-A +A
صالح عبدالرحمن المانع
ربما يضحك المرء من هذا العنوان، ولكنها الحقيقة بعينها. فهناك وعظ ديني وكلنا يعرف ذلك، فالواعظ الديني يحاول أن يشرح لك مخاطر الحياة الدنيا، ويحبب إليك عمل الخير والتقرب إلى الله، كي تحصل على جزاء الآخرة. وهناك الواعظ السياسي الذي يخلط المسائل الأخلاقية بالمسائل السياسية، ولا يقدم تحليلاً منطقياً للأشياء وللقوى ومصالحها، ولما يمكن فعله وما لا يمكن فعله.
ولقد عشنا فترة حقيقية في منطقة الخليج العربي قبل عامين ونيف حينما كان الوعاظ الاقتصاديون يتقاطرون على شاشات التلفزة ويقنعون الناس بضخ أموالهم في أسواق المال وشراء أسهم الشركات، حتى ظن الفرد منا أن مؤشر سوق المال السعودي سيضرب رقم الثلاثين ألفاً. واستمر الناس في ضخ أموالهم في أسهم شركات ضعيفة وقوية على أمل أن تتعاظم المكاسب المختفية خلف شجرة ليست بالبعيدة. ولكن سرعان ما انفجرت البالونة في وجه الكثيرين وتهاوت أسعار الأسهم إلى مستويات لم تكن معهودة من قبل، وخسرت حوالي 400 ألف عائلة سعودية مدخراتها لما يقرب من عشرين سنة، وأصبحت البنوك تهدد الجميع بدفع القروض المستحقة عليهم، وإلا أجبرتهم على الإفلاس. وفجأة اختفت أسماء الوعاظ الاقتصاديين من شاشات التلفزة، ولم يعد أحد يسمع بأسمائهم ولا يرى صورهم. واليوم انقسم الوعاظ الاقتصاديون إلى قسمين، فمنهم من يرى بأن تراجع الأسواق العالمية، والأزمة المالية ستستمر معنا لمدة ست أو سبع سنوات، على اعتبار ذلك هو طول الفترة التاريخية لدائرة التجارة، التي تنحسر لبضع سنوات، ثم تتوسع لبضع سنوات تليها، ثم ما تلبث أن تنفجر من جديد ليركد الاقتصاد، وتضعف الصناعة، وتقل الأموال في أيدي المستهلكين، حتى تصل الأجور إلى مستويات متدنية تغري بالعودة مجدداً إلى حلقة جديدة من الاستثمار والتوسع الاقتصادي. هذه إذن هي النظرة الاقتصادية الكلاسيكية. وهذا هو منظور المحللين (الوعاظ) الاقتصاديين المحافظين.
أما الطائفة الأخرى من الوعاظ الاقتصاديين فهم يرون أن الأسواق والاستثمارات ربما تتراجع خلال سنة إلى سنتين، غير أنها قادرة بعد ذلك على البدء مجدداً في مزاولة النشاط الاقتصادي. غير أنهم يشعرون أن النشاط الاقتصادي المستقبلي لن يكون في أسواق الولايات المتحدة وأوروبا، بل سيكون في الأسواق الآسيوية، وأسواق الصين والهند على وجه الخصوص التي ستقود القطار الاقتصادي العالمي من جديد، وربما تحتل مكان الصدارة في الإنتاج الصناعي.
حين كنا ندرس مبادئ الاقتصاد، كانوا يقولون لنا إن الاقتصاد علم، وإنه كلما عرفتم وتعلمتم منحنياته وسميتموها بأسمائها المتعارف عليها، فإنكم ستمسكون بتلابيب الحقيقة والمعرفة العلمية. وقادنا هذا الإيمان بقدرة الاقتصاديين على معرفة كنه المستقبل إلى قبول رواياتهم ووعظهم اليومي، سواءً على شاشات التلفاز أو عبر الكلمة المقروءة.
واليوم فإن العالم كله قد استيقظ على هذا الحلم المزعج، وبات يدرك أن التراجع الاقتصادي وإن كان مرتكزاً على معطيات اقتصادية، فإنه قد أضرّ وتسارع وكثر ضحاياه بناءً على نصائح الاقتصاديين، ووعظ مديري البنوك ومروجي السندات والاستثمارات الحقيقية منها، أو الوهمية.
والوعاظ الاقتصاديون ليسوا من الدراويش، بل يتبوأ بعضهم مراكز رفيعة في بنوك وشركات ومؤسسات مالية حكومية. وحين تقع الفأس بالرأس، نجد أن هؤلاء الوعاظ ينتحون جانباً، ويقولون بأن المستهلكين وصغار المستثمرين قد أهملوا دراسة الجدوى الاقتصادية لاستثماراتهم، وإن عليهم أن يتحملوا نتائج قراراتهم الطائشة.
وحين تناقش كيف يمكن للسلطات أن تتجاهل انهيار الطبقة الوسطى وزوال مدخرات مئات الآلاف من العائلات، ترى أن جوابهم أن السلطات غير مسؤولة عن الأسواق، خاصة الأسواق المالية، ومن المتضررين في المضاربة، أو الاستثمار في أسواق المال. غير أن هؤلاء الوعاظ لا يجدون حرجاً في طلب مساعدة الحكومات إذا ما تعرضت الشركات الكبرى من بنوك ومؤسسات مالية، أو شركات عقارية إلى تراجع أرباحها والتهديد بانهيارها. ويقلعون في الحالة الثانية من جلابيب الزهد الديني الاقتصادي، ويطالبون بالتدخل الفوري للسلطات الحكومية في إنقاذ هذه البنوك والشركات من أجل عدم إشهار إفلاسها. وتضخ الحكومات بلايين الدولارات في صناديق هذه البنوك والشركات مع أن قرارات مديري هذه الشركات، لم تكن أصلاً قرارات صائبة سواءً في وضع استثمارات مساهميها أو كبار ملاكها، أو حتى في إقراض صغار المستهلكين لتملك عقارات وشقق فاقت أسعارها الاسمية الأسعار الحقيقية لهذه العقارات والممتلكات.
وهكذا وبينما كان الوعاظ الاقتصاديون يبيعون سلعتهم بصوت عال في كل القنوات الفضائية قبل عامين، فقد تحول بعض منهم إلى الزهد والقنوت هذه الأيام بزوال الأيام العصيبة خلال سنوات يوسف السبع العجاف المقبلة، أو هكذا يقولون.

للتواصل ارسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي تبدأ بالرمز 119 مسافة ثم الرسالة