-A +A
حسين الحجاجي - جدة
أيام و ربما شهور وهم في ذلك المكان، غبار يمر لا يهم، تعب وانتظار لا يهم، في النهاية هو ظرف ملح، وواقع يلزمهم بالبقاء، ولو مكثوا هناك الساعات الطوال. إنهم باعة الطرقات السريعة، أناس لايعرف العابرون سوى أنهم باعة فقط، يساومونهم بالريال أو الريالين، لكن لا يعلم أحد منهم، ما الظروف التي رمت بهم إلى هناك، ولا الحال الذي يمرون به، بعضهم لا يحتمل الوقوف ولا الجلوس الطويل، ومع ذلك يصبر ويتحامل على نفسه، وبعضهم لديه من المشاريع المستقبلية ما لا تحتمله بضاعته، وبعضهم لارزق له سوى صندوق فاكهة أو جوالين مليئة بالزمزم، هذا نبض أحاول رصده من صدور أولئك الرجال على تلك الطرق الراكضة :

لا أحد يقدر ظروفي
العم مصلح فايز البشري - 44 عاما - بائع أواني الطين يقول :
هذه الأواني أشتريها من (الشميسي) حيث يقوم صانعها ببيعها لي بأقل من سعر التجزئة، ويتيح لي مكسبا لا يتجاوز الخمسة إلى العشرة ريالات وأحيانا كثيرة و يعلم الله أبيعها بخسارة، وخصوصا عندما يصبح جيبي خاويا فأضطر إلى بيعها من أجل أن أحصل على مبلغ أعود به إلى بيتي ومعي عشاء العيال.
ربما مرت أيام و أسابيع لايسألني أحد عن شيء، وهذا ما يؤلمني، وبالرغم أنني رجل كبير و أعاني من (البواسير) إلا أنني أضطرإلى الجلوس طويلا، وهذا ما يؤلمني أكثر، لكنني أتحامل من أجل تلك اللقمة.
قديما كنت أبيع الخضار في سوق الحلقة، لكن مع وجود تلك الأنظمة المعقدة والأجراءات الطويلة التي لا قبل لي بها، ومن كثرة مضايقة الوافدين رأيت أن أسلم الطرق هو الهروب من ذلك المكان، لكي أمتهن بيع القطع الطينية هذه في هذا المكان، ومع ذلك لا نسلم من المطاردة من حين لآخر فكثيرا ما يطلب منا الابتعاد عن هذا المكان، ولكن إلى أين لا أحد مع الأسف يقدر وضعي
في حين يجبر إبراهيم حمدان عديني – 19 عاما - على ترك مقاعد الدراسة كما يقول :
و الدي رجل كبير و لا عمل له لم تتح لي فرصة استكمال دراستي في (فرسان) فرأيت تركها من أجل مساعدة الوالد في أعباء البيت، ولهذا انسحبت أنا و أخي (حميد) وقررنا العمل على ظهر هذا "الونيت" الذي ترى حاله .
نستيقظ من الصباح الباكر، ونذهب سويا إلى حلقة الخضار لكي نشتري من الفاكهة ما نعتقد أنه يباع هنا في هذا المكان،
نبقى هنا من حين عودتنا من الحلقة في الصباح و لغاية العشاء، وغالبا ما نتعمد تصريف البضاعة ولو بالقيمة التي دفعناها في الشراء
فنحن لا نحبذ بقاء البضاعة لدينا أكثر من اليوم الذي اشتريناها فيه لكي نذهب من الغد للحلقة.
أغلب ما نشتريه هو الفاكهة لأنها تباع ويقبل عليها الناس، لكن أن كنت تسألني هل يمكن الخسارة في بضاعتنا فأقول لك نعم من الممكن أن نبيع بالخسارة.
أما الدراسة فلم يعد لدي وقت لها و لا أفكر فيها ما لم تتحسن الأحوال، ويصبح من الممكن أن أدرس في يوم ما عن طريق المنازل لكن في الوقت الحالي بالكاد الأمور تسير بالستر، فالوالد هناك في فرسان و أنا هنا أبعث له ما أستطيع في نهاية كل أسبوع أو أسبوعين والله المستعان.
ويتدخل أخوه ( حميد ) قائلا: يعلم الله لولا تلك الظروف القاهرة ما فكرت قط في ترك مقاعد الدراسة، والبقاء هنا كل هذا الوقت أنا و أخي المسألة متعبة جدا ولا يحتملها إلا من أجبر عليها، لكن هذا لا يمنع من البحث عن فرصة عمل تكون أفضل حالا من الوقوف هنا.


من الرياض إلى جدة بطائرة ورقية
ويتلخص مجهود الشاب عمر آل عمر – 29 عاما - في بضائع سريعة ينتقيها برؤيته حسب أهواء الزبائن قائلا :
ليس لي من بضاعة محددة، وكما تلاحظ الآن أنا أبيع الطائرات ( الورقية ) بسبب إحتفاء الناس باللعب بها نتيجة لهبوب الهواء، وهي هواية لدي الكبار مثلما هي لدي الصغار.
أقوم بشرائها من الرياض و أحضرها معي هنا إلى جدة، وأجلس لبيعها على الطريق السريع وأجدها فرصة لعرضها بهذه الصورة،
أما عن الربح فهو لا يتجاوز الخمسة إلى العشرة ريالات، ومع ذلك فيها البركة والخير الكثير وأنا بالمناسبـــة مــــتـــزوج و لـــدي ولـــد و بنت والحقيقة لا مهنة لي عدا التجول بين الحين و الآخر من أجل البحث عن الرزق في أي باب.
وهذه الطائرات الورقية لها سوق جيد، ولكن خلال هذا الوقت فأنا أشتريها بكميات كبيرة، وأقوم ببيعها بهذه الطريقة حيث تتوقف السيارات من أجل شرائها وإن كانت أيام الأربعاء والخميس و الجمعة تكون أكثر رواجا.

موز و جوز عماني
أما يونس محمد الصالحي ورفيقه هلال خلفان القريني، فهما قادمان من سلطنة عمان، وتعودا منذ ما يقارب الخمس سنوات على القدوم من عمان للبيع هنا في هذا المكان يقول يونس:
أبلغ من العمر (23 عاما) وقد تعودت منذ أكثر من خمس سنوات على البيع في هذا الموقع، ولمدة أربعة أشهر ثم نتحول إلى أبها وقت الصيف لأبيع كما ترى ( جوز الهند و الموز و البخور العماني و الحلوى العمانية المعروفة)، وقد كنت أعمل مع خالي إلا أنه ترك التجارة ولهذا تحولت للعمل مع صديق لي هو يحضر البرادات و السيارة وعلي الانتقال بها من مكان إلى آخر.
و جوز الهند بالذات يشهد إقبالا جيــدا ويحبذه الناس كثيرا، ونقوم بإحضاره من أسواق صلالة نشترية بالجملة، ونقوم ببيعه بالتجزئة وهنا يكون الربح، أما بالنسبة للموز فنحن نحضره من سوق السويق المشهور، وبالرغم أن صديقي هذا حريص على أن أعمل معه بالمناصفة إلا أنني فضلت المرتب على ذلك.
يقول رفيقه (هلال) الذي يبلغ من العمر ( 19 عاما ) :
في الأصل أنا طالب ثانوية والوقت الحالي لدينا إجازة سنوية أستغلها في العمل مع (يونس)، فهذه السيـــارة و البضــــاعة لأخـــي و أقوم بمساعدة يونس لأكتسب منه الخبرة، لكنني سوف لن أتمكن من مرافقته إلى أبها وأن كنت حريصا على مشاهدتها.

البحث عن العسل
ويظل يحيى علي أبو جبل – 30 عاما - يطوف أشهرا من أجل البحث عن بضاعة متميزة يستطيع أن يعرضها بقلب مطمئن ومرتاح، كما يقول: أعمل في بيع (العسل) منذ أن كان عمري ( 16 عاما ) وقد اكسبتني هذه التجربة الطويلة معرفة و خبرة ممتازة في معرفة العسل وأنواعه، ولهذا ابقى مدة لا تقل عن أربعة أشهر وأنا أتجول مابين محايل عسير و أبها من أجل شراء العسل من أناس أثق فيهم وأعرف أنهم يخافون الله تعالى، والحقيقة أنني لا أكذب عليك فهذه المهمة صعبة جدا و البحث عن العسل غير المغشوش مهمة مستحيلة تستقطع وقتا وجهدا لايتناسب مع مردوده المادي، ولهذا تجدني أحاول أن أعوض شيئا بشئ.
فلدي ماء زمزم الذي أقوم بإحضاره من مكة عن طريق صديق يخاف الله، ويستمر وجودي في طريق مكة - جدة السريع مدة قد تصل إلى خمسة أشهر ثم أتوجه إلى أبها نظرا لكثرة السياح هناك، وبالرغم من مضي سنوات طويلة علي في هذا العمل إلا أنني لم أتمكن حتى هذه اللحظة من تحقيق حلمي في بناء بيت لي ثم الدخول في مشروع الزواج، ففي كل عام أقول لنفسي سوف أتزوج في هذه السنة، لكن لا يجتمع في يدي ما يمكنني من ذلك، وهكذا الحال فأنا أقول سوف لن يمضي العام إلا و أكون متزوجا بإذن الله تعالى.
المشكلة في الظروف الحالية والظروف الطارئة التي تحول بيني وبين تجميع المهر وتكاليف الزواج ولا أخفيك إذا قلت لك إنني أبلغ الثلاثين ومع ذلك يتعذر علي الزواج والسبب كما ذكرته لك من قبل لكن أدعو الله أن أوفق هذا العام.

إحباط المشاريع الشبابية
عبد العزيز حسان القوزي - 33 عاما - شاب هو الآخر توجه للعمل (الحر) لأنه لا يميل إلى الوظيفة حيث يقول :
أنا خريج جامعي، وقد وجدت وظيفة جيدة لكنني من باب: (رحم الله من عرف قدر نفسه) لا أحب أبدا التقيد بدوام الوظيفة ولا أحب أن يتحكم بي أحد ولا أستطيع تحمل الأمر والنهي .. هذه طبيعتي أحب أن أعيش يومي وحياتي بطريقتي التي أراها و أخطط لها .
و بالرغم أنني أعيش ظروفا صعبة للغاية إلا أنني فضلت الاستمرار في بيع هذه القطع المنزلية، وشرائها من المصانع أو من بائع الجملة
ومتي ما بعت شيئا منها أرسله إلى الوالدة في القنفذة إلا القليل الذي أستعين به في إيجار الغرفة التي أعيش بها، وما يمكنني من تجديد البضاعة بين الحين والآخر، وأفكر في تكوين رأسمال أفتح به محلا خاصا بي، لكن مع الأسف و قد لاحظت من محاولتي الأولى أن الشاب عندما يحاول فتح مشروع تجاري صغير توضع أمامه العراقيل التي تحبطه فإجراءات البلدية وحدها كفيلة بإسقاط أي مشروع تجاري في ذهن أي شاب في حين تكون الأمور متيسرة و سلسلة فيما لو كان صاحب المشروع من العمالة الوافدة !.
أقول هذا من تجربة خضتها العام الماضي عندما تقدمت بطلبي فوجدت من الإجراءات ما يشيب له الرأس: أوراق و سجلات و تكاليف تحبط أي طموح حيث يتطلب الأمر (واسطة) تبسط تلك التعقيدات ففضلت التوقف ريثما أجد من يعينني عليها.