتفاع إيجار الشقق المفروشة، ولهذا أنا هنا لفترة مؤقتة بينما أقوم بحراسة محتويات هذه الخيمة في ظل غياب أصحابها.

للبراري عشاق

في خيمة أنيقة تم الاعتناء بها وبمحتوياتها بشكل منظم ودقيق اعتاد فيصل فهد البركاتي ورفيقه أحمد البركاتي وصديقهما جمعان أحمدالعقاري على الاجتماع سويا في براري طريق الحرمين.

موقع الخيمة يعتبر مكانا مميزا حيث تم عمل جلسة أمامها وأخرى خلفها خصصت لأسرهم كما حرصوا على وجود موقع للصلاة ولم ينسوا رفع علم المملكة فوقها، وهناك حفره داخل الأرض خصصت لعمل الخبز بينما خصص الفرن الآخر للمندي، وعلى مسافة وضع مولد كهربائي.

يقول فيصل البركاتي: مضى على وجودنا في هذا المكان أكثر من عام ونصف العام حيث بدأت الفكرة بصورة جماعية ؛حينما طرحناها ذات مساء وبدأنا التنفيذ في اليوم التالي، وقد تم الاتفاق على أن يكون كل شيء موزعا بيننا فهناك من أحضر دولابا وهناك من أحضر أوان للطبخ وهناك من تولى مهمة نصب الخيمة ومولد الكهرباء، المهم كل ما تراه هنا اتفقنا سويا على إحضاره من منطلق عشقنا لحياة البر ولن تصدق إذا ما قلت لك أن هناك من ترك بيته وفضل المكوث هنا، ولهذا لا تجد الخيمة تخلو من أحدنا وفي كثير من الأوقات نحضر الأسر معنا حيث نمضي المساء أو حتى الصباح في هذا المكان.

يتدخل أحمد البركاتي قائلا: قمنا بأخذ كل الترتيبات الممكنة التي نحتاج إليها فقد أحضرنا الدقيق لعمل الخبز ولدينا فرن نقوم فيه بعملية الطهو كما أن هناك (ميفا) خاص باللحم المندي وحرصنا على أن تكون هناك دورات مياه للنساء وأخرى للرجال أما في الليل فنقوم بتشغيل مولد الكهرباء حيث يحرص أصدقاؤنا على الحضور، ولهذا تجدهم يقيمون كل مناسباتهم في هذا المكان بل إن بعضهم يصوم شهر رمضان في هذه الخيمة ربما تسألني لماذا فأجيبك بأن جو البر ممتع للغاية وبالذات خلال هذه الأشهر نظرا لبرودة الجو.

يلتقط الحديث جمعان العقاري بقوله :

كنا لوحدنا في هذا المكان لكن مع مرور الأيام بدأ الناس ينتشرون بالجوار ولكن لم نتعرض لأية مضايقات ولاحتى من الحشرات ربما نجد بعض العقارب ولكنها تكون تحت بعض الصخور وهذا في النادر أما بالنسبة لكل هذا الأثاث فلم يحدث أن تعرضنا للسرقة فمثلما قلت الخيمة لا تخلو من وجود أحدنا.

المكان يستهوي الإنسان بالمكوث فيه، فالهواء عليل، والنسائم نقية صافية تغري بالبقاء، أما المساء فنقضيه كما يقول أحمد البركاتي في لعب الكرة الطائرة حيث قمنا بتجهيز الملعب الخاص بهذه اللعبة أو في جلسة سمر بممارسة أحد الفنون الشعبية المعروفة.

يذكر جمعان العقاري أنهم قبل أكثر من شهر كانوا في جلسة سمر دفعت الكثير ممن كانوا بالجوار إلى مشاركتهم ومن ضمنهم سائق ونيت كان قد شده المشهد فنسي قيادة السيارة، وظل يستمتع بالمشاهدة أثناء قيادته السيارة مما جعل السيارة تتجه إلى حفرة في الوادي ويسقط فيها إلا أن الله سلمه ولم يصب بسوء وقد تمت مساعدته واستخراج سيارته.

يعود فيصل البركاتي للقول: الأمر لا يقتصر على أيام الإجازات وإنما يكاد حضورهم يكون بصورة يومية فبعض أصدقائهم قد ألف المكان وصار يفضل البقاء فيه بصورة مستمرة بل إن بعض أصدقائنا يداوم إلى عمله من هذا المكان.

البحث عن التركيز

كان جميل سالم الصاعدي وعصام حمادي الصاعدي وإبراهيم سالم الصاعدي ونواف عبد الله الصاعدي قد اتخذوا موقعهم على سفح أحد الجبال المشرفة على الوادي وقد أحضروا بعض لوازم مكوثهم هناك.

جميل الصاعدي الذي بدأ الحوار قال: كنا نجلس في الحي لكن عصام الصاعدي طرح فكرة التوجه للبر من أجل الاستمتاع بالعشب والهواء النقي ولهذا شرعنا في تطبيق الفكرة حيث أحضر كل منا ما يستطيع من أوان بالإضافة إلى بعض الطعام، وكما ترى نحن لا نحبذ البقاء أكثر من فترة المساء، فنحن طلاب كما أن لدينا أسرا لا ترغب في ابتعادنا عن البيت.

ويقول إبراهيم الصاعدي نحرص على المجئ لهذا المكان فقط أيام الاربعاء والخميس وربما الجمعة، ولعلنا نأخذ بفكرة صديقنا نواف بالتوجه عند موعد الاختبارات للمذاكرة في هذا الموقع الذي تساعدنا أجواؤه على التركيز.

نواف الصاعدي شاطره الحديث بقوله: الهواء ممتع جدا ولهذا اقترحت عليهم فكرة المذاكرة حتى المساء ثم نعود لكن هذا كلام سابق لأوانه.

تعويد الصغار

عبد الرزاق محمد البرادعي لم يكن حافزه على نصب خيمته سوى الرغبة في أن تستمع أسرته بهذه الأجواء حيث يقول:

تم اختيار هذا الموقع بعد التشاور مع أسرتي وتحديدا الوالدة حيث قررت شراء الخيمة وتوفير كل ما تتطلبه الإقامة هنا.

ولعل من الأهداف المهمة رغبتي في أن يتعود الصغار بالذات على مثل الحياة التي تختلف تماما عن حياة الشقة أو البيت داخل المدينة.

هنا ينطلق الصغار بلا مضايقات ويأخذون راحتهم في اللعب فالمكان أمامهم فسيح جدا كما أنه نظيف، وهذا يساعدهم كثيرا في تفريغ طاقتهم بدلا من استخدامها فيما لا يعود عليهم بالنفع كالاحتكاكات مع بعضهم البعض، فمن المعروف أن أغلب مشاكل الصغار تعود إلى عدم وجود مكان واسع يركضون فيه ويمارسون اللعب بكل طاقتهم فالشقة كما هو معلوم ليست مكانا للعب وأعتقد أنها فرصة رائعة يستمتع فيه هؤلاء الصغار قبل الكبار كما أنها فرصة بالنسبة لي أيضا للحركة والاستمتاع بحياة الآباء والأجداد.

شلة المتقاعدين

في مكان مرتفع يشرف على الوادي بجوار بوابة مكة تنتصب خيمة لم يهمل القائمون عليها زخرفتها ورفع علم المملكة في أعلاها وتزيينها بألوان الطيف وخصوصا عندما يدنو الليل فتبدو الخيمة كعروس بين خيام الوادي، الخيمة التي لم ينس أصحابها تأثيثها بكل احتياجات الحياة البرية وبكافة المعدات والعمل تتم إدارته وفق شخص مسؤول يعتبر مدير الخيمة كما يقول صابر محمود آشي: قمنا بتنصيب أخينا ياسر إسماعيل شرعة مديرا للخيمة وذلك حتى لا يحدث أي اختلاف في وجهات النظر بين كافة منسوبي الخيمة.

والحقيقة نحن مجموعة تتكون من تسعة أفراد جميعنا من المتقاعدين في وظائف مختلفة، يوجد بيننا مدرسون ومديرو أقسام وموظفون وحتى أيضا من الخدمة العسكرية.

اتفقنا جميعا على نصب هذه الخيمة بالمواصفات التي حددناها، وبالتكاليف التي تقسم على الجميع، ولم تكن الفكرة وليدة الأمس إنما تعود إلى ثلاث سنوات ففي كل ربيع أو بعد موسم الأمطار نقوم بنصب الخيمة في هذا المكان وإزالتها عندما يدخل الصيف.

يتم تقسيم العمل حسب الحضور وحسب رؤية مدير الخيمة، مثلا الطعام لا نقوم بشراء أي وجبة من السوق وهذا من قراراتنا في الخيمة.

الطعام يتم تجهيزه هنا حسب الجدول أو التوزيع الذي يأمر به مدير الخيمة.

يتدخل صابر آشي قائلا: كذلك برنامج المساء يضع مدير الخيمة جدوله، وربما استعان بالبعض المهم كل هذا التنظيم لأننا جميعا أصدقاء وزملاء ولا نريد أن يحدث بيننا خلاف لا سمح الله على أي مسألة، وهو درس استفدناه من تجارب الآخرين حيث تقع المشاكل بينهم في كثير من الأوقات على نوعية الأكل، فبينما يرغب البعض مثلا في الرز البخاري يرفض الآخرون بحجة رغبتهم في الرز العربي أو غيره.

ومنذ البداية وضعنا هذا التنظيم منعا لذلك، وكما ترى فالجميع أصحاب تجارب وخبرات، وهذا الذي جعلني أحبذ الارتباط معهم لأنني استفيد من خبراتهم تلك.

لدينا العم ممدوح إبراهيم بخاري أطال الله لنا في عمره يعتبر طبيب الخيمة فهو المتقاعد من وزارة الصحة ولهذا هو من أحضر صيدلية الدواء هذه، ولقد كان لها دور في شهر ذي الحجة عندما حضرت عائلة كانت تتنزه بالقرب من خيمتنا وسقط طفلها على صخرة وحدث له كسر في يده اليسرى فلم يتردد العم ممدوح في إسعافه بالصورة التي حافظت على بقاء يد الصغير داخل جبيرة من خشب قبل نقله للمستشفى، فهذه الأدوات لا تقتصر علينا وإنما نقدمها لكل من يحتاجها.

أما العم عبد الحميد علي الريمي فهو مهندس الخيمة، الذي يتولى صيانة المولد وسائر الأجهزة الكهربائية، غالبا ما يكون الوحيد الذي يبقى داخل الخيمة ولعدة أسابيع.

ابتزاز صاحب الشقة

يعترف هادي حسين مشعبي وعبد العزيز عائل الشاطري وسعيد فواز الناصر بأنهم لم يكن في تخطيطهم شراء خيمة أو حتى المكوث في هذه البراري يقول سعيد الناصر: قصتنا باختصار أن أحدنا مدرس وأنا وصديقي عبد العزيز موظفان وقد تم نقلنا للعمل في مكة بينما بقيت أسرة هادي في بيش وأسرتي في القنفذة وأسرة سعيد في الطائف مما يتعذر علينا الذهاب لهم أسبوعيا نتيجة لالتزامات العمل وبعد المسافة وخصوصا بالنسبة لهادي لهذا اتفقنا على البحث عن شقة وبالفعل حصلنا عليها في حي العزيزية، وبكل أسف لم يذكر صاحب الشقة حينها أن الإيجار يتوقف مع قدوم شهر الحج بل تم الاتفاق معه على الإيجار السنوي، وبالفعل قمنا بدفع إيجار نصف سنة ثم دفعنا له النصف الآخر في شهر رجب لكن الرجل باغتنا أواخر شهر ذي القعدة بطلبه إخلاء الشقة لرغبته في تأجيرها على الحجاج، المشكلة أن الرجل استغل عدم مطالبته بتسليمنا وصلا أو سندا يثبت حقنا في دفع قيمة الإيجار لنهاية السنة ولهذا لعب لعبته.

عندما أدركنا فداحة الخطأ الذي ارتكبناه في حق أنفسنا بعدم أخذ سند على الرجل، واعتمادنا على الثقة ما كان منا إلا أن غادرناها بقهر شديد وحينها طرح هادي فكرة الخيمة قررنا المجيء إلى هنا على باعتبار أنها ستكون سكنا مؤقتا لريثما نتدبر أمورنا.

عندما مكثنا في الخيمة في هذا الموقع بالذات، قررنا البقاء إلى أن يدخل الصيف و حينها يحلها الحلال.