-A +A
جاسر عبدالله الجاسر
أثناء دراستي الجامعية، اطلعت على ترجمة أحمد الشيباني لكتاب «فلسفة كانت» ودهشتُ حين وجدتُ الترجمة مهداة إلى الأمير عبد الله بن عبد العزيز. استغربت العلاقة وإن ظننتُ الأمر لايتجاوز كونه نزعة تقليدية من أمير يبحث عن حضور ودور حتى إن جاء من بوابة الفلسفة.

وقتها كنتُ ومجايليّ لانعرف الأمير عبد الله إلا مرتين في السنة في خطابيه لليوم الوطني وعيد الفطر؛ كانت صورته لدينا غامضة وكثيرة الإرباك، والحق أننا لم نكن نستطيع القول، من خلال المشهد العام، سوى أنه ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء رئيس الحرس الوطني ومهتم بالفروسية، ولديه نفس عروبي شديد الوضوح تكتسيه مرارة قاتمة إذا عصفت بالأمة العربية أزمة ما وما أكثرها إلى اليوم.

حين تعرفتُ إلى مكتبة الملك عبد العزيز العامة وطبيعة محتوياتها، ومرونتها الثقافية، وسرعة تحديثها المدهشة آمنتُ أن الرجل الذي دعم تلك الترجمة يحمل رسالة ثقافية كبرى، وأنه مهجوس بنشر المعرفة وإتاحة منابرها لكل أبناء الوطن. في السنة ذاتها (1985) أطلق الجنادرية في حضور ثقافي طاغٍ؛ بروحها المتوثبة، وانفتاحها الصادم لمعاييرنا التقليدية الصلبة، واستيعابها لكل التيارات المضادة بدرجاتها المختلفة بدءاً بأدونيس وانتهاء بغسان زكريا ما أحدث حراكاً في الساحة الثقافية السعودية مازلنا نقطف ثماره إلى هذه اللحظة. اللافت أن الجنادرية خرجت من عباءة الحرس الوطني في صورة تنسف الكراهية العسكرية التقليدية للأنشطة الثقافية عموماً. وكنا نشهد، بزهو، الطيب صالح وغيره من المثقفين يحضرون متبخترين إلى الندوات الثقافية يتقدمهم، تشريفاً، ضباط من الحرس الوطني.

كانت الجنادرية عزفاً منفردا في عقدها الأول لما اتسمت به من حيوية وتنوع جعلتا منها المهرجان الثقافي العربي الأكثر صدقاً، واحتفاء حقيقياً بالثقافة دون أدلجة أو تسييس متفوقاً بمراحل على مهرجاني المربد وجرش رغم الحملات الدعائية الضخمة التي كانت ترافقهما.

على المستوى الاجتماعي ومن خلال التلفزيون، بدأنا نتعرف إلى عبد الله بن عبد العزيز بصورة أكثر حميمية، ونستكشف ملامحها في تفاصيل صغيرة ونافذة الدلالة في الوقت ذاته؛ شهدناه يضع كرسياً لمراجعيه من المواطنين حتى لايضطروا للانحناء أمامه معبراًُ عن عمق احترامه لإنسانية المواطن، وشهدناه يجول على منازل العلماء معايداً لهم.

في عام 95م أطل علينا مكلفاً بإدارة شؤون البلاد لمدة تقارب السنة ثم تنامى حضوره داخلياً وخارجياً في السنوات اللاحقة، كان من أبرزها زيارته لواشنطن عام 98 التي أدهشها بمسلكه السياسي العملي، ووضوح متطلباته وسرعته في اتخاذ القرار مع حرصه الثابت على مصالح بلده وأمته، بينما كانت تراقب بروزه على الساحة بسبب سمعته العروبية، فضلاً عن النبرة الحادة في خطاباته. وأنهى مشكلة الحدود البحرية مع الكويت في زيارة واحدة، وأغلق ملف الحدود المتوتر مع اليمن، وشكل مع مصر وسورية ثلاثياً عربياً كان بديلاً فاعلاً لجامعة الدول العربية، وقدم، في خطوة مهمة، مبادرة السلام العربية.

داخلياً أظهر الأمير عبد الله، الملك لاحقاً، تقارباً مدهشاً مع الشعب، وأعلن عن اهتمام حقيقي بقضايا المواطن، وحرصاً على ضمان حقوقه. وحظي الإعلام بهامش غير مسبوق جعل منه سلطة رابعة حقيقية باستثناء بعض القلق بين حين وآخر. وكانت زيارته للأحياء الفقيرة عام 2003 صدمة للمواطن جعلته يدرك فعلاً ماهية هذا القائد ونواياه المستقبلية؛ الأمر الذي ترسخ عبر جولاته الداخلية العديدة التي ربطت بينه وبين شعبه في لحمة فريدة تقوم على الحب والإعجاب قبل أن تكون احتفالاً بملك وقائد حتى أن الشباب وهم، عادة، أكثر فئات المجتمع تطلبا أصبحوا يعلقون صوره على سياراتهم إعجاباً ونجومية.

في يوم 1/8/2005م تسنم الملك عبد الله بن عبد العزيز العرش وتوالت قرارات إيجابية كلها تصب في مصلحة المواطن ورعاية مصالحه، وركزت خطابات الملك على هذا الشأن، إلا أن الوضع لم يتبدل وبقيت المؤسسات ذاتها دون تغيير.

بالنسبة للمواطنين لم يكن عبد الله ملكاً، بل منقذاً وأملاً تعلقت قلوبهم بكلماته التي مسحت همومهم وغاصت في ذواتهم فتسارعوا يستسقون ماءه، ويرجون طعامه بعد أن حرك سكونهم، وأقلق يأسهم، وفجر ينابيع الأمل فيهم، وابتنى لهم قصور القيمة والاعتبار فاستحال سكونهم إلحاحاً، وصمتهم همهمة ثم تذمراً يشبه الإحباط.

حققت السعودية حضوراً مهيمناً على الساحتين العربية والدولية، وفرضت هيبة على كل الأطراف؛ إلا أن الناس في الداخل كانوا يسترجعون كلمات الملك ولايجدون لها صدى ويتساءلون عن السبب في ذلك وقد أصبح الأمر بيده ولم يبق سوى وعده.تناثرت الأسئلة مابال ملكنا انصرف عنا؟ هل انشغل عنا؟ هل سيتذكرنا؟ هاهو قد دخل السنة الرابعة والأيام تمضي دون جديد؟

الصبر ليس طبيعة المواطن مالم يكن يأساً، والانتظار ليس خياره إن لم يكن مجبراً. الأنانية إحدى خصائص المواطنة، وهو كالطفل سريع التقلب، كثير التذمر كلما استشعر بعض الرضى وجانباً من هامش الحركة.

الرابع عشر من فبراير كان يمسح بقايا عاصفة ترابية لم تبدل من الأحوال شيئاً، ويثير أحاديث رتيبة عن هذا اليوم وماقد يحمله من مواجهات تظل هي السلوى رغم أن تكرارها يوحي بسكون الزمن لاحركته حتى الشائعات والتخرصات لم ينهض لها لسان. في ذلك اليوم صعق الملك عبد الله بن عبد العزيز مواطنيه ومتابعي سياسته عندما نفض الرتابة، وشكل بنية الدولة الرابعة من حيث دلالاتها التنظيمية خصوصاً في القضاء، واهتم بما يمس المواطن مباشرة فشكل أول حكومة فعلية، ومنح مؤسسات القضاء صفة تنظيمية تفصيلية استعصت عليها طويلاً مؤكداً أن العدل هاجسه، وأن التعليم قضيته، وأن صحة مواطنيه أساس اهتمامه، وأن حماية حقوقهم غايته.

أعلن ولادة الدولة السعودية الرابعة في انتظار اكتمال الخطوات الأخرى المتصلة، ضرورة، بما بدأ. أكد أن صمته كان عملاً وتخطيطا وتقصياً حتى آن وقت الحصاد.

أفاق الناس مذهولين، وإذ استفاقوا أدركوا أنهم تعجلوا في الظن، وأخطأوا في الاستنتاج لأن عجلتهم حرمتهم الرؤية السليمة بينما كان الملك الصابر يبني أسساً لاتُنقض، وينتقي رجالاً يحملون رؤيته، ويتوخى فيهم حس الأمانة والصدق فجاء الإصلاح سيلاً لم يكن له وادياً من قبل بل هو طريق شقه بنفسه، ثم أمده نهراً لاينقطع لأن الملوك الذين يصنعون التاريخ لاتسيرهم الرغبات المتعجلة بل يرسمون أهدافهم الراسخة وإن طال بها الزمن لأن بناء المجتمعات يتحقق من خلال صلابة مؤسساتها المدنية المختلفة.

ياخادم الحرمين اعذر لنا تعجلنا وتململنا فهذا تأويل مالم نستطع عليه صبرا.

* كاتب وباحث إعلامي