لم ألتق برجل بكاء ومتعصب لمكة المكرمة مثل معالي الدكتور حامد الهرساني وزير الصحة الأسبق في عهد الملك سعود ــ يرحمه الله ــ.. زرته في منزله في حي النزهة على طريق مكة ــ جدة القديم وتحدثنا حديث مودع..شعرت على مدى ساعة ونصف أنني أثقلت عليه في السؤال كثيرا، لكنه ظل رغم سنواته المائة وظروفه الصحية؛ كريما وهادئا ومرحبا بي طوال الوقت وظل يكرر على مسامعي «أنت من أهل رابغ ولك حق علي».. تحدثنا بصراحة ووضوح في كل مباح ومحرم على النشر.، موضحا أنه قبل المنصب مع أن دخله كان يفوق راتب الوزير بثلاث مرات.. واعترف بأنه لم يجد في القومية العربية إبان حكم عبدالناصر ما يغريه، موضحا أنه وجد في استهزاء عميد كلية طب القصر العيني وأصدقائه في مكة به، دافعا لدخول الطب والنجاح فيه.. وكشف عن تعاطف الملك فيصل معه عندما كان يستلم مكافأة أثناء دراسته أكبر من راتب وزير الصحة في مصر.. تفاصيل أخرى في مجريات الحوار:
• أمدك الله بالصحة.. كيف تعيش الآن وأنت تقارب على إكمال قرن من الزمان؟
الحمد لله في ستر وعافية وأديت ما علي من دور وجاء الزمن ليعطي الدور لأشخاص آخرين من الأولاد والأحفاد، ورغم أنني أصبحت مقعدا بعد إصابتي بثلاثة كسور في منطقة الحوض وهي التي حرمتني المشي حاليا الا أنني أعيش معهم طموحاتهم وآمالهم لحظة بلحظة.
• ومن بقي من أصدقائك وزملائك في الدراسة؟
لم يبق من أصدقائي سوى علوي جفري لكنني لم أره منذ فترة، وكان آخر لقاء بيني وبينه عندما حضرت عقد قران ابنته من عبدالرحمن الصبان.. أما في مصر فلازال إبراهيم بدران الذي تولى وزارة الصحة، والذي يزورني من فترة الى اخرى وكذلك فؤاد محيي الدين الذي وصل لمنصب رئيس الوزراء في مصر وقد جاءني إلى منزلي هنا في مكة، وكان في زيارة رسمية للمملكة وأصر على أن يتخلى عن البروتوكول الرسمي من أجل أن يجلس معي في حديث طويل عن مراحل الدراسة والصداقة في تلك الأيام.
تحضير البعثات
• مدارس الفلاح كانت مصنعا للحياة الى أي مدى أثرت في شخصيتك؟
درست في مدرسة الفلاح في حارة القشاشية في مكة وهي تختلف عن مدارس الفلاح في جدة، ولم يكن في تلك الأيام إلا ثلاث مدارس هي الفلاح والصولتية في حارة الباب والفخرية في باب إبراهيم. وأتذكر أنني ولدت في باب العتيق ويوجد الآن جهة جبل عمر إلى الغرب من الحرم وكنت أذهب للمدرسة حافيا عن طريق الدخول من باب علي في الحرم، وكانت مدرسة تؤم بكبار المعلمين من أساتذة الحرم المكي من أمثال الشيخ الصالح محمد أمين كتبي والعم عيسى رواس والشيخ يحيى أمان والوالد حامد كعكي. وأتذكر أن شاعرنا الكبير محمد حسن فقي كان يعمل مساعدا لأستاذ الخط الشيخ سليمان غزاوي ــ رحمهم الله جميعا ــ وقد قضيت فيها تسع سنوات لم نكن نتمتع فيها بإجازة طويلة كما يحدث الآن ونلت الشهادة العالية عام 1352هجرية وكأنني حاصل على الثانوية العامة، وكان زملاء دفعتي عبداللطيف جزار وعبدالله بلخير وأحمد صالح كعكي وعبدالله قاروت والمرحوم أحمد شطا وعبدالعزيز فطاني. وقد عمل كل زملائي ملازمين في وزارة المالية إلا أنا فقد فضل والدي وكان شيخا للطوافة أن أعمل معه واستمريت كذلك لمدة عام، ثم التحقت بمدرسة تحضير البعثات في المسفلة وكانت تجاور بيت البوقري وقد تخرجت ضمن ثمانية طلاب شكلوا الدفعة الأولى منها.
• ولماذا أمركم الملك فيصل بعدم السفر إلى مصر؟
عندما تخرجنا من مدرسة تحضير البعثات وقعت الحرب العالمية فحالت دون سفرنا إلى مصر، وكان من زملائي معالي الدكتور حسن نصيف والدكتور علوي جفري والمرحوم سيد أحمد شطا وشرف كاظم، وكان والده مدير البريد آنذاك. وأتذكر أن الأستاذ عزيز ضياء ــ يرحمه الله ــ كان راغبا في الالتحاق بمدرسة تحضير البعثات في مكة لكنه كان يكبرنا سنا وعندما دخل المدرسة وجدنا طلبة صغارا فلم يعجبه الوضع وغادر المدرسة دون أن يلتحق بها، ومع تطور الأحداث ووصول «رومل» قائدا للجيش الألماني بقواته إلى العلمين بجوار القاهرة؛ حدثت المواجهة بين الجيش الإنجليزي الذي كان يدافع عن المصريين بقيادة مونتجمري، وشاءت إرادة الله أن ينتصر الإنجليز فأمرنا الملك فيصل ــ رحمه الله ــ أن نؤخر ابتعاثنا، فقمت بتدريس اللغة الإنجليزية لمدة عام كامل لطلاب المرحلة الابتدائية، ومن الذين درستهم الدكتور عبدالعزيز مدرس، ومحمد أمين مطاوع، وأحمد داغستاني. بعد ذلك غادرنا عن طريق باخرة بحرية إلى السويس وقابلنا في الميناء الأستاذ ولي الدين أسعد وكان مسؤولا عن الابتعاث في مصر، فأخذني مع علوي جفري وحسن نصيف وذهب بنا لعميد كلية الطب في القصر العيني وكانت صدمتنا مبكرة عندما قابلنا عميد الكلية فقال لنا «هي الجامعة العربية جابت لنا البدوان يعملوا إيه هنا» فشكلت كلماته تحديا لنا، وكنا قد عانينا في البداية من وجود الكلية في منطقة العباسية واضطررنا لركوب «الترماي» صباحا إلى العباسية، ومن بعد الظهر كنا نأخذ الأوتوبيس إلى الجيزة حيث توجد جامعة فؤاد الأول ثم نذهب بعدها للقصر العيني، وبعد صبر وعناء وفقنا الله في الالتحاق بالسنة الأولى طب «وكنت طويل لسان ومولعة في قلبي كلمات العميد» فذهبت إليه وقابلته وقلت له: شكرا على استقبالك الطيب لنا في بداية العام، فقد كان لكلماتك وقع السحر على البدو الثلاثة الذين نجحوا في الالتحاق بكلية الطب، وبعد تخرجي من كلية الطب عملت مع الدكتور عبدالله كاتب وكان صديقا لوالدي ــ يرحمه الله ــ وقد وفقت في الحصول على درجة طبيب مقيم زائر في سنة الامتياز، وكانوا يصرفون لي 12 جنيها ولطالب الامتياز ثمانية جنيهات، فكتبت للملك فيصل وأبلغته بالأمر فأمر بأن يصرف لي مبلغ 35 جنيها مصريا وكان مبلغا كبيرا لا يتقاضاه الوزير في مصر آنذاك، وكنت عازما على إكمال رسالة الدكتوراه في الجراحة، ولكن إرادة الله شاءت أن يأتي والدي الى القاهرة للعلاج عام 1969م وتوفي فقمنا بدفنه هناك وعدت من وقتها مع الأهل إلى مكة المكرمة وتم تعييني بقرار من الملك فيصل رئيسا للمطوفين مكان والدي، ثم افتتحت لي عيادة في المسفلة وبدأت فيها عملي كجراح.
الوزارة
• ومن رشحكم لتولي وزارة الصحة؟
رشحني للوزارة الدكتور حسن نصيف وكان وزيرا قبلي.
• هل صحيح أنك عرفت بالخبر قبل إعلانه؟
كنت جالسا في منزلي بعد صلاة العصر منتظرا صلاة المغرب لأذهب إلى عيادتي في حي المسفلة، فجاءني اتصال هاتفي وإذا بزميلي الأستاذ عبدالله بالخير ــ يرحمه الله ــ يقول لي: أبشرك ستصبح غدا وزيرا للصحة، وكنت أظنها مزحة من مزحاته المتكررة، لكنني عرفت صدق الخبر عندما استمعت إلى الراديو وهو يذيع الخبر بعد صلاة العشاء وفوجئت بالمهنئين يتوافدون إلى منزلي، وباشرت عملي بعد عطلة عيد الفطر مباشرة عام 1381هـ.
التغيير
• ولكن فترة وزارتك كانت قصيرة جدا؟
انتهت وزارتي مع التغيير الوزاري الذي جاء بعده تولي الملك فيصل للحكم حيث شكلت وزارة جديدة .
• ولكنك كنت قادرا على التعبير عن رأيك باستقلالية؟
- نعم كانت هناك استقلالية سياسية في التعبير عن الرأي لأي وزير، وما زالت هذه الاستقلالية موجودة.
• الغريب أنك لم تنجرف مع التيار الناصري والقومية العربية عندما كنت في مصر رغم تشبث الكثير من العرب بذلك؟
لم أكن ناصريا ولم أتأثر رغم طول الفترة التي قضيتها في مصر بما كان يحدث من شعارات قومية زائفة، وظل توجهي السياسي لمكة وسيظل إلى أن أموت.
• وماذا استفدت من الوزارة؟
أكثر شيء استفدته من الوزارة هو التعرف على رؤساء الوزراء وقيادة الدول العربية في تلك الفترة ما عدا مصر حيث كانت العلاقة متوترة معها، أما من الناحية المادية فعندما عينت وزيرا كان دخلي ثلاثة أضعاف مرتب الوزارة حيث كنت عضوا في مجلس إدارة ثلاث شركات وطبيبا ورئيسا للمطوفين، وكان الوزير في تلك الأيام يأخذ مرتبا قدره عشرة آلاف ريال.
• ما الذي حققته كوزير صحة في سنة واحدة؟
وفقني الله في تأسيس ثلاثة أشياء رئيسية؛ أولا التطعيم الإجباري، وثانيا وضعت نظاما للطب الشرعي، وأتذكر أنني طلبت من الملك فيصل ــ رحمه الله ــ مبلغ خمسين ألفا لأفتتح به قسم الطب الشرعي، لكنني اصطدمت بسماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ والذي كان يرفض فكرة تشريح الجثث فأخبرته بأنني أخذت الموافقة فقال لي «هي الدولة تسوي شيء بدون إذني»، ومن حسن الحظ أن حصلت جريمة ولم يعرف من هو القاتل فاستعان المفتي برأيي في الموضوع فأخبرته بأن الطب الشرعي يستطيع أن يكتشف ذلك، وكان عندي طبيب سوري على مستوى عالٍ في هذا المجال فحللنا الجثة وعرفنا من قتل الرجل قبل دفنه، فاقتنع سماحته بجدوى هذا الموضوع وتمت الموافقة عليه. وأتذكر أنه ساندني حتى في موضوع دخول النساء في التمريض عندما أسسنا المعهد الصحي للبنات في الرياض وكنت أقول للمفتي محمد بن إبراهيم آل الشيخ، لو كانت زوجة أحدكم مريضة أليس من الأولى لها أن تذهب للتمريض عند امرأة بدلا من رجل فكان يقول: نعم، ومن هنا بدأنا في إدخال الممرضات للكشف على النساء وتم إنشاء معهد التمريض للبنات في الرياض.
• لم تذكر شيئا عن مؤتمر منظمة الصحة العالمية الذي أحرجكم فيه المصريون؟
هذا المؤتمر أهم انجاز حققته المملكة في المجال الصحي أثناء فترة وزارتي وحدث بعد حج عام 1961م وكان رئيس فرع منظمة الصحة العالمية في الاسكندرية هو الدكتور طابا ونظرا لتوتر العلاقات السعودية المصرية تلك الأيام فقد رفضت الحكومة المصرية إعطاء الدكتور طابا الملفات الخاصة بالمؤتمر مع أنه لم يبق على اقامته سوى يومين فأقترحت عليه بالحيلة أن يرسلها الى العاصمة اللبنانية بيروت وهناك كانت الطائرة السعودية بأنتظارهم لنقلهم الى الرياض ، وقد نجح المؤتمر الذي عقد بثلاث لغات (الانجليزية والفرنسية والعربية) نجاحا كبيرا وأصبحت اللغة اللعربية لغة رسمية في منظمة الصحة العالمية.
• هل كانت لديكم أخطاء طبية كما يحدث الآن؟
لم يكن في زماننا أخطاء طبية، بل لم يكن هناك أصلا أطباء سعوديون فأغلب الطاقم في كل المدن السعودية كان من مصر.
• والفساد الإداري؟
الفساد الإداري حتى لو وجد فلن أتحدث عنه لأنني لا أحب أن أطعن في أي شخص من بلدي، ولو وجد شيء فنحن نعالجه ونصلحه لا أن نفضحه.
• هاجمتك الصحافة عندما كنت وزيرا؟
كانوا يبحثوا عن أي غلطة علشان يلسعوك فيها، وكنت أسكت على أشياء كثيرة وأحيانا اتصل بالشخص الذي يشتمنى وأناقشه.
لقاء المؤسس
• التقيت بالملك عبد العزيز قبل أن تصبح وزيرا؟
التقينا به أثناء زيارته إلى مصر وذهبنا في معيته إلى قصر عابدين للقاء الملك فاروق وكانت لحظات لاتنسى بالنسبة لي ، وبعد عودتي من دراسة الطب في مصر زارنا وفد من وزارة الصحة المصرية والتقى في جدة بسمو الأمير عبد الله الفيصل فناداني وقال لي: جماعتك وصلوا وأبغاك تسافر معهم للرياض للقاء جلالة الملك ففرحت بذلك ، وعندما وصلنا للرياض وسلمنا على الملك عبد العزيز قال رئيس الوفد وأتذكر أن اسمه الدكتور العيادي : هذا الهرساني ولدنا ياجلالة الملك، فرد الملك ضاحكا بلهجته البدوية (هذا ولدنا قبلكم) .
• من كان يخطط لوزارة الصحة في تلك الأيام؟
شركات مصرية ولم يكن هناك غيرها، ولكننا بعد فترة استعنا بشركات صينية وفنلندية ومما ينبغي ذكره هنا أن زيارتي لفنلندا فتحت الباب أمام قدوم الحجاج الفنلنديين والمسلمين المتغربين هناك للحج في تلك الفترة حيث التقيت بعدد من أفراد الجالية هناك بعد إحدى الصلوات فأشتكوا لي من معاناتهم مع بناتهم اللاتي يدرسن في المراحل الجامعية ومشاكلهن مع الطلاب الفنلنديين ، وقد أخبرت الملك فيصل بما سمعت فوجهنا لهم الدعوة ومن الطريف أن قدومهم للحج كان في فصل الشتاء وكنا نشكو من البرد وهم يشتكون من الحر نظرا لأنهم يعيشون في الدول الاسكندينافية طيلة العام في درجات منخفضة تحت الصفر.
• لو خيرت بين الطوافة والوزارة فماذا تختار الآن؟
أختار الطوافة كما كانت أيام زمان، عندما كان المطوف «مندوب مكة» في العالم الإسلامي، فالحجاج يأتون باسم المطوف عندما يصلون إلى مكة. والحقيقة أن شرف خدمة الحجاج في مكة يتمناه الكثير من الناس ولك أن تتصور أن الأمير متعب بن عبدالعزيز في أحد أيام الحج كان يقوم بتنظيم عملية السير في منى وكنت أنا خارجا من مستشفى منى، فذهبت للسلام عليه فقال لي: والله ما تروح مكان، فقلت له: ليه طال عمرك، فقال: تعال ساعدني ننظم السير علشان نكسب الأجر، وفي تلك الأيام كان الحجاج يأتون إلى منى للسكن في البيوت.
• تـبـدو غـيــرمـرتــاح لمؤسسات الطوافة حاليا؟
مؤسسات الطوافة يعملون على ما يرونه مناسبا لهم، لكن في السابق كان المطوف هو مندوب الكعبة وكان الحاج إذا أتى إلى مكة يسلم على يد المطوف، أما الآن فالمؤسسات هي التي تسلم على يد الحجاج من شان إحضارهم، وكان عدد الحجاج في تلك الأيام لا يتجاوز 200 ألف حاج ولكن بدأت النسبة تزداد عندما بدأ توافد الأتراك سنة بعد سنة.
• ظاهرة استغلال المرضى ظهرت على السطح كثيرا هذه الأيام، لماذا؟
لم تكن على أيامنا توجد عيادات خاصة عدا عيادتين هما؛ عيادتي أنا وعيادة الدكتور حسن نصيف، وكنا نأخذ على المريض عشرة ريالات قيمة الكشف الطبي، أما الدواء فيصرفه من الصيدليات الخارجية، وبالمقارنة مع ما يحدث الآن فإن تكلفة الخدمة أصبحت عالية، والمستشفيات الأهلية بعضها يقدم خدمة جيدة والبعض الآخر لديهم استغلال واضح لحاجة المرضى.. وقد نقتنع بوجود مصاريف عالية لإحضار الأجهزة والأطباء من دول متقدمة ولكن التكلفة العالية تأتي على ظهر المريض.
• بالرغم من تطور الطب فمازال الناس يتجهون للطب الشعبي؟
الاتجاه للطب الشعبي مسألة طبيعية لأن الناس ألفوا ذلك، وعادة عندما يأتيك مريض يقول لك جربت كذا وكذا، ومن ثم فهو يأتي باحثا عن الحل الأخير.
• على فكرة.. هل ما زلت تصرف الدواء لنفسك؟
كنت أصرفه زمان، أما الآن فلا أحتاج لذلك. والحقيقة أن الأدوية لم تتغير كثيرا لكنها تطورت ولا شك.
• لماذا يقول الناس دائما أن دواء الحكومة يجيب الشفاء؟
لأنه ببلاش وفيه البركة.
• الفقر.. هل كان له دور في ما يحدث للناس من أمراض؟
الفقر زاد عندما منعوا الإقامة في مكة في تلك الأيام لأن الناس كانوا يأكلون ويشربون مع الحجاج وكانت البيوت مفتوحة للجميع، كما كانت هناك التكية المصرية وهي عبارة عن مستوصف من أموال أهل مكة كانت تتولاه الحكومة المصرية بإحضار الدكاترة والممرضين، وكانوا يأتون أيضا بالخبز المصري ليصرفوه لأهالي مكة، فحدث أن التي كانت تدير التكية امرأة اسمها الدكتورة إنصاف وأرادت أن تغادر فطلبت مني القيام بمهامها ولكن لأنني سعودي ولست مصريا فقدت اعترضت على ذلك، فذهبت للأمير عبدالله الفيصل واستأذنته في ذلك فوافق، فقمت بتغيير نظام التكية بالكامل حيث كان الحجز يتم خلال ساعتين صباحا ففتحت الحجز حتى صلاة الظهر وكنت أعطي الأدوية على مدى أسبوع كامل للمرضى فيما كانت تعطى ليوم واحد فقط، وعندما كان يسألني أحد أقول كلمتي المشهورة «علشان لا يتحكموا في أهل مكة»، وأنا أعتبر نفسي مكاويا متعصبا لمكة؛ ولادة ونشأة وتعليما، وكل خير يجينا من وراء حبنا وتعظيمنا لمكة وللبيت الحرام.
• أكثر شيء فقدته بعد مرضك وعجزك عن السير؟
رؤية الكعبة يوم الجمعة، حيث كنت أذهب إلى هناك مبكرا فأشعر أن روحي تعود إلي وأوصي كل إنسان مسلم «لايقطع الكعبة وبيت الله» ففيهما سعادة الدارين.
الزواج
• لزواجك من لبنان قصة لم تروَ؟
ببساطة إجراءات الزواج التي تمت في ذلك الوقت كان الحجاج يأتون إلى بيتنا من بيروت وفي تلك الأيام كنت مسافرا إلى إيران عن طريق بيروت، فقالت لي الوالدة لن تذهب حتى تتزوج، واختارت لي ابنة أحد الحجاج المقيمين عندنا في البيت وكانوا من أسرة كبيرة في لبنان، فقلت لوالدتي «ما حنا قدهم» فقالت لي: بكرة تصير تحت أمرك، وبالفعل جاء من ورائها الخير كله من أولاد وأحفاد.
• وأيش قصة علقة «العدس» التي أخذتها من الوالد يرحمه الله؟
هذه قصة أذكرها لأولادي دائما لأن القسوة في أحيان كثيرة تكون مفيدة لمستقبل الأولاد رغم الألم الذي يشعر به الوالد، ففي يوم غائم ــ وكنت في السنة الرابعة في مدرسة الفلاح ــ اتفقت مع بعض الزملاء على الخروج من المدرسة والتنعم بوجبة الرز والعدس بعد الظهر، وعندما كنا في المنزل جاء طارق من المدرسة يستفسر عن غيابي فأجبته بصوت نسائي أن حامد مريض ولم أكن أعلم أن الوالد كان يسمع حديثنا فناداني في اليوم التالي لأذهب معه وأنا أستغرب عدم حديثه معي في اليوم الأول بشأن ما حدث وكأن شيئا لم يكن، وقد علل ذهابي معه إلى أحد أصدقائه وعدم ذهابي إلى المدرسة بأني مريض، الأمر الذي أفرحني ولم أكن أعلم أنه فخ نصبه لي ــ يرحمه الله ــ حيث سلمني إلى صاحب بيت لأعمل مع العمال في البناء طوال اليوم ولم أتمكن من الفرار إلا ساعة الغذاء وعدت عند توزيع الأجور، فلم يعطني شيئا وجاء والدي بعد ذلك فأمرني بأن أرافق كبير البنائين إلى منزله لأعمل معه صباح اليوم التالي، لكن صديق الوالد عطف علي وتوسل لوالدي أن يعيدني إلى المدرسة ومن يومها لم أتغيب عن حضور أي مادة وكان لهذا الموقف دوره في تفوقي واهتمامي بالعلم.
الندوة
• جئت للندوة مديرا عاما وتركتها ولازالت حتى الأن لم تتعاف لماذا؟
كنت مديرا للندوة وتوليت مسؤوليتها بعد وفاة عبدالله عريف ــ يرحمه الله ــ، ثم جاء أحمد سباعي وكان مديرا لمكتبي فأصبح رئيسا لتحريرها، ولم يكن ينافسنا في تلك الأيام إلا «عكـاظ» و«المدينة»، ولكن للأسف الآن يطلب القائمون على جريدة الندوة أموالا كثيرة والناس لم يعد لديهم فلوس.
• ودعم خادم الحرمين الشريفين لها؟
توقعنا أن يحل كثيرا من الأمور لكن هذا لم يحدث، وأنا أعتقد أن هناك مشكلة اتصال ومودة بين رئيس التحرير ورجال الأعمال.
• يشعر الكثيرون أن «الندوة» لم تقدم ما يشفع لها بالبقاء في الساحة الإعلامية؟
يكفي الندوة أنها قدمت عثمان العمير رئيس صحيفة الشرق الأوسط سابقا.
• ما تفاصيل الموقف المحرج الذي تعرضت له في الطائف وأنت وزير؟
الله يسامحك أنا نسيت هذا الموقف.. وأتذكر أنه حدث أثناء زيارتي لمستشفى الأمراض النفسية في شهار وكان برفقتي معالي الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ وزير المعارف آنذاك وعدد من المسؤولين، وكانت هناك مريضة من موريتانيا موجودة في أحد العنابر ففوجئت بها وقد أصابتها الحالة النفسية وهي ترفع صوتها وتنظر إليّ وتقول لي «هل بلغت الرسالة، هل بلغت الرسالة؟» ثم قبضت على كتفي وكانت ذات بنية قوية وهي تقول «أقبل الرسالة، أقبل الرسالة؟» فأسقط في يدي، وفي تلك اللحظات كان الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ يشاهد المنظر ويضحك بشدة ومن حسن الحظ أن جاء الدكتور أسامة الراضي والعاملون في المستشفى وتم إعطاؤها إبرة مهدئة، ثم التفت حولي لأجد مشلحي في مكان وغترتي في مكان آخر.
• وما هي حكاية «دندن»؟
هذي كانت في السودان عندما سافرنا إلى مدينة «دندن» في أحد الأيام، وكنت قبل السفر قد سألت الملك فيصل: ما هي توجيهاتك لي، فقال لي: أنت اللي توجه وخذ معاك ابني محمد، وفي طريقنا إلى مدينة دندن بطريق البر فوجئنا بقطيع من الأفيال وفي تلك اللحظة فوجئت أن الأمير محمد الفيصل قام من مكانه وجلس بجانبي فقلت له ضاحكا «أيش جابك جنبي وأنت ابن ملك» فقال لي وهو خائف من الفيلة «أنا أخوك الحين» وعندما انصرف القطيع خرجنا فوجدنا أحد الرعاة ومعه بيض نعام فأخذته منه وأحضرته إلى الطائف وعملت منه «لمبات» للزينة.
الوحدة
• متابعتك للرياضة توقفت عند حدود وحدة زمان؟
حبنا للوحدة من حبنا لمكة وأهلها وهذا حب لايتغير ولا يساوم عليه.
• ولكن الوحدة أصبحت مغلوبة دائما؟
الوحدة علمت الناس الكورة، وما يغلبها غلاب لولا الظروف المادية.
• فريق شجعته في مصر التي كانت رائدة كرويا تلك الفترة؟
لم أكن أشجع فريقا معينا في مصر، رغم قرب سكني من نادي الزمالك لأنني كنت أشجع تعليمي فقط وظللت في حالة تحد مع النفس لتحقيق النجاح والحصول على شهادة الطب بعد أن ظل أصحابي في مكة يكررون عبارات «التريقة» ويهزأون من دراستي في مصر ويشككون في نجاحي بقولهم «هذا ولد الهرساني يصير دكتور» فكانت هذه الكلمات تشكل تحديا بالنسبة لي وهو ما وفقني الله فيه.
• ما سر علاقتك بالفنان إسماعيل ياسين؟
سكنت في عمارة الفنان إسماعيل ياسين ــ يرحمه الله ــ في روضة المنيل في الجيزة وكنت التقيه دائما أثناء فترة دراستي في مصر.
• وأم كلثوم؟
كنت سميع لها ومين كان قدها، كانت «ست» بحق وحقيق وكنت أحضر حفلاتها عندما كنت طالبا في كلية طب القصر العيني وكنا ندفع (خمسة ساغ) لدخول الحفلة. وأتذكر أنني في إحدى المرات رأيت الفنانة أسمهان ولم تعجبني وأعتقد أنها قتلت عمدا لعلاقاتها المتشابكة مع عدد من الأشخاص.
• وكم كان مصروفك وأنت طالب في القصر العيني؟
ثلاثة جنيهات شهريا،وكان معنا طباخ من مكة يطبخ لنا مجانا كما كنا نركب المواصلات مجانا أيضا، وكنت أسكن في روضة المنيل المجاورة لقصر عابدين ودخلت القصر مع الملك عبدالعزيز عندما زار مصر في عهد الملك فاروق.
• الغريب أنك ولد تاجر ولم تمارس التجارة؟
حاولت أجربها أكثر من مرة بعد التقاعد ولكنني لم أوفق.
• كلمتك الأخيرة؟
أذكرني بخير في ما تكتب وما تقول عني للناس.
• أمدك الله بالصحة.. كيف تعيش الآن وأنت تقارب على إكمال قرن من الزمان؟
الحمد لله في ستر وعافية وأديت ما علي من دور وجاء الزمن ليعطي الدور لأشخاص آخرين من الأولاد والأحفاد، ورغم أنني أصبحت مقعدا بعد إصابتي بثلاثة كسور في منطقة الحوض وهي التي حرمتني المشي حاليا الا أنني أعيش معهم طموحاتهم وآمالهم لحظة بلحظة.
• ومن بقي من أصدقائك وزملائك في الدراسة؟
لم يبق من أصدقائي سوى علوي جفري لكنني لم أره منذ فترة، وكان آخر لقاء بيني وبينه عندما حضرت عقد قران ابنته من عبدالرحمن الصبان.. أما في مصر فلازال إبراهيم بدران الذي تولى وزارة الصحة، والذي يزورني من فترة الى اخرى وكذلك فؤاد محيي الدين الذي وصل لمنصب رئيس الوزراء في مصر وقد جاءني إلى منزلي هنا في مكة، وكان في زيارة رسمية للمملكة وأصر على أن يتخلى عن البروتوكول الرسمي من أجل أن يجلس معي في حديث طويل عن مراحل الدراسة والصداقة في تلك الأيام.
تحضير البعثات
• مدارس الفلاح كانت مصنعا للحياة الى أي مدى أثرت في شخصيتك؟
درست في مدرسة الفلاح في حارة القشاشية في مكة وهي تختلف عن مدارس الفلاح في جدة، ولم يكن في تلك الأيام إلا ثلاث مدارس هي الفلاح والصولتية في حارة الباب والفخرية في باب إبراهيم. وأتذكر أنني ولدت في باب العتيق ويوجد الآن جهة جبل عمر إلى الغرب من الحرم وكنت أذهب للمدرسة حافيا عن طريق الدخول من باب علي في الحرم، وكانت مدرسة تؤم بكبار المعلمين من أساتذة الحرم المكي من أمثال الشيخ الصالح محمد أمين كتبي والعم عيسى رواس والشيخ يحيى أمان والوالد حامد كعكي. وأتذكر أن شاعرنا الكبير محمد حسن فقي كان يعمل مساعدا لأستاذ الخط الشيخ سليمان غزاوي ــ رحمهم الله جميعا ــ وقد قضيت فيها تسع سنوات لم نكن نتمتع فيها بإجازة طويلة كما يحدث الآن ونلت الشهادة العالية عام 1352هجرية وكأنني حاصل على الثانوية العامة، وكان زملاء دفعتي عبداللطيف جزار وعبدالله بلخير وأحمد صالح كعكي وعبدالله قاروت والمرحوم أحمد شطا وعبدالعزيز فطاني. وقد عمل كل زملائي ملازمين في وزارة المالية إلا أنا فقد فضل والدي وكان شيخا للطوافة أن أعمل معه واستمريت كذلك لمدة عام، ثم التحقت بمدرسة تحضير البعثات في المسفلة وكانت تجاور بيت البوقري وقد تخرجت ضمن ثمانية طلاب شكلوا الدفعة الأولى منها.
• ولماذا أمركم الملك فيصل بعدم السفر إلى مصر؟
عندما تخرجنا من مدرسة تحضير البعثات وقعت الحرب العالمية فحالت دون سفرنا إلى مصر، وكان من زملائي معالي الدكتور حسن نصيف والدكتور علوي جفري والمرحوم سيد أحمد شطا وشرف كاظم، وكان والده مدير البريد آنذاك. وأتذكر أن الأستاذ عزيز ضياء ــ يرحمه الله ــ كان راغبا في الالتحاق بمدرسة تحضير البعثات في مكة لكنه كان يكبرنا سنا وعندما دخل المدرسة وجدنا طلبة صغارا فلم يعجبه الوضع وغادر المدرسة دون أن يلتحق بها، ومع تطور الأحداث ووصول «رومل» قائدا للجيش الألماني بقواته إلى العلمين بجوار القاهرة؛ حدثت المواجهة بين الجيش الإنجليزي الذي كان يدافع عن المصريين بقيادة مونتجمري، وشاءت إرادة الله أن ينتصر الإنجليز فأمرنا الملك فيصل ــ رحمه الله ــ أن نؤخر ابتعاثنا، فقمت بتدريس اللغة الإنجليزية لمدة عام كامل لطلاب المرحلة الابتدائية، ومن الذين درستهم الدكتور عبدالعزيز مدرس، ومحمد أمين مطاوع، وأحمد داغستاني. بعد ذلك غادرنا عن طريق باخرة بحرية إلى السويس وقابلنا في الميناء الأستاذ ولي الدين أسعد وكان مسؤولا عن الابتعاث في مصر، فأخذني مع علوي جفري وحسن نصيف وذهب بنا لعميد كلية الطب في القصر العيني وكانت صدمتنا مبكرة عندما قابلنا عميد الكلية فقال لنا «هي الجامعة العربية جابت لنا البدوان يعملوا إيه هنا» فشكلت كلماته تحديا لنا، وكنا قد عانينا في البداية من وجود الكلية في منطقة العباسية واضطررنا لركوب «الترماي» صباحا إلى العباسية، ومن بعد الظهر كنا نأخذ الأوتوبيس إلى الجيزة حيث توجد جامعة فؤاد الأول ثم نذهب بعدها للقصر العيني، وبعد صبر وعناء وفقنا الله في الالتحاق بالسنة الأولى طب «وكنت طويل لسان ومولعة في قلبي كلمات العميد» فذهبت إليه وقابلته وقلت له: شكرا على استقبالك الطيب لنا في بداية العام، فقد كان لكلماتك وقع السحر على البدو الثلاثة الذين نجحوا في الالتحاق بكلية الطب، وبعد تخرجي من كلية الطب عملت مع الدكتور عبدالله كاتب وكان صديقا لوالدي ــ يرحمه الله ــ وقد وفقت في الحصول على درجة طبيب مقيم زائر في سنة الامتياز، وكانوا يصرفون لي 12 جنيها ولطالب الامتياز ثمانية جنيهات، فكتبت للملك فيصل وأبلغته بالأمر فأمر بأن يصرف لي مبلغ 35 جنيها مصريا وكان مبلغا كبيرا لا يتقاضاه الوزير في مصر آنذاك، وكنت عازما على إكمال رسالة الدكتوراه في الجراحة، ولكن إرادة الله شاءت أن يأتي والدي الى القاهرة للعلاج عام 1969م وتوفي فقمنا بدفنه هناك وعدت من وقتها مع الأهل إلى مكة المكرمة وتم تعييني بقرار من الملك فيصل رئيسا للمطوفين مكان والدي، ثم افتتحت لي عيادة في المسفلة وبدأت فيها عملي كجراح.
الوزارة
• ومن رشحكم لتولي وزارة الصحة؟
رشحني للوزارة الدكتور حسن نصيف وكان وزيرا قبلي.
• هل صحيح أنك عرفت بالخبر قبل إعلانه؟
كنت جالسا في منزلي بعد صلاة العصر منتظرا صلاة المغرب لأذهب إلى عيادتي في حي المسفلة، فجاءني اتصال هاتفي وإذا بزميلي الأستاذ عبدالله بالخير ــ يرحمه الله ــ يقول لي: أبشرك ستصبح غدا وزيرا للصحة، وكنت أظنها مزحة من مزحاته المتكررة، لكنني عرفت صدق الخبر عندما استمعت إلى الراديو وهو يذيع الخبر بعد صلاة العشاء وفوجئت بالمهنئين يتوافدون إلى منزلي، وباشرت عملي بعد عطلة عيد الفطر مباشرة عام 1381هـ.
التغيير
• ولكن فترة وزارتك كانت قصيرة جدا؟
انتهت وزارتي مع التغيير الوزاري الذي جاء بعده تولي الملك فيصل للحكم حيث شكلت وزارة جديدة .
• ولكنك كنت قادرا على التعبير عن رأيك باستقلالية؟
- نعم كانت هناك استقلالية سياسية في التعبير عن الرأي لأي وزير، وما زالت هذه الاستقلالية موجودة.
• الغريب أنك لم تنجرف مع التيار الناصري والقومية العربية عندما كنت في مصر رغم تشبث الكثير من العرب بذلك؟
لم أكن ناصريا ولم أتأثر رغم طول الفترة التي قضيتها في مصر بما كان يحدث من شعارات قومية زائفة، وظل توجهي السياسي لمكة وسيظل إلى أن أموت.
• وماذا استفدت من الوزارة؟
أكثر شيء استفدته من الوزارة هو التعرف على رؤساء الوزراء وقيادة الدول العربية في تلك الفترة ما عدا مصر حيث كانت العلاقة متوترة معها، أما من الناحية المادية فعندما عينت وزيرا كان دخلي ثلاثة أضعاف مرتب الوزارة حيث كنت عضوا في مجلس إدارة ثلاث شركات وطبيبا ورئيسا للمطوفين، وكان الوزير في تلك الأيام يأخذ مرتبا قدره عشرة آلاف ريال.
• ما الذي حققته كوزير صحة في سنة واحدة؟
وفقني الله في تأسيس ثلاثة أشياء رئيسية؛ أولا التطعيم الإجباري، وثانيا وضعت نظاما للطب الشرعي، وأتذكر أنني طلبت من الملك فيصل ــ رحمه الله ــ مبلغ خمسين ألفا لأفتتح به قسم الطب الشرعي، لكنني اصطدمت بسماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ والذي كان يرفض فكرة تشريح الجثث فأخبرته بأنني أخذت الموافقة فقال لي «هي الدولة تسوي شيء بدون إذني»، ومن حسن الحظ أن حصلت جريمة ولم يعرف من هو القاتل فاستعان المفتي برأيي في الموضوع فأخبرته بأن الطب الشرعي يستطيع أن يكتشف ذلك، وكان عندي طبيب سوري على مستوى عالٍ في هذا المجال فحللنا الجثة وعرفنا من قتل الرجل قبل دفنه، فاقتنع سماحته بجدوى هذا الموضوع وتمت الموافقة عليه. وأتذكر أنه ساندني حتى في موضوع دخول النساء في التمريض عندما أسسنا المعهد الصحي للبنات في الرياض وكنت أقول للمفتي محمد بن إبراهيم آل الشيخ، لو كانت زوجة أحدكم مريضة أليس من الأولى لها أن تذهب للتمريض عند امرأة بدلا من رجل فكان يقول: نعم، ومن هنا بدأنا في إدخال الممرضات للكشف على النساء وتم إنشاء معهد التمريض للبنات في الرياض.
• لم تذكر شيئا عن مؤتمر منظمة الصحة العالمية الذي أحرجكم فيه المصريون؟
هذا المؤتمر أهم انجاز حققته المملكة في المجال الصحي أثناء فترة وزارتي وحدث بعد حج عام 1961م وكان رئيس فرع منظمة الصحة العالمية في الاسكندرية هو الدكتور طابا ونظرا لتوتر العلاقات السعودية المصرية تلك الأيام فقد رفضت الحكومة المصرية إعطاء الدكتور طابا الملفات الخاصة بالمؤتمر مع أنه لم يبق على اقامته سوى يومين فأقترحت عليه بالحيلة أن يرسلها الى العاصمة اللبنانية بيروت وهناك كانت الطائرة السعودية بأنتظارهم لنقلهم الى الرياض ، وقد نجح المؤتمر الذي عقد بثلاث لغات (الانجليزية والفرنسية والعربية) نجاحا كبيرا وأصبحت اللغة اللعربية لغة رسمية في منظمة الصحة العالمية.
• هل كانت لديكم أخطاء طبية كما يحدث الآن؟
لم يكن في زماننا أخطاء طبية، بل لم يكن هناك أصلا أطباء سعوديون فأغلب الطاقم في كل المدن السعودية كان من مصر.
• والفساد الإداري؟
الفساد الإداري حتى لو وجد فلن أتحدث عنه لأنني لا أحب أن أطعن في أي شخص من بلدي، ولو وجد شيء فنحن نعالجه ونصلحه لا أن نفضحه.
• هاجمتك الصحافة عندما كنت وزيرا؟
كانوا يبحثوا عن أي غلطة علشان يلسعوك فيها، وكنت أسكت على أشياء كثيرة وأحيانا اتصل بالشخص الذي يشتمنى وأناقشه.
لقاء المؤسس
• التقيت بالملك عبد العزيز قبل أن تصبح وزيرا؟
التقينا به أثناء زيارته إلى مصر وذهبنا في معيته إلى قصر عابدين للقاء الملك فاروق وكانت لحظات لاتنسى بالنسبة لي ، وبعد عودتي من دراسة الطب في مصر زارنا وفد من وزارة الصحة المصرية والتقى في جدة بسمو الأمير عبد الله الفيصل فناداني وقال لي: جماعتك وصلوا وأبغاك تسافر معهم للرياض للقاء جلالة الملك ففرحت بذلك ، وعندما وصلنا للرياض وسلمنا على الملك عبد العزيز قال رئيس الوفد وأتذكر أن اسمه الدكتور العيادي : هذا الهرساني ولدنا ياجلالة الملك، فرد الملك ضاحكا بلهجته البدوية (هذا ولدنا قبلكم) .
• من كان يخطط لوزارة الصحة في تلك الأيام؟
شركات مصرية ولم يكن هناك غيرها، ولكننا بعد فترة استعنا بشركات صينية وفنلندية ومما ينبغي ذكره هنا أن زيارتي لفنلندا فتحت الباب أمام قدوم الحجاج الفنلنديين والمسلمين المتغربين هناك للحج في تلك الفترة حيث التقيت بعدد من أفراد الجالية هناك بعد إحدى الصلوات فأشتكوا لي من معاناتهم مع بناتهم اللاتي يدرسن في المراحل الجامعية ومشاكلهن مع الطلاب الفنلنديين ، وقد أخبرت الملك فيصل بما سمعت فوجهنا لهم الدعوة ومن الطريف أن قدومهم للحج كان في فصل الشتاء وكنا نشكو من البرد وهم يشتكون من الحر نظرا لأنهم يعيشون في الدول الاسكندينافية طيلة العام في درجات منخفضة تحت الصفر.
• لو خيرت بين الطوافة والوزارة فماذا تختار الآن؟
أختار الطوافة كما كانت أيام زمان، عندما كان المطوف «مندوب مكة» في العالم الإسلامي، فالحجاج يأتون باسم المطوف عندما يصلون إلى مكة. والحقيقة أن شرف خدمة الحجاج في مكة يتمناه الكثير من الناس ولك أن تتصور أن الأمير متعب بن عبدالعزيز في أحد أيام الحج كان يقوم بتنظيم عملية السير في منى وكنت أنا خارجا من مستشفى منى، فذهبت للسلام عليه فقال لي: والله ما تروح مكان، فقلت له: ليه طال عمرك، فقال: تعال ساعدني ننظم السير علشان نكسب الأجر، وفي تلك الأيام كان الحجاج يأتون إلى منى للسكن في البيوت.
• تـبـدو غـيــرمـرتــاح لمؤسسات الطوافة حاليا؟
مؤسسات الطوافة يعملون على ما يرونه مناسبا لهم، لكن في السابق كان المطوف هو مندوب الكعبة وكان الحاج إذا أتى إلى مكة يسلم على يد المطوف، أما الآن فالمؤسسات هي التي تسلم على يد الحجاج من شان إحضارهم، وكان عدد الحجاج في تلك الأيام لا يتجاوز 200 ألف حاج ولكن بدأت النسبة تزداد عندما بدأ توافد الأتراك سنة بعد سنة.
• ظاهرة استغلال المرضى ظهرت على السطح كثيرا هذه الأيام، لماذا؟
لم تكن على أيامنا توجد عيادات خاصة عدا عيادتين هما؛ عيادتي أنا وعيادة الدكتور حسن نصيف، وكنا نأخذ على المريض عشرة ريالات قيمة الكشف الطبي، أما الدواء فيصرفه من الصيدليات الخارجية، وبالمقارنة مع ما يحدث الآن فإن تكلفة الخدمة أصبحت عالية، والمستشفيات الأهلية بعضها يقدم خدمة جيدة والبعض الآخر لديهم استغلال واضح لحاجة المرضى.. وقد نقتنع بوجود مصاريف عالية لإحضار الأجهزة والأطباء من دول متقدمة ولكن التكلفة العالية تأتي على ظهر المريض.
• بالرغم من تطور الطب فمازال الناس يتجهون للطب الشعبي؟
الاتجاه للطب الشعبي مسألة طبيعية لأن الناس ألفوا ذلك، وعادة عندما يأتيك مريض يقول لك جربت كذا وكذا، ومن ثم فهو يأتي باحثا عن الحل الأخير.
• على فكرة.. هل ما زلت تصرف الدواء لنفسك؟
كنت أصرفه زمان، أما الآن فلا أحتاج لذلك. والحقيقة أن الأدوية لم تتغير كثيرا لكنها تطورت ولا شك.
• لماذا يقول الناس دائما أن دواء الحكومة يجيب الشفاء؟
لأنه ببلاش وفيه البركة.
• الفقر.. هل كان له دور في ما يحدث للناس من أمراض؟
الفقر زاد عندما منعوا الإقامة في مكة في تلك الأيام لأن الناس كانوا يأكلون ويشربون مع الحجاج وكانت البيوت مفتوحة للجميع، كما كانت هناك التكية المصرية وهي عبارة عن مستوصف من أموال أهل مكة كانت تتولاه الحكومة المصرية بإحضار الدكاترة والممرضين، وكانوا يأتون أيضا بالخبز المصري ليصرفوه لأهالي مكة، فحدث أن التي كانت تدير التكية امرأة اسمها الدكتورة إنصاف وأرادت أن تغادر فطلبت مني القيام بمهامها ولكن لأنني سعودي ولست مصريا فقدت اعترضت على ذلك، فذهبت للأمير عبدالله الفيصل واستأذنته في ذلك فوافق، فقمت بتغيير نظام التكية بالكامل حيث كان الحجز يتم خلال ساعتين صباحا ففتحت الحجز حتى صلاة الظهر وكنت أعطي الأدوية على مدى أسبوع كامل للمرضى فيما كانت تعطى ليوم واحد فقط، وعندما كان يسألني أحد أقول كلمتي المشهورة «علشان لا يتحكموا في أهل مكة»، وأنا أعتبر نفسي مكاويا متعصبا لمكة؛ ولادة ونشأة وتعليما، وكل خير يجينا من وراء حبنا وتعظيمنا لمكة وللبيت الحرام.
• أكثر شيء فقدته بعد مرضك وعجزك عن السير؟
رؤية الكعبة يوم الجمعة، حيث كنت أذهب إلى هناك مبكرا فأشعر أن روحي تعود إلي وأوصي كل إنسان مسلم «لايقطع الكعبة وبيت الله» ففيهما سعادة الدارين.
الزواج
• لزواجك من لبنان قصة لم تروَ؟
ببساطة إجراءات الزواج التي تمت في ذلك الوقت كان الحجاج يأتون إلى بيتنا من بيروت وفي تلك الأيام كنت مسافرا إلى إيران عن طريق بيروت، فقالت لي الوالدة لن تذهب حتى تتزوج، واختارت لي ابنة أحد الحجاج المقيمين عندنا في البيت وكانوا من أسرة كبيرة في لبنان، فقلت لوالدتي «ما حنا قدهم» فقالت لي: بكرة تصير تحت أمرك، وبالفعل جاء من ورائها الخير كله من أولاد وأحفاد.
• وأيش قصة علقة «العدس» التي أخذتها من الوالد يرحمه الله؟
هذه قصة أذكرها لأولادي دائما لأن القسوة في أحيان كثيرة تكون مفيدة لمستقبل الأولاد رغم الألم الذي يشعر به الوالد، ففي يوم غائم ــ وكنت في السنة الرابعة في مدرسة الفلاح ــ اتفقت مع بعض الزملاء على الخروج من المدرسة والتنعم بوجبة الرز والعدس بعد الظهر، وعندما كنا في المنزل جاء طارق من المدرسة يستفسر عن غيابي فأجبته بصوت نسائي أن حامد مريض ولم أكن أعلم أن الوالد كان يسمع حديثنا فناداني في اليوم التالي لأذهب معه وأنا أستغرب عدم حديثه معي في اليوم الأول بشأن ما حدث وكأن شيئا لم يكن، وقد علل ذهابي معه إلى أحد أصدقائه وعدم ذهابي إلى المدرسة بأني مريض، الأمر الذي أفرحني ولم أكن أعلم أنه فخ نصبه لي ــ يرحمه الله ــ حيث سلمني إلى صاحب بيت لأعمل مع العمال في البناء طوال اليوم ولم أتمكن من الفرار إلا ساعة الغذاء وعدت عند توزيع الأجور، فلم يعطني شيئا وجاء والدي بعد ذلك فأمرني بأن أرافق كبير البنائين إلى منزله لأعمل معه صباح اليوم التالي، لكن صديق الوالد عطف علي وتوسل لوالدي أن يعيدني إلى المدرسة ومن يومها لم أتغيب عن حضور أي مادة وكان لهذا الموقف دوره في تفوقي واهتمامي بالعلم.
الندوة
• جئت للندوة مديرا عاما وتركتها ولازالت حتى الأن لم تتعاف لماذا؟
كنت مديرا للندوة وتوليت مسؤوليتها بعد وفاة عبدالله عريف ــ يرحمه الله ــ، ثم جاء أحمد سباعي وكان مديرا لمكتبي فأصبح رئيسا لتحريرها، ولم يكن ينافسنا في تلك الأيام إلا «عكـاظ» و«المدينة»، ولكن للأسف الآن يطلب القائمون على جريدة الندوة أموالا كثيرة والناس لم يعد لديهم فلوس.
• ودعم خادم الحرمين الشريفين لها؟
توقعنا أن يحل كثيرا من الأمور لكن هذا لم يحدث، وأنا أعتقد أن هناك مشكلة اتصال ومودة بين رئيس التحرير ورجال الأعمال.
• يشعر الكثيرون أن «الندوة» لم تقدم ما يشفع لها بالبقاء في الساحة الإعلامية؟
يكفي الندوة أنها قدمت عثمان العمير رئيس صحيفة الشرق الأوسط سابقا.
• ما تفاصيل الموقف المحرج الذي تعرضت له في الطائف وأنت وزير؟
الله يسامحك أنا نسيت هذا الموقف.. وأتذكر أنه حدث أثناء زيارتي لمستشفى الأمراض النفسية في شهار وكان برفقتي معالي الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ وزير المعارف آنذاك وعدد من المسؤولين، وكانت هناك مريضة من موريتانيا موجودة في أحد العنابر ففوجئت بها وقد أصابتها الحالة النفسية وهي ترفع صوتها وتنظر إليّ وتقول لي «هل بلغت الرسالة، هل بلغت الرسالة؟» ثم قبضت على كتفي وكانت ذات بنية قوية وهي تقول «أقبل الرسالة، أقبل الرسالة؟» فأسقط في يدي، وفي تلك اللحظات كان الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ يشاهد المنظر ويضحك بشدة ومن حسن الحظ أن جاء الدكتور أسامة الراضي والعاملون في المستشفى وتم إعطاؤها إبرة مهدئة، ثم التفت حولي لأجد مشلحي في مكان وغترتي في مكان آخر.
• وما هي حكاية «دندن»؟
هذي كانت في السودان عندما سافرنا إلى مدينة «دندن» في أحد الأيام، وكنت قبل السفر قد سألت الملك فيصل: ما هي توجيهاتك لي، فقال لي: أنت اللي توجه وخذ معاك ابني محمد، وفي طريقنا إلى مدينة دندن بطريق البر فوجئنا بقطيع من الأفيال وفي تلك اللحظة فوجئت أن الأمير محمد الفيصل قام من مكانه وجلس بجانبي فقلت له ضاحكا «أيش جابك جنبي وأنت ابن ملك» فقال لي وهو خائف من الفيلة «أنا أخوك الحين» وعندما انصرف القطيع خرجنا فوجدنا أحد الرعاة ومعه بيض نعام فأخذته منه وأحضرته إلى الطائف وعملت منه «لمبات» للزينة.
الوحدة
• متابعتك للرياضة توقفت عند حدود وحدة زمان؟
حبنا للوحدة من حبنا لمكة وأهلها وهذا حب لايتغير ولا يساوم عليه.
• ولكن الوحدة أصبحت مغلوبة دائما؟
الوحدة علمت الناس الكورة، وما يغلبها غلاب لولا الظروف المادية.
• فريق شجعته في مصر التي كانت رائدة كرويا تلك الفترة؟
لم أكن أشجع فريقا معينا في مصر، رغم قرب سكني من نادي الزمالك لأنني كنت أشجع تعليمي فقط وظللت في حالة تحد مع النفس لتحقيق النجاح والحصول على شهادة الطب بعد أن ظل أصحابي في مكة يكررون عبارات «التريقة» ويهزأون من دراستي في مصر ويشككون في نجاحي بقولهم «هذا ولد الهرساني يصير دكتور» فكانت هذه الكلمات تشكل تحديا بالنسبة لي وهو ما وفقني الله فيه.
• ما سر علاقتك بالفنان إسماعيل ياسين؟
سكنت في عمارة الفنان إسماعيل ياسين ــ يرحمه الله ــ في روضة المنيل في الجيزة وكنت التقيه دائما أثناء فترة دراستي في مصر.
• وأم كلثوم؟
كنت سميع لها ومين كان قدها، كانت «ست» بحق وحقيق وكنت أحضر حفلاتها عندما كنت طالبا في كلية طب القصر العيني وكنا ندفع (خمسة ساغ) لدخول الحفلة. وأتذكر أنني في إحدى المرات رأيت الفنانة أسمهان ولم تعجبني وأعتقد أنها قتلت عمدا لعلاقاتها المتشابكة مع عدد من الأشخاص.
• وكم كان مصروفك وأنت طالب في القصر العيني؟
ثلاثة جنيهات شهريا،وكان معنا طباخ من مكة يطبخ لنا مجانا كما كنا نركب المواصلات مجانا أيضا، وكنت أسكن في روضة المنيل المجاورة لقصر عابدين ودخلت القصر مع الملك عبدالعزيز عندما زار مصر في عهد الملك فاروق.
• الغريب أنك ولد تاجر ولم تمارس التجارة؟
حاولت أجربها أكثر من مرة بعد التقاعد ولكنني لم أوفق.
• كلمتك الأخيرة؟
أذكرني بخير في ما تكتب وما تقول عني للناس.