أثارت مقولة إزالة بعض المواقع الإسلامية المأثورة وتغيير مسميات بعضها الآخر في مكة المكرمة وجدة والمدينة المنورة جدلا واسعا في المشهدين الفكري والإعلامي، وتقدم لتأييدها عدد من المشايخ والمفكرين والمثقفين بينما تصدى لها وناقض أطروحاتها فصيل آخر من هذه الشرائح، كما شارك في التجاذب الفكري حولها عدد من كتاب الرأي في وسائلنا الإعلامية. ولأهمية الموضوع وحاجته للبحث المتعمق المدعوم بالأدلة والأسانيد تنشر «عكاظ» على عدة حلقات مسلسلة دراسة أكاديمية قام بإعدادها الشيخ الدكتور عبدالوهاب إبراهيم أبو سليمان عضو هيئة كبار العلماء، تتناول هذا الموضوع وتضع النقاط على الحروف المدعومة بالأدلة والشواهد على التساؤلات الإشكالية المهمة التي أطلقها المؤيدون والمعارضون لهذا الموضوع.
يأتي الآن دور عرض ما احتواهما هذان الكتابان المهمان (أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، وأخبار مكة في قديم الدهر وحديثه) في ما يتصل بموضوع البحث (يتم التطرق في هذه الحلقة للكتاب الأول للأزرقي):
أولا: (أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار) تأليف شيخ المؤرخين المكيين العلامة أبي الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي (223هـ)، ورد لديه موضوع الآثار الإسلامية التاريخية في مكة المكرمة تحت عنوان: (ذكر المواضع التي يستحب فيها الصلاة بمكة المكرمة، وما فيها من آثار النبي صلى الله عليه وسلم، وما صح من ذلك). ثم عينها، وحدد أماكن وجودها، وما يتعلق بها من أحداث مع الكشف عن صحة نسبتها، وهو حين يقدم قائمة هذه الأماكن يوثقها بأحداثها، والمناسبة التي جعلت من المكان معلما تاريخيا، ولا يكتفي بهذا بل يختبر تلك الروايات، ويفحصها فحص المؤرخ الدقيق بكل ما يمكن أن يكشف الحقيقة، فيؤكد الصحيح، ويزيف الضعيف، ويرفضه، البعض منها، ففي ثبت هذه الأماكن التاريخية، وعلى منهجه في فحص الروايات، يثبت لديه مما لا شك فيه من هذه الأماكن الآتي:
1- مولد النبي صلى الله عليه وسلم.
2- منزل السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها.
3- دار الأرقم بن أبي الأرقم.
4- مسجد بأعلى مكة عند الردم عند بير جبير بن مطعم.
5- مسجد الجن.
6- مسجد الشجرة بأعلى مكة.
7- مسجد بأعلى مكة عند سوق الغنم عند قرن مسقلة.
8- ومسجد السرر.
9- ومسجد بعرفة عن يمين الموقف.
10- ومسجد الكبش بمنى.
11- ومسجد بذي طوى.
12- غار حراء.
13- غار ثور.
14- مسجد البيعة بشعب العقبة.
15- مسجد الجعرانة.
16- مسجد التنعيم.
وقد رفض صحة بعض الأماكن، ونفى نسبتها إلى أحداث ومناسبات تاريخية تتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى أحد من الرسل، والأنبياء السابقين كسيدنا إبراهيم عليهم، وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، من هذه الأماكن:
1- مسجد بأجياد يقال له مسجد المتكا.
2- مسجد على جبل أبي قبيس.
بل لقد بلغت دقة الإمام الأزرقي -رحمه الله تعالى- حدا بعيدا جعله يذهب إلى أبعد من هذا؛ حيث إنه يناقش بعض الأمور التاريخية داخل ذلك المكان مما انتشر بين عامة الناس، فيكشف عن حقيقته، من ذلك أنه كان يوجد في منزل السيدة خديجة -رضي الله عنها- صفيحة من الحجارة مبني عليها في جدار البيت الذي كان يسكنه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بعض الناس يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس تحت تلك الصفيحة، فيستدري بها من الرمي بالحجارة إذا جاءته من دار أبي لهب، ودار عدي بن أبي الحمراء الثقفي، فتحرى الإمام الأزرقي صحة هذا، وتوصل إلى عدم صحتها.
هذه الدقة العلمية، والحرص على توخي صحة الرواية، والمكان، والحدث، نشاهدها في العرض التاريخي في كتابه النفيس، مبتدئا هذه القائمة بـ:
1- مولد النبي صلى الله عليه وسلم، أي البيت الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم: وهو في دار محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف، كان عقيل بن أبي طالب أخذه حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وفيه، وفي غيره يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع حين قيل له: أي تنزل يا رسول الله؟ "وهل ترك لنا عقيل من ظل" فلم يزل بيده وبيد ولده حتى باعه ولده من محمد يوسف فأدخله في داره التي يقال لها البيضاء، وتعرف اليوم بابن يوسف، فلم يزل ذلك البيت في الدار حتى حجت الخيزران أم الخليفتين موسى وهارون، فجعلته مسجدا يصلي فيه، وأخرجته من الدار، وأشرعته في الزقاق الذي في أصل تلك الدار، يقال له زقاق المولد.
حدثنا أبو الوليد، قال سمعت جدي ويوسف بن محمد يثبتان أمر المولد وأنه ذلك البيت لا اختلاف فيه عند أهل مكة.
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني رجل من أهل مكة، يقال له سليمان بن أبي مرحب مولي بن خيثم، قال: حدثني ناس كانوا يسكنون ذلك البيت قبل أن تشرعه الخيزران من الدار ثم انتقلوا عنه حين جعل مسجدا، قالوا: لا والله ما أصابتنا فيه جايحة، ولا حاجة، فأخرجنا منه، فاشتد الزمان علينا (11).
ومن فضل الله أن هذا المنزل المبارك قد وظف توظيفا شرعيا، فأصبح منارة علمية يأوي إليها العلماء والباحثون؛ بحيث أصبح يضم أنفس المكتبات الخاصة لعلماء البلد الحرام، تجمع نفائس المخطوطات، والمطبوعات، وسيأتي الكلام عن هذا بالتفصيل.
2- ومنزل خديجة ابنة خويلد، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو البيت الذي كان يسكنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخديجة، وفيه ابتنى بخديجة، وولدت فيه خديجة أولادها جميعا، وفيه توفيت خديجة فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم ساكنا فيه حتى خرج إلى المدينة مهاجرا فأخذه عقيل بن أبي طالب، ثم اشتراه منه معاوية، وهو خليفة، فجعله مسجدا يصلى فيه، وبناه بناءه هذا، وحد الحدود التي كانت لبيت خديجة لم تغير في ما ذكر عن من يوثق به من المكيين، وفتح معاوية فيه بابا من دار أبي سفيان بن حرب وهو قايم إلى اليوم، وهي الدار التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، وهي الدار التي يقال لها اليوم: دار ريطة بنت أبي العباس أمير المؤمنين.
3- ومسجد في دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي التي عند الصفا يقال لها دار الخيزران، كان بيتا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مختبيا فيه، وفيه أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه (12).
يستمر الإمام أبو الوليد الأزرقي في سرد حديثه عن الأماكن التاريخية المأثورة في عصره، وقد بلغت ثمانية عشر موقعا يتم سردها على النحو التالي:
مسجد بأعلى مكة عند الردم عند بير جبير بن مطعم، يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه، وقد بناه عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس (13)، وبنى عنده جنبذا يسقى فيه الماء. مسجد بأعلى مكة أيضا يقال له مسجد الجن – مسجد يقال له مسجد الشجرة.
ومسجد بأعلى مكة أيضا، يقال له مسجد الجن، وهو الذي يسميه أهل مكة مسجد الحرس، وإنما سمي مسجد الحرس أن صاحب الحرس كان يطوف بمكة حتى انتهى إليه، وقف عنده ولم يجزه حتى يتوافى عنده عرفاؤه، وحرسه يأتونه من شعب بني عامر، ومن ثنية المدنيين، فإذا توافوا عنده رجع منحدرا إلى مكة، وهو في ما يقال له: موضع الخط الذي خط رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود ليلة استمع إليه الجن، وهو يسمى مسجد البيعة، يقال إن الجن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الموضع.
ومسجد يقال له مسجد الشجرة بأعلى مكة في دبر دار منارة بحذاء هذا المسجد مسجد الجن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا شجرة كانت في موضعه، وهو في مسجد فسألها عن شيء، فأقبلت تخط بأصلها وعروقها الأرض حتى وقفت بين يديه، فسألها عما يريد، ثم أمرها فرجعت حتى انتهت إلى موضعها (14).
ومسجد بأعلى مكة عند سوق الغنم عند قرن مسقلة، ويزعمون أن عنده بايع النبي صلى الله عليه وسلم الناس بمكة يوم الفتح (15).
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي عن الزنجي، عن ابن جريج، حدثنا عبد الله بن عثمان خيثم: أن محمد بن الأسود بن خلف الخزاعي، أخبره أن أباه الأسود حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قرن مسقلة بالمعلاة، قال: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم جاءه الرجال والنساء، والصغار، والكبار فبايعهم على الإسلام والشهادة، قال: قلت: وما الشهادة؟ قال محمد بن الأسود: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله.
ومسجد السرر: وهو المسجد الذي يسميه أهل مكة مسجد عبد الصمد بن علي كان بناه (16).
ومسجد بعرفة عن يمين الموقف يقال له مسجد إبراهيم، وليس بمسجد عرفة الذي يصلي فيه الإمام.
ومسجد الكبش بمنى قد كتبت ذكره في موضع منى، وما جاء فيه.
ومسجد بأجياد، وموضع فيه يقال له (المتكا)، سمعت جدي أحمد بن محمد، ويوسف بن محمد بن إبراهيم يسألان عن المتكا، وهل يصح عندهما أن النبي صلى الله عليه وسلم اتكى فيه، فرأيتهما ينكران ذلك ويقولان: لم نسمع به من ثبت. قال لي جدي: سمعت الزنجي مسلم بن خالد، وسعيد بن سالم القداح وغيرهما من أهل العلم يقولون: إن أمر المتكا ليس بالقوي عندهم بل يضعفونه، غير أنهم يثبتون أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأجياد الصغير، لا يثبت ذلك الموضع ولا يوقف عليه، قال: ولم أسمع أحدا من أهل مكة يثبت أمر المتكا (17).
ومسجد على جبل أبي قبيس، يقال له مسجد إبراهيم، سمعت يوسف بن محمد بن إبراهيم يسأل عنه، هل هو مسجد إبراهيم خليل الرحمن؟ فرأيته ينكر ذلك، ويقول: إنما قيل هذا حديثا من الدهر، لم أسمع أحدا من أهل العلم يثبته، قال أبو الوليد، وسألت جدي عنه فقال لي: متى بني هذا المسجد؟!
إنما بني حديثا من الدهر، ولقد سمعت بعض أهل العلم من أهل مكة يسأل عنه: أهذا المسجد مسجد إبراهيم خليل الرحمن فينكر ذلك، ويقول: بل هو مسجد إبراهيم القبيسي لإنسان كان في جبل أبي قبيس سايس يسأل عنده، فقلت لجدي: فإني سمعت بعض الناس يقول:
إن إبراهيم خليل الرحمن حين أمر بالأذان في الناس بالحج صعد على جبل أبي قبيس فأذن فوقه، فأنكر ذلك وقال: لا، لعمري ما بين أصحابنا اختلاف أن إبراهيم خليل الرحمن حين أمر بالأذان في الناس بالحج قام على مقام إبراهيم فارتفع به المقام حتى صار أطول من الجبال، وأشرف على ما تحته، فقال: أيها الناس أجيبوا ربكم، قال وقد كنت ذكرت ذلك عند موضع ذكر المقام مفسرا.
ومسجد بذي طوى: بين ثنية المدنيين المشرفة على مقبرة مكة، وبين الثنية التي تهبط على الحصحاص، وذلك المسجد بنته زبيدة بأزج.
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي، أخبرنا الزنجي عن ابن جريج، عن موسى بن عقبة أن نافعا حدثه أن عبدالله بن عمر أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل بذي طوى حين يعتمر، وفي حجته حين حج تحت سمرة في موضع المسجد، حدثنا أبو الوليد قال: وحدثني جدي أخبرنا مسلم عن ابن جريج قال: وحدثني نافع أن ابن عمر حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل بذي طوى فيبيت به حتى يصلي الصبح حين يقدم مكة، ومصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك على أكمة غليظة ليس بالمسجد الذي بني، ولكنه أسفل من الجبل الطويل الذي قبل باب الكعبة، يجعل المسجد الذي بني بيسار المسجد بطرف الأكمة، ومصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسفل منه على الأكمة السوداء، تدع من الأكمة عشرة أذرع، أو نحوها بيمين، ثم يصلي مستقبل الفرضين من الجبل الطويل الذي بينه وبين الكعبة (18).
ذكر حراء وما جاء فيه
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني مهدي بن أبي المهدي، حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني، عن معمر، أخبرني الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءته مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه- وهو التعبد والتبرر الليالي ذوات العدد - ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة ابنة خويلد فيتزود بمثلها حتى فاجأه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال: اقرأ، قال: فقلت ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ: فقلت ما أقرأ، فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، حتى بلغ ما لم يعلم.." (19).
ذكر ثور وما جاء فيه: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني محمد بن أبي عمر العدني، عن سعيد بن سالم القداح عم عمر بن جميل الجمحي عن ابن أبي مليكة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج هو وأبو بكر إلى ثور، جعل أبو بكر يكون أمام النبي صلى الله عليه وسلم مرة، وخلفه مرة، قال: فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: إذا كنت أمامك خشيت أن تؤتى من خلفك، وإذا كنت خلفك خشيت أن توتى من أمامك حتى انتهينا إلى الغار، وهو في ثور، قال أبو بكر رضي الله عنه: كما أنت، حتى أدخل يدي فأجسه، فإن كان في دابة أصابتني قبلك، قال: وبلغني أنه كان في الغار جحر، فألقم أبو بكر، رضي الله عنه، رجله ذلك الجحر؛ فرقا أن يخرج منه دابة، أو شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم. (20).
13- ذكر مسجد البيعة:
قال حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي، قال حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير محمد بن مسلم، أنه حدثه جابر بن عبد الله الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث بمكة عشر سنين يتبع الحاج في منازلهم في الموسم بمجنة، وعكاظ، ومنازلهم بمنى يقول: من يؤويني، وينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة، فلا يجد أحدا يؤويه حتى إن الرجل يرحل صاحبه من مضر، أو اليمن فيأتيه قومه، أو ذو رحمة فيقولون: احذر فتى قريش، لا يفتنك يمشي بين رجالهم يدعوهم إلى الله، يشيرون إليه بأصابعهم، حتى بعثنا الله له من يثرب، فيأتيه الرجل منا فيؤمن به، ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور يثرب إلا وفيها منا رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم بعثنا الله له فأتمرنا، واجتمعنا سبعين رجلا منا، فقلنا: حتى متى ندع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف!؟ فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم، فتواعدنا شعب العقبة، واجتمعنا فيه من رجل، ورجلين حتى توافينا عنده، وقلنا: يا رسول الله على ما نبايعك؟ قال: تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب، فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم، وأبناءكم، وأزواجكم، ولكم الجنة.
فقمنا إليه نبايعه، فأخذ بيده أسعد بن زرارة، وهو أصغر السبعين رجلا إلا أنا فقال: رويدا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على عض السيوف إذا مستكم، وعلى قتل خيركم، ومفارقة العرب كافة، فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون على أنفسكم خيفة فذروه، فهو أعذر لكم عند الله.
قالوا: أمط عنا يدك يا أسعد بن زرارة، فو الله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها، فقمنا إليه رجلا رجلا، يأخذ علينا شرطه، ويعطينا على ذلك الجنة" (21).
مسجد الجعرانة
حدثنا عمرو بن دينار، عن عكرمة عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء من قابل، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التي مع حجته.
قال: حدثنا أبو الوليد، قال حدثني جدي عن الزنجي، عن ابن جريج، قال أخبرني زياد أن محمد بن طارق أخبره أنه اعتمر مع مجاهد من الجعرانة، وأحرم من وراء الوادي حيث الحجارة المنصوبة قال: من ها هنا أحرم النبي صلى الله عليه وسلم، وإني لأعرف أول من اتخذ هذا المسجد على الكمة، بناه رجل من قريش سماه، واشترى مالا عنده نخلا فبنى المسجد.
قال ابن جريج: فلقيت أنا محمد بن طارق، فسألته فقال: اتفقت أنا ومجاهد بالجعرانة فأخبرني أن المسجد القصي الذي من وراء الوادي بالعدوة القصوى، مصلى النبي صلى الله عليه وسلم ما كان بالجعرانة، قال: فأما هذا المسجد الأدنى فإنما بناه رجل من قريش، واتخذ ذلك الحائط.. (22)
مسجد التنعيم
حدثنا أبو الوليد، قال حدثني جدي، قال حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار، عن ابن خيثم، عن يوسف بن ماهك عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن: أردف أختك –يعني عائشة – فأعمرها من التنعيم، فإذا هبطت بها الكمة فمرها فلتحرم، فإنها عمرة متقبلة.
قال حدثنا أبو الوليد، حدثني جدي، قال: حدثنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، قال: رأيت عطاء يصف الموضع الذي اعتمرت منه عائشة: قال: فأشار إلى الموضع الذي ابتنى فيه محمد بن علي الشافعي المسجد الذي وراء الأكمة، وهو المسجد الخراب.
قال الخزاعي ثم عمره أبو العباس عبد الله بن محمد بن داود وجعل على بئره قبة، وهو أمير مكة، ثم بنته العجوز وجودته، وأحسنت بناءه في سنة. (23).
قد لوحظ في السياق السابق دقة الإمام الأزرقي العلمية، وتحقيقه الصحيح من الروايات، وبيان ما تصح نسبته إلى التاريخ النبوي الشريف، والتثبت منه كما هو مشهور، ومعروف عنه، فقد انتشر كتابه هذا بين الناس بسبب دقته، وتنوع أخباره، وصحة أسانيده.
فمن ثم "بقي مصدرا رئيسا للمؤرخين والرحالة، وأصحاب المناسك، وكتب الفضائل، حتى إن القارئ لا يكاد يجد واحدا من المؤلفين في الموضوع لم يعتمده في النقل، والإحالة عليه مباشرة في أغلب الأحيان، وبواسطة الناقلين عنه أحيانا أخرى". (24).
يأتي الآن دور عرض ما احتواهما هذان الكتابان المهمان (أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، وأخبار مكة في قديم الدهر وحديثه) في ما يتصل بموضوع البحث (يتم التطرق في هذه الحلقة للكتاب الأول للأزرقي):
أولا: (أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار) تأليف شيخ المؤرخين المكيين العلامة أبي الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي (223هـ)، ورد لديه موضوع الآثار الإسلامية التاريخية في مكة المكرمة تحت عنوان: (ذكر المواضع التي يستحب فيها الصلاة بمكة المكرمة، وما فيها من آثار النبي صلى الله عليه وسلم، وما صح من ذلك). ثم عينها، وحدد أماكن وجودها، وما يتعلق بها من أحداث مع الكشف عن صحة نسبتها، وهو حين يقدم قائمة هذه الأماكن يوثقها بأحداثها، والمناسبة التي جعلت من المكان معلما تاريخيا، ولا يكتفي بهذا بل يختبر تلك الروايات، ويفحصها فحص المؤرخ الدقيق بكل ما يمكن أن يكشف الحقيقة، فيؤكد الصحيح، ويزيف الضعيف، ويرفضه، البعض منها، ففي ثبت هذه الأماكن التاريخية، وعلى منهجه في فحص الروايات، يثبت لديه مما لا شك فيه من هذه الأماكن الآتي:
1- مولد النبي صلى الله عليه وسلم.
2- منزل السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها.
3- دار الأرقم بن أبي الأرقم.
4- مسجد بأعلى مكة عند الردم عند بير جبير بن مطعم.
5- مسجد الجن.
6- مسجد الشجرة بأعلى مكة.
7- مسجد بأعلى مكة عند سوق الغنم عند قرن مسقلة.
8- ومسجد السرر.
9- ومسجد بعرفة عن يمين الموقف.
10- ومسجد الكبش بمنى.
11- ومسجد بذي طوى.
12- غار حراء.
13- غار ثور.
14- مسجد البيعة بشعب العقبة.
15- مسجد الجعرانة.
16- مسجد التنعيم.
وقد رفض صحة بعض الأماكن، ونفى نسبتها إلى أحداث ومناسبات تاريخية تتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى أحد من الرسل، والأنبياء السابقين كسيدنا إبراهيم عليهم، وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، من هذه الأماكن:
1- مسجد بأجياد يقال له مسجد المتكا.
2- مسجد على جبل أبي قبيس.
بل لقد بلغت دقة الإمام الأزرقي -رحمه الله تعالى- حدا بعيدا جعله يذهب إلى أبعد من هذا؛ حيث إنه يناقش بعض الأمور التاريخية داخل ذلك المكان مما انتشر بين عامة الناس، فيكشف عن حقيقته، من ذلك أنه كان يوجد في منزل السيدة خديجة -رضي الله عنها- صفيحة من الحجارة مبني عليها في جدار البيت الذي كان يسكنه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بعض الناس يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس تحت تلك الصفيحة، فيستدري بها من الرمي بالحجارة إذا جاءته من دار أبي لهب، ودار عدي بن أبي الحمراء الثقفي، فتحرى الإمام الأزرقي صحة هذا، وتوصل إلى عدم صحتها.
هذه الدقة العلمية، والحرص على توخي صحة الرواية، والمكان، والحدث، نشاهدها في العرض التاريخي في كتابه النفيس، مبتدئا هذه القائمة بـ:
1- مولد النبي صلى الله عليه وسلم، أي البيت الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم: وهو في دار محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف، كان عقيل بن أبي طالب أخذه حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وفيه، وفي غيره يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع حين قيل له: أي تنزل يا رسول الله؟ "وهل ترك لنا عقيل من ظل" فلم يزل بيده وبيد ولده حتى باعه ولده من محمد يوسف فأدخله في داره التي يقال لها البيضاء، وتعرف اليوم بابن يوسف، فلم يزل ذلك البيت في الدار حتى حجت الخيزران أم الخليفتين موسى وهارون، فجعلته مسجدا يصلي فيه، وأخرجته من الدار، وأشرعته في الزقاق الذي في أصل تلك الدار، يقال له زقاق المولد.
حدثنا أبو الوليد، قال سمعت جدي ويوسف بن محمد يثبتان أمر المولد وأنه ذلك البيت لا اختلاف فيه عند أهل مكة.
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني رجل من أهل مكة، يقال له سليمان بن أبي مرحب مولي بن خيثم، قال: حدثني ناس كانوا يسكنون ذلك البيت قبل أن تشرعه الخيزران من الدار ثم انتقلوا عنه حين جعل مسجدا، قالوا: لا والله ما أصابتنا فيه جايحة، ولا حاجة، فأخرجنا منه، فاشتد الزمان علينا (11).
ومن فضل الله أن هذا المنزل المبارك قد وظف توظيفا شرعيا، فأصبح منارة علمية يأوي إليها العلماء والباحثون؛ بحيث أصبح يضم أنفس المكتبات الخاصة لعلماء البلد الحرام، تجمع نفائس المخطوطات، والمطبوعات، وسيأتي الكلام عن هذا بالتفصيل.
2- ومنزل خديجة ابنة خويلد، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو البيت الذي كان يسكنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخديجة، وفيه ابتنى بخديجة، وولدت فيه خديجة أولادها جميعا، وفيه توفيت خديجة فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم ساكنا فيه حتى خرج إلى المدينة مهاجرا فأخذه عقيل بن أبي طالب، ثم اشتراه منه معاوية، وهو خليفة، فجعله مسجدا يصلى فيه، وبناه بناءه هذا، وحد الحدود التي كانت لبيت خديجة لم تغير في ما ذكر عن من يوثق به من المكيين، وفتح معاوية فيه بابا من دار أبي سفيان بن حرب وهو قايم إلى اليوم، وهي الدار التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، وهي الدار التي يقال لها اليوم: دار ريطة بنت أبي العباس أمير المؤمنين.
3- ومسجد في دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي التي عند الصفا يقال لها دار الخيزران، كان بيتا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مختبيا فيه، وفيه أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه (12).
يستمر الإمام أبو الوليد الأزرقي في سرد حديثه عن الأماكن التاريخية المأثورة في عصره، وقد بلغت ثمانية عشر موقعا يتم سردها على النحو التالي:
مسجد بأعلى مكة عند الردم عند بير جبير بن مطعم، يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه، وقد بناه عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس (13)، وبنى عنده جنبذا يسقى فيه الماء. مسجد بأعلى مكة أيضا يقال له مسجد الجن – مسجد يقال له مسجد الشجرة.
ومسجد بأعلى مكة أيضا، يقال له مسجد الجن، وهو الذي يسميه أهل مكة مسجد الحرس، وإنما سمي مسجد الحرس أن صاحب الحرس كان يطوف بمكة حتى انتهى إليه، وقف عنده ولم يجزه حتى يتوافى عنده عرفاؤه، وحرسه يأتونه من شعب بني عامر، ومن ثنية المدنيين، فإذا توافوا عنده رجع منحدرا إلى مكة، وهو في ما يقال له: موضع الخط الذي خط رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود ليلة استمع إليه الجن، وهو يسمى مسجد البيعة، يقال إن الجن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الموضع.
ومسجد يقال له مسجد الشجرة بأعلى مكة في دبر دار منارة بحذاء هذا المسجد مسجد الجن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا شجرة كانت في موضعه، وهو في مسجد فسألها عن شيء، فأقبلت تخط بأصلها وعروقها الأرض حتى وقفت بين يديه، فسألها عما يريد، ثم أمرها فرجعت حتى انتهت إلى موضعها (14).
ومسجد بأعلى مكة عند سوق الغنم عند قرن مسقلة، ويزعمون أن عنده بايع النبي صلى الله عليه وسلم الناس بمكة يوم الفتح (15).
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي عن الزنجي، عن ابن جريج، حدثنا عبد الله بن عثمان خيثم: أن محمد بن الأسود بن خلف الخزاعي، أخبره أن أباه الأسود حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قرن مسقلة بالمعلاة، قال: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم جاءه الرجال والنساء، والصغار، والكبار فبايعهم على الإسلام والشهادة، قال: قلت: وما الشهادة؟ قال محمد بن الأسود: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله.
ومسجد السرر: وهو المسجد الذي يسميه أهل مكة مسجد عبد الصمد بن علي كان بناه (16).
ومسجد بعرفة عن يمين الموقف يقال له مسجد إبراهيم، وليس بمسجد عرفة الذي يصلي فيه الإمام.
ومسجد الكبش بمنى قد كتبت ذكره في موضع منى، وما جاء فيه.
ومسجد بأجياد، وموضع فيه يقال له (المتكا)، سمعت جدي أحمد بن محمد، ويوسف بن محمد بن إبراهيم يسألان عن المتكا، وهل يصح عندهما أن النبي صلى الله عليه وسلم اتكى فيه، فرأيتهما ينكران ذلك ويقولان: لم نسمع به من ثبت. قال لي جدي: سمعت الزنجي مسلم بن خالد، وسعيد بن سالم القداح وغيرهما من أهل العلم يقولون: إن أمر المتكا ليس بالقوي عندهم بل يضعفونه، غير أنهم يثبتون أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأجياد الصغير، لا يثبت ذلك الموضع ولا يوقف عليه، قال: ولم أسمع أحدا من أهل مكة يثبت أمر المتكا (17).
ومسجد على جبل أبي قبيس، يقال له مسجد إبراهيم، سمعت يوسف بن محمد بن إبراهيم يسأل عنه، هل هو مسجد إبراهيم خليل الرحمن؟ فرأيته ينكر ذلك، ويقول: إنما قيل هذا حديثا من الدهر، لم أسمع أحدا من أهل العلم يثبته، قال أبو الوليد، وسألت جدي عنه فقال لي: متى بني هذا المسجد؟!
إنما بني حديثا من الدهر، ولقد سمعت بعض أهل العلم من أهل مكة يسأل عنه: أهذا المسجد مسجد إبراهيم خليل الرحمن فينكر ذلك، ويقول: بل هو مسجد إبراهيم القبيسي لإنسان كان في جبل أبي قبيس سايس يسأل عنده، فقلت لجدي: فإني سمعت بعض الناس يقول:
إن إبراهيم خليل الرحمن حين أمر بالأذان في الناس بالحج صعد على جبل أبي قبيس فأذن فوقه، فأنكر ذلك وقال: لا، لعمري ما بين أصحابنا اختلاف أن إبراهيم خليل الرحمن حين أمر بالأذان في الناس بالحج قام على مقام إبراهيم فارتفع به المقام حتى صار أطول من الجبال، وأشرف على ما تحته، فقال: أيها الناس أجيبوا ربكم، قال وقد كنت ذكرت ذلك عند موضع ذكر المقام مفسرا.
ومسجد بذي طوى: بين ثنية المدنيين المشرفة على مقبرة مكة، وبين الثنية التي تهبط على الحصحاص، وذلك المسجد بنته زبيدة بأزج.
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي، أخبرنا الزنجي عن ابن جريج، عن موسى بن عقبة أن نافعا حدثه أن عبدالله بن عمر أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل بذي طوى حين يعتمر، وفي حجته حين حج تحت سمرة في موضع المسجد، حدثنا أبو الوليد قال: وحدثني جدي أخبرنا مسلم عن ابن جريج قال: وحدثني نافع أن ابن عمر حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل بذي طوى فيبيت به حتى يصلي الصبح حين يقدم مكة، ومصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك على أكمة غليظة ليس بالمسجد الذي بني، ولكنه أسفل من الجبل الطويل الذي قبل باب الكعبة، يجعل المسجد الذي بني بيسار المسجد بطرف الأكمة، ومصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسفل منه على الأكمة السوداء، تدع من الأكمة عشرة أذرع، أو نحوها بيمين، ثم يصلي مستقبل الفرضين من الجبل الطويل الذي بينه وبين الكعبة (18).
ذكر حراء وما جاء فيه
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني مهدي بن أبي المهدي، حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني، عن معمر، أخبرني الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءته مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه- وهو التعبد والتبرر الليالي ذوات العدد - ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة ابنة خويلد فيتزود بمثلها حتى فاجأه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال: اقرأ، قال: فقلت ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ: فقلت ما أقرأ، فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، حتى بلغ ما لم يعلم.." (19).
ذكر ثور وما جاء فيه: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني محمد بن أبي عمر العدني، عن سعيد بن سالم القداح عم عمر بن جميل الجمحي عن ابن أبي مليكة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج هو وأبو بكر إلى ثور، جعل أبو بكر يكون أمام النبي صلى الله عليه وسلم مرة، وخلفه مرة، قال: فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: إذا كنت أمامك خشيت أن تؤتى من خلفك، وإذا كنت خلفك خشيت أن توتى من أمامك حتى انتهينا إلى الغار، وهو في ثور، قال أبو بكر رضي الله عنه: كما أنت، حتى أدخل يدي فأجسه، فإن كان في دابة أصابتني قبلك، قال: وبلغني أنه كان في الغار جحر، فألقم أبو بكر، رضي الله عنه، رجله ذلك الجحر؛ فرقا أن يخرج منه دابة، أو شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم. (20).
13- ذكر مسجد البيعة:
قال حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي، قال حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير محمد بن مسلم، أنه حدثه جابر بن عبد الله الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث بمكة عشر سنين يتبع الحاج في منازلهم في الموسم بمجنة، وعكاظ، ومنازلهم بمنى يقول: من يؤويني، وينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة، فلا يجد أحدا يؤويه حتى إن الرجل يرحل صاحبه من مضر، أو اليمن فيأتيه قومه، أو ذو رحمة فيقولون: احذر فتى قريش، لا يفتنك يمشي بين رجالهم يدعوهم إلى الله، يشيرون إليه بأصابعهم، حتى بعثنا الله له من يثرب، فيأتيه الرجل منا فيؤمن به، ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور يثرب إلا وفيها منا رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم بعثنا الله له فأتمرنا، واجتمعنا سبعين رجلا منا، فقلنا: حتى متى ندع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف!؟ فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم، فتواعدنا شعب العقبة، واجتمعنا فيه من رجل، ورجلين حتى توافينا عنده، وقلنا: يا رسول الله على ما نبايعك؟ قال: تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب، فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم، وأبناءكم، وأزواجكم، ولكم الجنة.
فقمنا إليه نبايعه، فأخذ بيده أسعد بن زرارة، وهو أصغر السبعين رجلا إلا أنا فقال: رويدا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على عض السيوف إذا مستكم، وعلى قتل خيركم، ومفارقة العرب كافة، فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون على أنفسكم خيفة فذروه، فهو أعذر لكم عند الله.
قالوا: أمط عنا يدك يا أسعد بن زرارة، فو الله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها، فقمنا إليه رجلا رجلا، يأخذ علينا شرطه، ويعطينا على ذلك الجنة" (21).
مسجد الجعرانة
حدثنا عمرو بن دينار، عن عكرمة عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء من قابل، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التي مع حجته.
قال: حدثنا أبو الوليد، قال حدثني جدي عن الزنجي، عن ابن جريج، قال أخبرني زياد أن محمد بن طارق أخبره أنه اعتمر مع مجاهد من الجعرانة، وأحرم من وراء الوادي حيث الحجارة المنصوبة قال: من ها هنا أحرم النبي صلى الله عليه وسلم، وإني لأعرف أول من اتخذ هذا المسجد على الكمة، بناه رجل من قريش سماه، واشترى مالا عنده نخلا فبنى المسجد.
قال ابن جريج: فلقيت أنا محمد بن طارق، فسألته فقال: اتفقت أنا ومجاهد بالجعرانة فأخبرني أن المسجد القصي الذي من وراء الوادي بالعدوة القصوى، مصلى النبي صلى الله عليه وسلم ما كان بالجعرانة، قال: فأما هذا المسجد الأدنى فإنما بناه رجل من قريش، واتخذ ذلك الحائط.. (22)
مسجد التنعيم
حدثنا أبو الوليد، قال حدثني جدي، قال حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار، عن ابن خيثم، عن يوسف بن ماهك عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن: أردف أختك –يعني عائشة – فأعمرها من التنعيم، فإذا هبطت بها الكمة فمرها فلتحرم، فإنها عمرة متقبلة.
قال حدثنا أبو الوليد، حدثني جدي، قال: حدثنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، قال: رأيت عطاء يصف الموضع الذي اعتمرت منه عائشة: قال: فأشار إلى الموضع الذي ابتنى فيه محمد بن علي الشافعي المسجد الذي وراء الأكمة، وهو المسجد الخراب.
قال الخزاعي ثم عمره أبو العباس عبد الله بن محمد بن داود وجعل على بئره قبة، وهو أمير مكة، ثم بنته العجوز وجودته، وأحسنت بناءه في سنة. (23).
قد لوحظ في السياق السابق دقة الإمام الأزرقي العلمية، وتحقيقه الصحيح من الروايات، وبيان ما تصح نسبته إلى التاريخ النبوي الشريف، والتثبت منه كما هو مشهور، ومعروف عنه، فقد انتشر كتابه هذا بين الناس بسبب دقته، وتنوع أخباره، وصحة أسانيده.
فمن ثم "بقي مصدرا رئيسا للمؤرخين والرحالة، وأصحاب المناسك، وكتب الفضائل، حتى إن القارئ لا يكاد يجد واحدا من المؤلفين في الموضوع لم يعتمده في النقل، والإحالة عليه مباشرة في أغلب الأحيان، وبواسطة الناقلين عنه أحيانا أخرى". (24).