-A +A
عبدالله الداني ـ مكة المكرمة
أثارت المجزرة الصهيونية التي حلت بأهل غزة مؤخرا جدلا واسعا من حيث كثرة الفتاوى التي صدرت وتحمل في مضمونها أحكاما فقهية، بالإضافة إلى شجب واستنكار الجريمة. وتزامن ذلك مع تأخر نسبي للفتاوى الصادرة من الجهات المعتمدة من أهل العلم الشرعي، الأمر الذي تسبب في تعدد مواقف المسلمين تجاه هذه القضية التي فتحت بابا كبيرا من التساؤلات حيال قيام الجهات الموثوقة كهيئات الفتوى الرسمية والمجامع الفقهية وغيرها، بسرعة إصدار الفتاوى الشرعية الخاصة بالنوازل والوقائع والأحداث التي تنزل بالأمة في كافة أصقاعها، درءا لتسلق المحسوبين على المفتين الشرعيين وأهل العلم وحصول البلبلة ونزاع الأمة حول أحكام النوازل.
«الدين والحياة» استطلع آراء بعض علماء الشريعة المعتبرين في العالم الإسلامي حيال هذه القضية ..فإلى التفاصيل:

سبب مجهول
مفتي موريتانيا العلامة أحمد المرابط الشنقيطي بدأ حديثه متسائلا عن سبب تأخر الفتاوى عند حلول النوازل وقال: أنا لا أطلع على واقع وحال المفتين المعتمدين حينما تقع مثل تلك الأمور، فالذي أعرفه بوصفي قائما بالفتيا في بلدي أننا استعرضنا موضوع غزة مثلا في خطبة الجمعة وأصدرنا الفتوى والأمر بوجوب مساندة ومناصرة إخواننا المظلومين والمضطهدين في غزة، سواء بالمساعدة المادية أو المعنوية وهذا واجب من الواجبات الشرعية، ومن المتقرر فقها أن المسلم إذا ظلم في أي بلد من البلدان ولم يستطع رد الظلم عنه، يجب أن يقوم بمساندته وعونه من يتولاه من المسلمين، فإن حصل دحر للعدو ممن يتولاه من المسلمين فقد أدى المطلوب وسقط عن الباقين، فإذا لم يحصل ذلك فإن المسؤولية تتسلسل إلى أن تعم سائر المسلمين على وجه الأرض، وهذا هو الحاصل في قضية الإخوة في غزة، وكما يعلم الجميع فإنها قضية ظلم واحتلال حاصلة من الصهاينة على مدار ستين سنة، وإن الأمة الإسلامية بكاملها لو تجمعت اليوم فليس من اليسير عليها حل هذه الإشكالية ودحر هذا العدو، فمما لا خلاف فيه أن مساندتهم تجب على كل من على وجه الأرض من المسلمين وبهذا صدر البيان والتبليغ والإفتاء عبر وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة في بلدنا، وهذا ما حصل من كثير من المفتين على وجه الأرض، أما تأخر الفتاوى فلا أعرف سببا له.
وأضاف مفتي موريتانيا قائلا أرى أن المطلوب والمتعين هو الإسراع بحسب الإمكان والمتهيئ بإصدار هذه الفتاوى تبصيرا للناس وتوعية لهم، حتى تكون سدا لذريعة تقحم من ليس أهلا للفتوى لما يصدر من فتاوى قد لا تكون صحيحة أو موافقة للشرع المطهر.
غزة ليست نازلة
ويرى العلامة الموريتاني الشيخ محمد الحسن الددو أن قضية غزة ليست نازلة في المصطلح الفقهي، لأن النازلة هي ما لم يرد فيها كلام للأقدمين وهي محل إجماع بين المسلمين، ولا يختلف اثنان من العلماء أنه يجب على المسلمين نصرة إخوانهم والدفاع عنهم وتحريك الجيوش لنصرتهم ومن لم يفعل ذلك متواطئ مع العدو وهو ضامن لما يسيل من الدماء وما يزهق من الأنفس وما يهلك من الأموال، يضمنه شرعا ويجب عليه أن يقدم ديات القتلى وكذلك يضمن الأموال التي أهلكت والبيوت التي هدمت. وأضاف: هذا واجب على حكام المسلمين جميعا وهو محل اتفاق بين جميع العلماء ولا اختلاف فيه، فالحكم الشرعي واضح أصلا في هذه المسألة ومن يرجع إلى أي كتاب من كتب الفقه الموجودة يجد ذلك فيه.
صعوبة الإجماع
وعن صدور الفتاوى في النوازل المستجدة قال: لن يستطيع المسلمون أن يتحدوا ولا بد أن تختلف فيها وجهات النظر لكن لا بد أن تكون أيضا مضبوطة بضوابط شرعية ولا يتطلب فيها الإجماع على فتوى واحدة، فالشارع كان قادرا على أن يأتي بها في القرآن محسومة بينة واضحة ولم يفعل ذلك حتى في السنة الصحيحة فدل ذلك على أن الله تعالى وسع فيها على المسلمين فتختلف فيها عقولهم وآراؤهم، ولا يمكن أن تحصر الفتوى في الهيئات الرسمية لأنه يختار لها من يوافقها في الأنظمة التي تذهب إليها. وفي ما يخص سرعة استصدار الفتاوى لتوجيه الناس بين الددو أن ذلك على حسب اختلاف أحوال الناس فإياس بن معاوية بن قرة رحمه الله وهو من كبار التابعين انتقده أقوام وقالوا إنك تسرع في الفتوى والقضاء فرفع يده وقال: كم هذه الأصابع؟ قالوا خمسة فقال أسرعتم في الجواب، فقالوا هذا بديهي لا يحتاج إلى تفكير فقال ما أفتي به كذلك بديهي لدي لا يحتاج إلى تفكير فهذا يعني أن ذلك يختلف باختلاف المفتين.
الإسراع مطلوب
أما مفتي الديار المصرية السابق الدكتور نصر فريد واصل فقال إن إصدار فتاوى النوازل من قبل المجامع الفقهية والإسراع فيها مطلوب، وكذلك من الجهات المتخصصة التي فيها علماء متخصصون والعلماء الذين لهم وزنهم وثقلهم ولهم الشهرة بالإفتاء سواء كانوا رسميين أو خارج الإطار الرسمي. فالعبرة أن يكونوا مجموعة من العلماء الثقات وهو ما نسميه برأي الجمهور ولا بد في هذا مراعاة المصلحة لهؤلاء الذين نزلت بهم النازلة.
ففي غزة مثلا يكون الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة في البلد الذي هم فيها وتشمل الكبير والصغير والمرأة بدون إذن زوجها والكل بما يقدر عليه بالنفس والمال، وعلى غيرهم يكون فرض كفاية على قدر من يدفع عنهم الاعتداء ويساعدهم في الجهاد ودفع هذا العدو وكل على حسب استطاعته بتحقيق إحدى الوسائل التي تحقق لهم النصر أو تدفع عنهم الضرر، فهذه المسألة محسومة والعلماء قد اتفقوا عليها.
أما بقية القضايا فلا بد من التشديد أن تكون فتاوى النوازل من مجموعة من العلماء الثقات الذين يعتد بهم ولهم مكانتهم وثقة العامة بهم أي الناس جميعا، باعتبار أن هؤلاء يمثلون الواسطة في نقل الحكم الشرعي من الله تعالى والنبي صلى الله عليه وسلم أي من الكتاب والسنة إليهم.
فقه التخريج
إلى ذلك أكد مفتي البقاع اللبنانية الشيخ خليل الميس أن فقه النوازل هو في حد ذاته الواقعات أي المستجدات في مجتمعنا الإسلامي، ونعني بذلك الأمور التي لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة أو التابعين أو أتباع التابعين ولا في أيام مذاهب الأئمة الأربعة واستجدت بعد ذلك، فهذه المسائل إنما يضبطها ما يعرف بفقه التخريج على أصول مذاهب الأئمة الأربعة. لذلك إذا نزلت النازلة أو حصلت الواقعة فلا بد من استنباط حكمها لأنه لا يخلو حدث من حكم شرعي كما يقول الإمام الشاطبي. وأضاف أما عن من يسأل في فقه النوازل فإن غالب الأحكام في فقه النوازل تكون تخريجا على أقوال أئمة المذاهب الأربعة، لكن المشكل هنا هو أنه لم يكن هنالك لها أصل في مذهب ما فيمكننا الانتقال إلى مذهب أو آخر، لأن المذاهب الأربعة المعتمدة والمعمول بها في مجتمعنا الإسلامي منذ اثني عشر قرنا أو يزيد لا بد أن يجاب في مضمونها على المسائل المستجدة، وعندنا في الفقه حسب اصطلاح أهل العلم استنباط من الكتاب والسنة وتخريج على أقوال الأئمة، فالنوازل ليس لها نص في كتب أصحاب المذاهب الأربعة. فمعنى ذلك أنه لا بد من التخريج على أقوال الأئمة وهذا ما يسمى بفقه التخريج لأحكام النوازل المستجدة، صحيح أنه ينبغي لمن نزلت به نازلة أن يسأل كما ينبغي وعلى ذوي الاختصاص أن يجيبوا لأنه من باب التبليغ عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فرب مبلغ أوعى من سامع (بلغوا عني ولو آية).
لجان متخصصة
وحول التعجل بإصدار الفتاوى من المجامع الفقهية قال: كنت قد تقدمت باقتراح إلى المجمع ومضمونه: أن النوازل إما أن تكون عامة في كل البلاد أو تكون خاصة لفرد ما، فالفتاوى العامة ينبغي أن تصدر من أهل الاختصاص بالذات وخاصة مثلا المعاملات البنكية. وأضاف لا يجوز أن يقتصر الفقيه أيا كان في أيامنا على رأي منفرد في المستجدات التي تعم بها البلوى حسبما يطلق عليها فقهاء الأحناف لأنها تصيب كل الناس، لذلك ينبغي أن تصدرها لجان متخصصة. ونتمنى من المجامع الفقهية التابعة للرابطة ومنظمة المؤتمر الإسلامي وغيرها من المؤسسات العلمية الموثوقة في العالم الإسلامي أن تنظر في كل الفتاوى المستجدة خاصة في المعاملات البنكية، وأيضا أن تطلب نسخا من قوانين الأحوال الشخصية في العالم العربي والإسلامي ما أمكن لتصدر رأيها في بعض المواد القانونية المخالفة للنصوص، وهي بهذا تبرئ ذمتها أمام الله تعالى.وقال لا بد من قراءة الأفكار والفتاوى التي تعم بها البلوى في العالم الإسلامي ولا بد أن تصدر هذه الفتاوى عن مجموعة يطمئن إليها والمجامع الفقهية أولى بهذا.
واختتم حديثه قائلا: أكثر الناس فتوى هم أكثرهم جهلا لأن الذي يخاف الله تعالى يتورع عن الفتوى في الأمور المستجدة وربما تأخذ معه كبير وقت، لكن الذي يحصل الآن في الفضائيات أن صارت الفتاوى عالمية فسرعان ما ينتشر فيها الخطأ وهذا الذي ينبغي أن يضبط وأن لا يخرج في الفضائيات إلا من هم معروفون من أهل الفتوى، وأن يطلب من كافة أجهزة الإعلام في كل بلد ألا يستفتى إلا من هو معروف بالفتوى وموثوق بذلك في العالم الإسلامي.
الربط بين الأحداث والدليل
وأوضح العلامة والمحدث ونائب رئيس جامعة الإيمان بصنعاء الشيخ عبدالوهاب الديلمي أنه لا يحب من يتعجل في الفتوى وهو ليس من أهلها، فيتصدر للفتوى وينزل الأدلة على الأحداث وهو لا يدري كيف يحسن الربط بين الدليل والحادثة التي حدثت، فربما يستدل بدليل لا يصلح لهذه الحادثة ويربط بينهما ربطا غير صحيح، وهذه في الحقيقة قد تؤدي إلى فتنة لأن الفتاوى يدخلها التحليل والتحريم في كثير من الأحيان.
وتابع الديلمي: ولا أحب كذلك أن تتأخر الفتاوى من أهلها خاصة في القضايا العاجلة التي لا تحتمل التأخير، وأضاف: نحن قد نعطي العذر لأصحاب الفضيلة العلماء خاصة في المجامع الفقهية التي كثرت الآن سواء في المملكة أو سوريا أو مصر والهند وغيرها في القضايا التي تحتمل التأخير لكن القضايا السريعة والتي تحتاج إلى حلول، فأرى أنه لا بد أن تكون هناك مبادرات واجتماعات عاجلة استثنائية خارجة عن الدورات المعروفة السنوية وغيرها.
غزة مثالا
وقال إن قضية غزة كانت تحتاج إلى مبادرة من أهل العلم في أقرب وقت حتى يبين للناس ما هو الموقف الشرعي الذي يجب على الشعوب والحكام والعلماء إزاء هذه القضية، فإن هناك خطورة بالغة في التأخر في هذه الفتوى خاصة وأن أعداء الإسلام يريدون استئصال شأفة الإسلام وإن كان الله تعالى لن يمكنهم من ذلك، لكننا قد رأينا بأعيننا الدمار الذي حل بغزة والشراسة في هذه الحرب على أناس مستضعفين لا يملكون شيئا، فلا بد من معالجة هذه القضية وحلها إلا إذا وجد أشخاص من أهل العلم خارجين عن المجامع الفقهية ممن تسمع كلمتهم وهم أهل لذلك، فعليهم أن يبادروا في الفتوى في مثل هذه القضايا إن استطاعوا وهو أمر طيب.
وقال لقد أعجبتني بعض المواقف مثل الفتوى التي صدرت من علماء الأزهر وكذلك فتوى صدرت من علماء اليمن وغيرها، وهذه الفتاوى السريعة عالجت القضية في وقتها وكانت أمرا طيبا و لا يزال الخير باقيا في علماء الأمة وعامتها.