يتكرر التعاطي مع «نقد الخطاب الديني» في أطروحات الفكر الحداثي، وهذا التكرار إنما يعبر عن رؤى كلية متشابهة وإن اختلفت تفاصيلها، وربما كان هذا التشابه، بسبب المرجعية الفكرية التي ينهل منها هذا الخطاب، وفي هذا السياق تأتي قراءة الأستاذ سعيد السريحي للخطاب الديني، والتي بدا فيه ناقما وبشدة على هذا الخطاب، مما أفقده كثيرا من التوازن أثناء معالجة مثل هذا الموضوع، وهو ما جره إلى مجموعة من الإشكالات العلمية والمنهجية، بداية من إشكالية عدم التجانس بين عنوان المقال وبين مضمونه، فالعنوان يتحدث عن (الخطاب)، والمضمون يتحدث في مجمله عن (أصحاب الخطاب) والتداخل بين الخطاب وأصحابه لا يبرر علميا عدم الفصل بينهما أثناء البحث والمعالجة، لأن الحديث عن الخطاب يعني: النفاذ إلى مناقشة الأسس المنهجية التي يبني عليها أصحاب هذا الخطاب مواقفه، أي أن الحديث عن (الخطاب) سيجبر صاحبه إلى دخول دائرة البحث العلمي في عدة قضايا أهمها: بيان الأسس المنهجية التي يبني عليها الخطاب مقولاته. وذكر الأدلة العلمية - لا الذاتية - لنقد هذه الأسس، ثم يقيم البديل المناسب عن هذا الخطاب، وهو ما لم يتعرض له مقال الكاتب، وأما الحديث عن (أصحاب الخطاب) فقد لا يشكل عند كاتبه شيئا من العناء، لأنه يمكنه التحدث عنه بلغة لا تتطلب قدرا كبيرا من البحث، بل أقصى ما يمكن: أنها تدخل في دائرة (الجدل الصحفي)؛ الخيار الذي يخدم الصحافة، لكنه لا يخدم الوسط العلمي.
إقصائية الخطاب
وحديث الأستاذ عن (الخطاب الديني) حديث يأخذ صفة العموم، وكنت أحسبه يتحدث عن فئة معينة من أصحاب هذا الخطاب، فإذا به في منتصف مقاله يهاجم حتى أصحاب التجديد فيه، لنجده في نهاية مقاله ينقل المشكلة إلى أكثر (ما يزيد على القرن) !!!.
إن إشكالية النقد الحداثي - في كثير من خطاباته - أنه لم يستوعب أن كثيرا من النقائص التي يصف بها أصحاب الخطاب الديني: قد مارسها بقدر عالٍ من الوضوح عندما ينقد الخطاب الديني، فتجده يتحدث عن إقصائية الخطاب الديني، لكنه يمارسها في الوقت ذاته مع هذا الخطاب، فهو يقصيه عندما يتهمه بعدم نزاهة مقاصده وأن الأطروحة التي يقدمونها من أجل: (أن يحقق لهم وصولهم إلى السلطة).
وأتذكر - هنا - أحد كتاب الحداثة، وهو يذكر من بين أهم منجزات هذا الفكر أنه: (أظهر لنا وعيا حقيقيا بما تقتضيه منهجية التفكير الحديث من احترام للفكر المخالف مهما تعمقت هوة الخلاف وتعارضت الرؤى والمواقف).
لكن هذا الاحترام يزول تماما في حالة واحدة، وهي عندما يتحدث عن الخطاب الديني ليعتبرهم نفس هذا الكاتب: (فقدوا كل مصداقية في فهم الحياة الراهنة).
ويتحدث هذا الفكر عن فكرة المؤامرة في (الخطاب الديني) ويبيح لنفسه ممارستها باتهامهم أن ما يقدمه هذا الخطاب: (ليس سوى محاولة للاحتفاظ، لا بمكانة الدين في المجتمع، وإنما بمكانة السلطة..). فالخطاب الديني، إنما يتحرك من أجل مطامع سياسية.
ويتحدث - كذلك - عن ثقافة التسامح، لكنه لا يبدي أي تسامح مع هذا الخطاب، بل يتحدث عنه بطريقة تعبوية، فهو الذي أنتج - كما يقول الأستاذ: (عصر يسود فيه التطرف والغلو وتنتشر فيه جماعات التكفير والتفجير...)، ويتناسى كل المحاولات التي قامت بها أطياف كثيرة من أصحاب الخطاب الديني، بالوقوف أمام هذا التطرف والتفجير.
ويتحدث عن الوثوقية في الخطاب الديني، وهو يمارس نفس هذه الوثوقية أثناء نقده كما في مقال الكاتب، وهذا يبين أن كل صاحب فكر يستحيل أن يقدم فكره بدون أن يكون واثقا به مقدما له على غيره، كما يقول أحد كتابها عن هذا الفكر : (إنه يبدو واثقا من الأرضية التي يقف عليها ويتحمل مسؤولية الأخطار الابستمولوجية والاجتماعية التي يمكن أن تنجر عن خطابه...)، وهذه الملاحظة ليست من اختصاص الخطاب الديني فحسب، بل حتى من بعض من لا ينتسب لهذا الخطاب، يقول فهمي جدعان، وهو يتحدث عن الخطاب الليبرالي: (هذا النموذج هو أيضا نموذج أحادي يعتقد أصحابه أنه النموذج الأمثل، بل النموذج الأوحد الذي يتعين الأخذ به، وأن أي بديل آخر لهذا النموذج غير ممكن وغير مقبول)، وهي التي يسميها البازعي (الخطابية الواثقة).
ويتحدث - كذلك - عن (أدلجة) هذا الخطاب الديني، وهو يمارسها من خلال استبداله بـأيديولوجية - أخرى - وهي الحداثة، ولهذا يختصر حنفي كل هذا الكلام فيقول بوضوح: (كل فلسفة هي بطريقة ما أيديولوجيا).
بل حتى مشكلة الفهم والاستيعاب التي ما يلبث الخطاب الحداثي في اتهام الخطاب الديني بها، هي بذاتها واقعة في خطابه حتى في نظر كبار مفكري الحداثة العربية، يقول الجابري عن سوء ترجمة المسوقين للفكر الغربي: (أنا شخصيا عندما أقرأ كتابا ترجم في هذا العصر إلى العربية في موضوع فلسفي لا أفهمه ...).
وأحد أهم أسباب سوء الترجمة، ضعف الفهم والاستيعاب، أختم هذه الفكرة بتوصيف جميل لواحد من رواد الحداثة، وهو علي حرب، حين يصف فكر محمد أركون: (يحدثنا عن أشياء ليغيب أشياء، يعدنا بالتحرر من سواه من النصوص، فيما هو يقيم سلطته ويحجب أثره، يزعزع الثقة بمرجعيات قائمة لكي يؤسس مرجعيته، يريد العودة إلى الأصل الأول، فيما هو ينسخ الأصل نفسه، يدعوك إلى ممارسة حريتك في التفكير وحقك في النقد، فيما هو يمارس وصايته على الحقيقة والحرية.
الإفراز الفكري الخاص
وأنتقل إلى مناقشة بعض الحقائق التي تخالف الواقع، مما تضمنه مقال الكاتب، كتلك التي يصف فيها الخطاب الديني بالوقوف أمام المنجزات الإنسانية، وأنه - كما يقول: (غير آبه بما بذلته البشرية من جهد في تقصي أسباب مشاكلها وما رسمته من حلول...)، (عالم أصبح فيه المنجز الإنساني ملكا مشاعا للبشرية جمعاء)، فهل صحيح أن هذا الخطاب لم يأبه بما بذلته البشرية من جهد إنساني؟
بطبيعية الحال ليس الأمر كذلك، شريطة أن تكون هذه المنجزات (ملكا مشاعا للبشرية جمعاء) أي بعبارة أخرى: عندما ينفصل هذا المنجز عن (التحيزات)، كما يعبر المسيري وغيره.
أما عندما لا يملك هذه الملكية المشاعة، فلكل أمة خصوصيتها، وهي خصوصية تؤمن بها أطياف أخرى ليست محسوبة على الخطاب الديني، كما يقول حسن حنفي: (كل حضارة خاصة، ولا توجد حضارة عامة تمثل الحضارات جميعا...). والمشكلة مع الخطاب الحداثي أنه أدخل في المنجز البشري المشاع هو من عمق (الإفراز الفكري الخاص)، الذي لا يأخذ صفة الكونية حتى عند منتجي هذا الفكر، بل لقد وصل الأمر ببعض أصحاب هذا الفكر مثل - نصر أبو زيد - إلى أن يقترح استبدال كلمة (الحضارة الغربية) بكلمة (الحضارة الحديثة)، لأنها نتاج بشري متراكم متجردة من جميع التحيزات!!!.
يقول الناقد الأمريكي ج هلس ملر في نقد هذه الفكرة: (على الرغم من أن النظرية قد تبدو موضوعية وعالمية مثل أي اختراع تقني، فإنها في حقيقة الأمر تنمو في مكان وزمان وثقافة ولغة محددة، وتبقى مربوطة إلى ذلك المكان واللغة). والأمر كذلك عند بولين يو أستاذة الأدب الصيني في جامعة كولومبيا الأمريكية، وعند إليا بريغوجين عالم الكيمياء الروسي الفائز بجائزة نوبل وغيرهم، هذه مقولات أصحاب الفكر نفسه، فهل أصبح الحديث عن ذلك من إفرازات الخطاب الديني وحده؟
ولما استورد كثير من أصحاب هذا الفكر الحداثي هذه المناهج الفكرية من الغرب ليطبقها على التراث الإسلامي، ووجد أمامه ممانعة قوية لاستيراد هذه المناهج أضفى عليها صفة الكونية، وهذه الحالة من «الاقتراض الشديد» - كما يسميها إحسان عباس - أدت إلى اختلال منهجي في هذا الفكر، يحكي ذلك حسن حنفي عن تجربته وتجربة جيله فيقول: (أما جيلنا الخامس، فقد ترجمنا فلسفة الأنوار بلا هدف واضح مجرد نقل لتراث الغير وبلا إعادة، بناء على موروثنا القديم). ويقول: (ولما كانت نظريات المعرفة في الغرب متجددة... ظل الفكر العربي لاهثا وراء هذا الإيقاع السريع، فلا هو أصل معرفته ولا هو أدرك واقعه... كل منهم ينهل من مصدر غربي، يظهر مهارته في حداثة الاطلاع، وجدة المصطلحات، وأسماء المذاهب والأعلام...).
هذا الكلام مزعج عندما يقوله الخطاب الديني، وهو أشد إزعاجا عندما يصدر ممن لا ينتسب إليه، بل يقف في مقابلته، ولذلك لا يخفي الجابري دهشته وهو يقرأ مثل هذا الكلام من حنفي فيقول - معلقا عليه -: (وأنا أفهم مثل هذه التصريحات عندما تصدر عن أولئك العلماء التقليديين الذين درجنا على تسميتهم بالسلفيين... ولكن الذي يصعب تفهمه، هو أن تصدر مثل تلك التصريحات عن كتاب ومؤلفين درسوا في الغرب وبضاعتهم من اللغات الغربية والثقافة الغربية ذات اعتبار.
إن المشكلة ليست مشكلة سلفيين أو غيرهم - كما يصورها الجابري وغيره - إنها في حقيقة الأمر: مشكلة الحقيقة والواقع التي يحاول كثير من أصحاب هذا الفكر غض الطرف عنها، هذه الحقيقة، هي التي جعلت الجابري في يوم (ما) يعود مرة أخرى ليبين جانبا آخر من جوانب (ظاهرة الاستهلاك الفكري) عندما يقول: (فعلا، يطغى على تعاملنا مع الفكر الغربي هذا النوع من ممارسة المنهج المطبق بهذا الشكل... نستورد الفكر بكل مضمراته الأيديولوجية، وبكل أسسه المادية، وحتى بعض تطلعاته... إننا نستهلك فقط.
إن هذه الحالة من التبعية الفكرية للمناهج الغربية جعلت الجابري يقول - بنوع من الأسف - وبكل صراحة ووضوح: (لم يعد الأوروبيون اليوم في حاجة إلى مستشرقين من بني جلدتهم ينقلون إليهم خبر الشرق، فهناك من أبناء الشرق نفسه من يقومون بـ «المهمة» سواء داخل «مراكز بحث» في أوروبا وأمريكا أو داخل «مراكز الدراسات» في كثير من العواصم العربية. وهذا يكفي!!).
تحنيط الدين
وأختم بالتعليق على نظرة الكاتب في قوله: ( بين الدين والخطاب الديني مسافة تجعلهما غير قابلين للتداخل أو الالتباس، ذلك أنها مسافة ما بين الإلهي والبشري، مسافة ما بين ما هو مقدس، وما لا ينبغي أن نحيطه بهالة من القداسة).
هذا الحديث حول الفصل التام بين الدين والخطاب الديني، يقود في نهاية الأمر إلى ما يمكن أن نسميه (تحنيط الدين)، بمعنى عدم فاعلية الدين في المجتمع، ومن أجل ذلك يفسر الكاتب جوهر الدين بقوله: ( ونعني بجوهر الدين طبيعته العقدية الصافية التي تتمثل في التجربة الروحية وصلة العبد بربه )، وهو تفسير ينحو المنحى الصوفي في التعامل مع الدين، وحتى لا تواجه هذه الدعوة بشيء من ردة الفعل يقدم الكاتب التبرير المتكرر: حتى لا يتم (تعريض جوهر الدين النقي للتلوث بمشاغل العصر وشؤونه...).
وهذه النظرة للدين مخالفة للواقع العملي حتى عند الفكر الحداثي نفسه، لأنه عندما يريد أن يوظف النص الديني في بعض شؤونه بدون استثناء، فإنه لا يتأخر عن ذلك، وهو بذلك يقع في نفس المشكلة - التي يهرب منها - وهي تلويث جوهر الدين النقي بمشاغل العصر.
وهذه الأطروحة هي دعوة إلى (علمنة الدين )، فالدين في جوهره: العلاقة الروحية التي ترتبط بصلة العبد بربه، والخروج بالدين عن ذلك، هو خروج أيديولوجي عند هذا الفكر.
وما أحب التعليق عليه، هو أن هذا الفصل الذي يتكرر في الطرح الحداثي بين النص وفهم النص أن النص هو المقدس، وأما فهمه فلا ينبغي أن يعطى بهالة من القداسة، هو طرح يحاول اختزال صورة القضية من خلال ثنائيات غير صحيحة، والإشكاليات العلمية التي تقف أمام هذا الطرح كثيرة، غير أن واحدا من أهمها: أنه لا يفرق في أطروحته بين منهج الفهم، وبين تطبيق هذا المنهج.
ويصور للقارئ أن الخطاب الديني يجمع بينهما، بينما الأمر ليس كذلك، فمنهج الفهم لا شك عند أصحاب الخطاب الديني أنه مقدس، وسبب تقديسه، لأنه يقوم على أسس علمية موضوعية، وحتى الفكر الحداثي عندما يطرح بديله المنهجي مهما كان هذا البديل، فإنه سيقع من حيث يشعر أو لا يشعر في دائرة التقديس، لكن القضية فقط تحتاج إلى وضوح في الرؤية وصراحة في الموقف، وفرق بين أن نقول بقداسة المنهج، وبين أن نقول بقداسة تطبيق المجتهدين له، لأن تطبيقهم جهد بشري يدخله الخطأ والصواب، ومن أجل ذلك أصل الخطاب الديني لفكرة محاربة التقليد، والتي تعني عدم قداسة المجتهدين، مؤكدة أهمية الرجوع إلى قداسة المنهج، وهذه أبجديات الخطاب الديني لا تفتأ أن تنقل للدارسين مقولة عن أبي حنيفة يقول فيها: (فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا)، هذا من جهة التطبيق.
وأما من جهة المنهج فيقول لهم أيضا: (إذا صح الحديث فهو مذهبي)، وينقل لهم قول مالك: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه)، فأنظر أين جعل القداسة، وأين جعل الخطأ ؟ وينقل لهم كذلك قول الشافعي: (كل ما قلت؛ فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح، فحديث النبي أولى، فلا تقلدوني).
ويختم لهم بقول أحمد بن حنبل: (لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا). كلهم إذن يرجعون إلى منهج واحد، وكلهم كذلك يقرون بإمكان وقوع الخطأ في تطبيقهم، فتطبيقهم لا يحمل معنى القداسة. فمرجع القضية إذن إلى صحة المنهج، وإن أي بديل منهجي يطرحه الأستاذ أو غيره سوى هذا المنهج سيحمل معه فكرة القداسة. ثمة سؤال يردده الفكر الحداثي - بعد ذلك - حول المنهج الذي يقدمه الخطاب الديني: بأي فهم يمكن أن نفهم الكتاب والسنة في حالة التسليم بهما؟ وهو سؤال يتطلب قدرا أوسع من هذا التعقيب، ولما انحصر الجواب في ذهن أصحاب هذا التساؤل بين القول: بفهمنا نحن: الخطاب الديني، وبين عدم تحديد صاحب الفهم؟ كان البديل المنهجي الذي يطرحه كثير من أصحاب هذا الفكر، هو الخروج من أسوار هذا المنهج إلى بديل آخر يقوم على فكرة (تعدد القراءة)، وهو بديل منهجي قام على أساس الفلسفة (الهرمنيوطيقية) التي نشأت لإشكاليات معروفة في الفكر الغربي، وستنتهي في نهاية المطاف إلى فوضى النسبية، كما يقول أتباعها: (إن الحداثة تؤدي حتما إلى النسبية الشاملة في مجالات العلوم والفنون والفلسفة والأخلاق، وحتى في مجال العقيدة).
وبهذه النسبية يحقق الجابري واحدا من أهم أهداف مشروعه وهو: (تحويل العقيدة إلى مجرد رأي). ويصلوا في النهاية إلى صياغة (إسلام متحرك ومربك يحمل قارئه قسراً على مغادرة اطمئنانه ويقينه) كما تقول - عن نفسها - المدرسة التونسية التي يشرف عليها عبد المجيد الشرفي. هذه هي الحقيقة النهائية التي تنتهي إليها الأطروحة الحداثية: (مغادرة اليقين) إلى كل من يبحث عنه، وعندما يغادر اليقين، فلن يختار هذا الشباب الضائع ثقافة (التفجير) الآثمة، بل سيتجه نحو ثقافة (الانتحار) اليائسة، وهما طريقان كلاهما يؤدي إلى نفس النتيجة، وهي: إزهاق الأرواح البريئة.
*أكاديمي في جامعة الملك عبد العزيز بجدة
إقصائية الخطاب
وحديث الأستاذ عن (الخطاب الديني) حديث يأخذ صفة العموم، وكنت أحسبه يتحدث عن فئة معينة من أصحاب هذا الخطاب، فإذا به في منتصف مقاله يهاجم حتى أصحاب التجديد فيه، لنجده في نهاية مقاله ينقل المشكلة إلى أكثر (ما يزيد على القرن) !!!.
إن إشكالية النقد الحداثي - في كثير من خطاباته - أنه لم يستوعب أن كثيرا من النقائص التي يصف بها أصحاب الخطاب الديني: قد مارسها بقدر عالٍ من الوضوح عندما ينقد الخطاب الديني، فتجده يتحدث عن إقصائية الخطاب الديني، لكنه يمارسها في الوقت ذاته مع هذا الخطاب، فهو يقصيه عندما يتهمه بعدم نزاهة مقاصده وأن الأطروحة التي يقدمونها من أجل: (أن يحقق لهم وصولهم إلى السلطة).
وأتذكر - هنا - أحد كتاب الحداثة، وهو يذكر من بين أهم منجزات هذا الفكر أنه: (أظهر لنا وعيا حقيقيا بما تقتضيه منهجية التفكير الحديث من احترام للفكر المخالف مهما تعمقت هوة الخلاف وتعارضت الرؤى والمواقف).
لكن هذا الاحترام يزول تماما في حالة واحدة، وهي عندما يتحدث عن الخطاب الديني ليعتبرهم نفس هذا الكاتب: (فقدوا كل مصداقية في فهم الحياة الراهنة).
ويتحدث هذا الفكر عن فكرة المؤامرة في (الخطاب الديني) ويبيح لنفسه ممارستها باتهامهم أن ما يقدمه هذا الخطاب: (ليس سوى محاولة للاحتفاظ، لا بمكانة الدين في المجتمع، وإنما بمكانة السلطة..). فالخطاب الديني، إنما يتحرك من أجل مطامع سياسية.
ويتحدث - كذلك - عن ثقافة التسامح، لكنه لا يبدي أي تسامح مع هذا الخطاب، بل يتحدث عنه بطريقة تعبوية، فهو الذي أنتج - كما يقول الأستاذ: (عصر يسود فيه التطرف والغلو وتنتشر فيه جماعات التكفير والتفجير...)، ويتناسى كل المحاولات التي قامت بها أطياف كثيرة من أصحاب الخطاب الديني، بالوقوف أمام هذا التطرف والتفجير.
ويتحدث عن الوثوقية في الخطاب الديني، وهو يمارس نفس هذه الوثوقية أثناء نقده كما في مقال الكاتب، وهذا يبين أن كل صاحب فكر يستحيل أن يقدم فكره بدون أن يكون واثقا به مقدما له على غيره، كما يقول أحد كتابها عن هذا الفكر : (إنه يبدو واثقا من الأرضية التي يقف عليها ويتحمل مسؤولية الأخطار الابستمولوجية والاجتماعية التي يمكن أن تنجر عن خطابه...)، وهذه الملاحظة ليست من اختصاص الخطاب الديني فحسب، بل حتى من بعض من لا ينتسب لهذا الخطاب، يقول فهمي جدعان، وهو يتحدث عن الخطاب الليبرالي: (هذا النموذج هو أيضا نموذج أحادي يعتقد أصحابه أنه النموذج الأمثل، بل النموذج الأوحد الذي يتعين الأخذ به، وأن أي بديل آخر لهذا النموذج غير ممكن وغير مقبول)، وهي التي يسميها البازعي (الخطابية الواثقة).
ويتحدث - كذلك - عن (أدلجة) هذا الخطاب الديني، وهو يمارسها من خلال استبداله بـأيديولوجية - أخرى - وهي الحداثة، ولهذا يختصر حنفي كل هذا الكلام فيقول بوضوح: (كل فلسفة هي بطريقة ما أيديولوجيا).
بل حتى مشكلة الفهم والاستيعاب التي ما يلبث الخطاب الحداثي في اتهام الخطاب الديني بها، هي بذاتها واقعة في خطابه حتى في نظر كبار مفكري الحداثة العربية، يقول الجابري عن سوء ترجمة المسوقين للفكر الغربي: (أنا شخصيا عندما أقرأ كتابا ترجم في هذا العصر إلى العربية في موضوع فلسفي لا أفهمه ...).
وأحد أهم أسباب سوء الترجمة، ضعف الفهم والاستيعاب، أختم هذه الفكرة بتوصيف جميل لواحد من رواد الحداثة، وهو علي حرب، حين يصف فكر محمد أركون: (يحدثنا عن أشياء ليغيب أشياء، يعدنا بالتحرر من سواه من النصوص، فيما هو يقيم سلطته ويحجب أثره، يزعزع الثقة بمرجعيات قائمة لكي يؤسس مرجعيته، يريد العودة إلى الأصل الأول، فيما هو ينسخ الأصل نفسه، يدعوك إلى ممارسة حريتك في التفكير وحقك في النقد، فيما هو يمارس وصايته على الحقيقة والحرية.
الإفراز الفكري الخاص
وأنتقل إلى مناقشة بعض الحقائق التي تخالف الواقع، مما تضمنه مقال الكاتب، كتلك التي يصف فيها الخطاب الديني بالوقوف أمام المنجزات الإنسانية، وأنه - كما يقول: (غير آبه بما بذلته البشرية من جهد في تقصي أسباب مشاكلها وما رسمته من حلول...)، (عالم أصبح فيه المنجز الإنساني ملكا مشاعا للبشرية جمعاء)، فهل صحيح أن هذا الخطاب لم يأبه بما بذلته البشرية من جهد إنساني؟
بطبيعية الحال ليس الأمر كذلك، شريطة أن تكون هذه المنجزات (ملكا مشاعا للبشرية جمعاء) أي بعبارة أخرى: عندما ينفصل هذا المنجز عن (التحيزات)، كما يعبر المسيري وغيره.
أما عندما لا يملك هذه الملكية المشاعة، فلكل أمة خصوصيتها، وهي خصوصية تؤمن بها أطياف أخرى ليست محسوبة على الخطاب الديني، كما يقول حسن حنفي: (كل حضارة خاصة، ولا توجد حضارة عامة تمثل الحضارات جميعا...). والمشكلة مع الخطاب الحداثي أنه أدخل في المنجز البشري المشاع هو من عمق (الإفراز الفكري الخاص)، الذي لا يأخذ صفة الكونية حتى عند منتجي هذا الفكر، بل لقد وصل الأمر ببعض أصحاب هذا الفكر مثل - نصر أبو زيد - إلى أن يقترح استبدال كلمة (الحضارة الغربية) بكلمة (الحضارة الحديثة)، لأنها نتاج بشري متراكم متجردة من جميع التحيزات!!!.
يقول الناقد الأمريكي ج هلس ملر في نقد هذه الفكرة: (على الرغم من أن النظرية قد تبدو موضوعية وعالمية مثل أي اختراع تقني، فإنها في حقيقة الأمر تنمو في مكان وزمان وثقافة ولغة محددة، وتبقى مربوطة إلى ذلك المكان واللغة). والأمر كذلك عند بولين يو أستاذة الأدب الصيني في جامعة كولومبيا الأمريكية، وعند إليا بريغوجين عالم الكيمياء الروسي الفائز بجائزة نوبل وغيرهم، هذه مقولات أصحاب الفكر نفسه، فهل أصبح الحديث عن ذلك من إفرازات الخطاب الديني وحده؟
ولما استورد كثير من أصحاب هذا الفكر الحداثي هذه المناهج الفكرية من الغرب ليطبقها على التراث الإسلامي، ووجد أمامه ممانعة قوية لاستيراد هذه المناهج أضفى عليها صفة الكونية، وهذه الحالة من «الاقتراض الشديد» - كما يسميها إحسان عباس - أدت إلى اختلال منهجي في هذا الفكر، يحكي ذلك حسن حنفي عن تجربته وتجربة جيله فيقول: (أما جيلنا الخامس، فقد ترجمنا فلسفة الأنوار بلا هدف واضح مجرد نقل لتراث الغير وبلا إعادة، بناء على موروثنا القديم). ويقول: (ولما كانت نظريات المعرفة في الغرب متجددة... ظل الفكر العربي لاهثا وراء هذا الإيقاع السريع، فلا هو أصل معرفته ولا هو أدرك واقعه... كل منهم ينهل من مصدر غربي، يظهر مهارته في حداثة الاطلاع، وجدة المصطلحات، وأسماء المذاهب والأعلام...).
هذا الكلام مزعج عندما يقوله الخطاب الديني، وهو أشد إزعاجا عندما يصدر ممن لا ينتسب إليه، بل يقف في مقابلته، ولذلك لا يخفي الجابري دهشته وهو يقرأ مثل هذا الكلام من حنفي فيقول - معلقا عليه -: (وأنا أفهم مثل هذه التصريحات عندما تصدر عن أولئك العلماء التقليديين الذين درجنا على تسميتهم بالسلفيين... ولكن الذي يصعب تفهمه، هو أن تصدر مثل تلك التصريحات عن كتاب ومؤلفين درسوا في الغرب وبضاعتهم من اللغات الغربية والثقافة الغربية ذات اعتبار.
إن المشكلة ليست مشكلة سلفيين أو غيرهم - كما يصورها الجابري وغيره - إنها في حقيقة الأمر: مشكلة الحقيقة والواقع التي يحاول كثير من أصحاب هذا الفكر غض الطرف عنها، هذه الحقيقة، هي التي جعلت الجابري في يوم (ما) يعود مرة أخرى ليبين جانبا آخر من جوانب (ظاهرة الاستهلاك الفكري) عندما يقول: (فعلا، يطغى على تعاملنا مع الفكر الغربي هذا النوع من ممارسة المنهج المطبق بهذا الشكل... نستورد الفكر بكل مضمراته الأيديولوجية، وبكل أسسه المادية، وحتى بعض تطلعاته... إننا نستهلك فقط.
إن هذه الحالة من التبعية الفكرية للمناهج الغربية جعلت الجابري يقول - بنوع من الأسف - وبكل صراحة ووضوح: (لم يعد الأوروبيون اليوم في حاجة إلى مستشرقين من بني جلدتهم ينقلون إليهم خبر الشرق، فهناك من أبناء الشرق نفسه من يقومون بـ «المهمة» سواء داخل «مراكز بحث» في أوروبا وأمريكا أو داخل «مراكز الدراسات» في كثير من العواصم العربية. وهذا يكفي!!).
تحنيط الدين
وأختم بالتعليق على نظرة الكاتب في قوله: ( بين الدين والخطاب الديني مسافة تجعلهما غير قابلين للتداخل أو الالتباس، ذلك أنها مسافة ما بين الإلهي والبشري، مسافة ما بين ما هو مقدس، وما لا ينبغي أن نحيطه بهالة من القداسة).
هذا الحديث حول الفصل التام بين الدين والخطاب الديني، يقود في نهاية الأمر إلى ما يمكن أن نسميه (تحنيط الدين)، بمعنى عدم فاعلية الدين في المجتمع، ومن أجل ذلك يفسر الكاتب جوهر الدين بقوله: ( ونعني بجوهر الدين طبيعته العقدية الصافية التي تتمثل في التجربة الروحية وصلة العبد بربه )، وهو تفسير ينحو المنحى الصوفي في التعامل مع الدين، وحتى لا تواجه هذه الدعوة بشيء من ردة الفعل يقدم الكاتب التبرير المتكرر: حتى لا يتم (تعريض جوهر الدين النقي للتلوث بمشاغل العصر وشؤونه...).
وهذه النظرة للدين مخالفة للواقع العملي حتى عند الفكر الحداثي نفسه، لأنه عندما يريد أن يوظف النص الديني في بعض شؤونه بدون استثناء، فإنه لا يتأخر عن ذلك، وهو بذلك يقع في نفس المشكلة - التي يهرب منها - وهي تلويث جوهر الدين النقي بمشاغل العصر.
وهذه الأطروحة هي دعوة إلى (علمنة الدين )، فالدين في جوهره: العلاقة الروحية التي ترتبط بصلة العبد بربه، والخروج بالدين عن ذلك، هو خروج أيديولوجي عند هذا الفكر.
وما أحب التعليق عليه، هو أن هذا الفصل الذي يتكرر في الطرح الحداثي بين النص وفهم النص أن النص هو المقدس، وأما فهمه فلا ينبغي أن يعطى بهالة من القداسة، هو طرح يحاول اختزال صورة القضية من خلال ثنائيات غير صحيحة، والإشكاليات العلمية التي تقف أمام هذا الطرح كثيرة، غير أن واحدا من أهمها: أنه لا يفرق في أطروحته بين منهج الفهم، وبين تطبيق هذا المنهج.
ويصور للقارئ أن الخطاب الديني يجمع بينهما، بينما الأمر ليس كذلك، فمنهج الفهم لا شك عند أصحاب الخطاب الديني أنه مقدس، وسبب تقديسه، لأنه يقوم على أسس علمية موضوعية، وحتى الفكر الحداثي عندما يطرح بديله المنهجي مهما كان هذا البديل، فإنه سيقع من حيث يشعر أو لا يشعر في دائرة التقديس، لكن القضية فقط تحتاج إلى وضوح في الرؤية وصراحة في الموقف، وفرق بين أن نقول بقداسة المنهج، وبين أن نقول بقداسة تطبيق المجتهدين له، لأن تطبيقهم جهد بشري يدخله الخطأ والصواب، ومن أجل ذلك أصل الخطاب الديني لفكرة محاربة التقليد، والتي تعني عدم قداسة المجتهدين، مؤكدة أهمية الرجوع إلى قداسة المنهج، وهذه أبجديات الخطاب الديني لا تفتأ أن تنقل للدارسين مقولة عن أبي حنيفة يقول فيها: (فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا)، هذا من جهة التطبيق.
وأما من جهة المنهج فيقول لهم أيضا: (إذا صح الحديث فهو مذهبي)، وينقل لهم قول مالك: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه)، فأنظر أين جعل القداسة، وأين جعل الخطأ ؟ وينقل لهم كذلك قول الشافعي: (كل ما قلت؛ فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح، فحديث النبي أولى، فلا تقلدوني).
ويختم لهم بقول أحمد بن حنبل: (لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا). كلهم إذن يرجعون إلى منهج واحد، وكلهم كذلك يقرون بإمكان وقوع الخطأ في تطبيقهم، فتطبيقهم لا يحمل معنى القداسة. فمرجع القضية إذن إلى صحة المنهج، وإن أي بديل منهجي يطرحه الأستاذ أو غيره سوى هذا المنهج سيحمل معه فكرة القداسة. ثمة سؤال يردده الفكر الحداثي - بعد ذلك - حول المنهج الذي يقدمه الخطاب الديني: بأي فهم يمكن أن نفهم الكتاب والسنة في حالة التسليم بهما؟ وهو سؤال يتطلب قدرا أوسع من هذا التعقيب، ولما انحصر الجواب في ذهن أصحاب هذا التساؤل بين القول: بفهمنا نحن: الخطاب الديني، وبين عدم تحديد صاحب الفهم؟ كان البديل المنهجي الذي يطرحه كثير من أصحاب هذا الفكر، هو الخروج من أسوار هذا المنهج إلى بديل آخر يقوم على فكرة (تعدد القراءة)، وهو بديل منهجي قام على أساس الفلسفة (الهرمنيوطيقية) التي نشأت لإشكاليات معروفة في الفكر الغربي، وستنتهي في نهاية المطاف إلى فوضى النسبية، كما يقول أتباعها: (إن الحداثة تؤدي حتما إلى النسبية الشاملة في مجالات العلوم والفنون والفلسفة والأخلاق، وحتى في مجال العقيدة).
وبهذه النسبية يحقق الجابري واحدا من أهم أهداف مشروعه وهو: (تحويل العقيدة إلى مجرد رأي). ويصلوا في النهاية إلى صياغة (إسلام متحرك ومربك يحمل قارئه قسراً على مغادرة اطمئنانه ويقينه) كما تقول - عن نفسها - المدرسة التونسية التي يشرف عليها عبد المجيد الشرفي. هذه هي الحقيقة النهائية التي تنتهي إليها الأطروحة الحداثية: (مغادرة اليقين) إلى كل من يبحث عنه، وعندما يغادر اليقين، فلن يختار هذا الشباب الضائع ثقافة (التفجير) الآثمة، بل سيتجه نحو ثقافة (الانتحار) اليائسة، وهما طريقان كلاهما يؤدي إلى نفس النتيجة، وهي: إزهاق الأرواح البريئة.
*أكاديمي في جامعة الملك عبد العزيز بجدة