ليس بمستغرب أن تتعالى بعض الأصوات معلنة أن إسرائيل قد انهزمت وأن «حماس» قد حققت انتصارا ساحقا على آلة الحرب الإسرائيلية، وهذه هي الأصوات نفسها التي ارتفعت على حطام البنية التحتية للبنان معلنة انتصار «حزب الله» على الجيش الإسرائيلي. وليس لنا أن نعيد ذلك الى مجرد التجاهل لحجم الخسائر في الممتلكات والأرواح الذي منيت به غزة. كما أنه ليس لنا أن نرى في ذلك ضربا من المغالاة والهروب من مواجهة الواقع فحسب، ذلك ان الأمر متصل بتصور العرب للنصر والهزيمة. إذ يكفي أن يعلن العدو ايقاف الهجوم لنعتبره مهزوما، ونعلن بعد ذلك أننا انتصرنا عليه غير مراعين لحجم الخسائر الحضارية التي منينا بها. وهذا الحرص على إعلان الانتصار يرتبط بالعقلية العربية التي لا تملك من مفاهيم الانتصار الا الانتصار في الحروب فقط، وذلك يعود الى ارتباط مفهومي الانتصار والهزيمة في التصور العربي بالانتصار في الحرب والهزيمة في ساحات المعارك، ولا يبدو العربي من خلال هذا التصور إلا بطلا يحمل راية النصر أو فارسا يعاني من مرارة الهزيمة. ولأن التاريخ العربي الراهن لم يحمل للعربي إلا «الهزائم» المتوالية فقد انتهى إلى أن يكون كائنا هشا مكسورا من الداخل، يحمل عار الهزيمة في كل ميدان من ميادين الحياة، وهي تلك الميادين التي لم يولها عنايته من قبل، وانعكس عليها ظلال هزائمه، فانصرف عن أن يوليها أي عناية من بعد وله في ذلك كل الحق، إذ لا ينتظر ممن انهزم في الميدان الوحيد الذي توهم أنه سينتصر فيه أن ينتصر في غيره من الميادين أو يعنى بسواه من الحقول.
لكي يتضح ما نحاول أن نذهب إليه ينبغي علينا أن نقارن الحالة العربية بالحالة اليابانية أو الحالة الألمانية، لنرى كيف أن الشعبين الألماني والياباني لم يلبثا أن تجاوزا الهزائم المرة التي عانى منها البلدان في الحرب العالمية الثانية، وأدركوا أنه إذا كانت الهزيمة قد كتبت عليهم في المجال العسكري فإن مجالات الحياة أكثر اتساعا وشمولا، وبناء على هذا الوعي تمكن هذان الشعبان من تحقيق انتصارات اقتصادية وصناعية وعلمية جعلتهم في مقدمة الأمم على الرغم من أنه لم تمض سوى عقود قليلة على هزائمهم العسكرية الفادحة, بينما ظل العرب يتعثرون في أذيال الهزيمة ولا يخططون إلا لنصر عسكري مقبل, فإن عجزوا عن تحقيقه راحوا يحلمون به وإذا استعصى عليهم الحلم راحوا يجترون ذكرياته من انتصارات قديمة أكل الدهر وشرب عليها.
وِإذا لم يكن بإمكاننا أن نعيد هذا التصور العربي الضيق لمفهوم النصر والهزيمة لسبب محدد، فإنه ليس بإمكاننا أن نعفي الدرس التاريخي العربي من تكريس هذا المفهوم في الثقافة العربية التي لم تعن كتب الذين أرخوا لها بغير أخبار الفرسان والمعارك والانتصارات والهزائم سواء جاءت مدونات هذا التاريخ في هيئة ما عني المؤرخون بتدوينه أو ما اهتم رواة السير الشعبية بروايته، ففيها جميعا لا يبدو العربي إلا مهابا وفارسا ينتقل من نصر إلى نصر أو يمحو بنصر دائم هزيمة عابرة. ولا نكاد نجد في كتب التاريخ أو مرويات السير الشعبية ما يمكن أن يخرج عن هذه الدائرة التي لا يبين خلالها من ملامح المجتمع العربي غير كونه مجتمعا اسبرطيا يعيش على الحرب ويقتات بالانتصارات ظلت ملامح الإنسان فيه غائبة لا تكاد تبين إلا في تلك الكتب التي أرخت لوفيات الأعيان والمفكرين وكأنما كان الاحتفاء بهم احتفاء بموتهم.
وليس أدل على ما نذهب إليه من أن السيرة النبوية التي كان من المفترض أن تقدم لنا النموذج الأمثل للإنسان في ملامح شخصيته وطرق قيادته لمجتمعه قد تحولت من أن تكون سيرة لهذا الإنسان لتصبح سردا للمغازي والمعارك والسرايا وأسماء الشهداء من جبهة والقتلى من جبهة أخرى ولا تبدو فيها من ملامح هذا النبي العظيم غير ملامح قائد عسكري يوزع جماعته ميمنة وميسره ويقود جيشه من نصر إلى نصر.
وإذا تجاوزنا الكتب التي دونت السيرة النبوية إلى تلك التي احتفت بتاريخ الخلفاء الراشدين والدولتين الأموية والعباسية فإننا لن نحظى في هذه الكتب بغير أخبار المعارك والفتوحات وحجم الغنائم وعدد الشهداء وقصائد المدح التي تتغنى بأسماء الأبطال والفرسان الذين قادوا العرب إلى النصر المؤزر أو درأوا عنهم الهزيمة المنكرة، ولا يظهر من العرب في ذلك التاريخ غير جيوشهم الجرارة تهزم كسرى في القادسية والقيصر في اليرموك ثم تغزو بعد ذلك الأرض شرقا حتى تبلغ حدود الصين وتنداح غربا حتى تقف على بوابة باريس معلقة على جدران العالم أسماء قادتها وأبطالها وفرسانها وشهدائها باعتبارهم الوحيدين الذين تستحق كتب التاريخ أن تحتفي بهم وأن تقدمهم باعتبارهم النموذج الأمثل للشخصية العربية وما ينبغي أن تتصف به والدور المتوخى أن تنهض بواجبه.
ولم تقصر السيرة الشعبية حين أكملت ما بدأته كتب التاريخ فراحت تنتزع من بين طياته شخصيات تنفخ فيها حتى تبلغ بها غاية ما يمكن أن تكون عليه البطولة ثم تمضي بعد ذلك قدما مخترعة شخصيات لم تسمع بها آذان المؤرخين ومعارك لم تشدها أرض وظل البطل العربي فيها منتصرا شامخ الرأس سواء كان خصومه من القبائل المعادية أو الأمم المجاورة أو من طوائف الجان والعفاريت، وظل عنترة بن شداد العبسي والزير سالم وحمزة البهلوان وأبو زيد الهلالي الأبطال الذين يحفرون لهم في المخيال العربي مكانة لا يحققها عالم أو مفكر أو فيلسوف وظلت صناعة البطولة والأبطال فنا عربيا لا تكاد أمة من الأمم أن تنافسهم فيه أو تمنحهم ما منحوه من استحقاق في صياغة الوعي العربي المنشغل بالمعارك والانتصارات والهزائم.
كارثة الأمة العربية أنها ابتليت في راهنها بهزائم تتناقض مع ما صوره لها تاريخها وما رسمته لها سيرها الشعبية، لذلك كانت هزائمها العسكرية هزيمة للروح التي لم يترك لها تاريخها ما يمكن لها أن تنتصر فيه غير المعارك والحروب فحسب.
لكي يتضح ما نحاول أن نذهب إليه ينبغي علينا أن نقارن الحالة العربية بالحالة اليابانية أو الحالة الألمانية، لنرى كيف أن الشعبين الألماني والياباني لم يلبثا أن تجاوزا الهزائم المرة التي عانى منها البلدان في الحرب العالمية الثانية، وأدركوا أنه إذا كانت الهزيمة قد كتبت عليهم في المجال العسكري فإن مجالات الحياة أكثر اتساعا وشمولا، وبناء على هذا الوعي تمكن هذان الشعبان من تحقيق انتصارات اقتصادية وصناعية وعلمية جعلتهم في مقدمة الأمم على الرغم من أنه لم تمض سوى عقود قليلة على هزائمهم العسكرية الفادحة, بينما ظل العرب يتعثرون في أذيال الهزيمة ولا يخططون إلا لنصر عسكري مقبل, فإن عجزوا عن تحقيقه راحوا يحلمون به وإذا استعصى عليهم الحلم راحوا يجترون ذكرياته من انتصارات قديمة أكل الدهر وشرب عليها.
وِإذا لم يكن بإمكاننا أن نعيد هذا التصور العربي الضيق لمفهوم النصر والهزيمة لسبب محدد، فإنه ليس بإمكاننا أن نعفي الدرس التاريخي العربي من تكريس هذا المفهوم في الثقافة العربية التي لم تعن كتب الذين أرخوا لها بغير أخبار الفرسان والمعارك والانتصارات والهزائم سواء جاءت مدونات هذا التاريخ في هيئة ما عني المؤرخون بتدوينه أو ما اهتم رواة السير الشعبية بروايته، ففيها جميعا لا يبدو العربي إلا مهابا وفارسا ينتقل من نصر إلى نصر أو يمحو بنصر دائم هزيمة عابرة. ولا نكاد نجد في كتب التاريخ أو مرويات السير الشعبية ما يمكن أن يخرج عن هذه الدائرة التي لا يبين خلالها من ملامح المجتمع العربي غير كونه مجتمعا اسبرطيا يعيش على الحرب ويقتات بالانتصارات ظلت ملامح الإنسان فيه غائبة لا تكاد تبين إلا في تلك الكتب التي أرخت لوفيات الأعيان والمفكرين وكأنما كان الاحتفاء بهم احتفاء بموتهم.
وليس أدل على ما نذهب إليه من أن السيرة النبوية التي كان من المفترض أن تقدم لنا النموذج الأمثل للإنسان في ملامح شخصيته وطرق قيادته لمجتمعه قد تحولت من أن تكون سيرة لهذا الإنسان لتصبح سردا للمغازي والمعارك والسرايا وأسماء الشهداء من جبهة والقتلى من جبهة أخرى ولا تبدو فيها من ملامح هذا النبي العظيم غير ملامح قائد عسكري يوزع جماعته ميمنة وميسره ويقود جيشه من نصر إلى نصر.
وإذا تجاوزنا الكتب التي دونت السيرة النبوية إلى تلك التي احتفت بتاريخ الخلفاء الراشدين والدولتين الأموية والعباسية فإننا لن نحظى في هذه الكتب بغير أخبار المعارك والفتوحات وحجم الغنائم وعدد الشهداء وقصائد المدح التي تتغنى بأسماء الأبطال والفرسان الذين قادوا العرب إلى النصر المؤزر أو درأوا عنهم الهزيمة المنكرة، ولا يظهر من العرب في ذلك التاريخ غير جيوشهم الجرارة تهزم كسرى في القادسية والقيصر في اليرموك ثم تغزو بعد ذلك الأرض شرقا حتى تبلغ حدود الصين وتنداح غربا حتى تقف على بوابة باريس معلقة على جدران العالم أسماء قادتها وأبطالها وفرسانها وشهدائها باعتبارهم الوحيدين الذين تستحق كتب التاريخ أن تحتفي بهم وأن تقدمهم باعتبارهم النموذج الأمثل للشخصية العربية وما ينبغي أن تتصف به والدور المتوخى أن تنهض بواجبه.
ولم تقصر السيرة الشعبية حين أكملت ما بدأته كتب التاريخ فراحت تنتزع من بين طياته شخصيات تنفخ فيها حتى تبلغ بها غاية ما يمكن أن تكون عليه البطولة ثم تمضي بعد ذلك قدما مخترعة شخصيات لم تسمع بها آذان المؤرخين ومعارك لم تشدها أرض وظل البطل العربي فيها منتصرا شامخ الرأس سواء كان خصومه من القبائل المعادية أو الأمم المجاورة أو من طوائف الجان والعفاريت، وظل عنترة بن شداد العبسي والزير سالم وحمزة البهلوان وأبو زيد الهلالي الأبطال الذين يحفرون لهم في المخيال العربي مكانة لا يحققها عالم أو مفكر أو فيلسوف وظلت صناعة البطولة والأبطال فنا عربيا لا تكاد أمة من الأمم أن تنافسهم فيه أو تمنحهم ما منحوه من استحقاق في صياغة الوعي العربي المنشغل بالمعارك والانتصارات والهزائم.
كارثة الأمة العربية أنها ابتليت في راهنها بهزائم تتناقض مع ما صوره لها تاريخها وما رسمته لها سيرها الشعبية، لذلك كانت هزائمها العسكرية هزيمة للروح التي لم يترك لها تاريخها ما يمكن لها أن تنتصر فيه غير المعارك والحروب فحسب.