-A +A
توفيق السيف
لو كان السودان قويا أو كان العالم العربي موحد الموقف لما وجه الاتهام الدولي الى الرئيس السوداني. وأمامنا أمثلة قريبة من الولايات المتحدة التي أصرت على استثناء مواطنيها من أي إجراءات للمحكمة الدولية، الى اسرائيل التي لم يقدم أي من مواطنيها الى المحكمة رغم اتفاق مئات القانونيين في العالم على أن بعض ما فعلته في الاراضي الفلسطينية وفي سيناء ولبنان ينطبق عليه وصف الابادة الجماعية أو جريمة الحرب أو الجريمة ضد الإنسانية. وضع السودان مختلف عن الولايات المتحدة واسرائيل لأنه ضعيف في ذاته وهو ضعيف لأن علاقاته مع الجوار ليست على ما يرام، ولأن النظام الإقليمي العربي والافريقي ليس فعالا بما يكفي لإعاقة قرار دولي تقف وراءه دول كبرى.
قد لا يقدم الرئيس البشير الى المحكمة الدولية، فللسياسة دائما مداخل ومخارج ومسارات غير تلك المعروفة في القانون والقضاء. لكن قرار الاتهام بذاته هو إعلان عن بداية حملة حصار وضغط على الحكومة السودانية، ستطال آثارها المواطن العادي فضلا عن النخبة وقطاع الأعمال. خلال السنوات الماضية اعتمد السودان على الشركات الآسيوية ولا سيما الصينية في تنفيذ مشاريع البنية التحتية. وليس من المقدر أن تتعرض هذه لمشكلات جوهرية. لكن القطاع المالي والتكنولوجي سوف يتعرض ربما لضغوط قاسية. ويسعى السودان لتحديث نظامه الاقتصادي ولا سيما قطاع البترول، وهذا يعتمد الى حد كبير على منتجات أو تقنيات أو قنوات تمويل غربية، سوف تستهدف قطعا في أي اجراءات عقابية تفرضها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
امام السودان خيارات محدودة للخروج من الأزمة أو تخفيف آثارها على أقل التقادير. أقرب الخيارات وإن لم يكن أكثرها جدوى هو المطارحة القانونية مع المحكمة الدولية، بتقديم احتجاجات وادلة مضادة لتلك التي تضمنها ملف الاتهام، وخصوصا فيما يتعلق بدور الجيش في مأساة دارفور. توجيه الاتهام الى رئيس الجمهورية معلل بكونه القائد العام للقوات المسلحة والمشرف الفعلي على الجيش. كما يستدعي الأمر تقديم عدد من رجال السياسة للتحقيق المحلي العلني وربما المحاكمة. وأظن أن محكمة سودانية خالصة قد لا توفر الاطمئنان لدى المدعين الدوليين، لكن ربما امكن وضع ترتيب لإضفاء لمسة دولية عليها من خلال الاستعانة بمستشارين أجانب ضمن ترتيبات سياسية مع حكومات وسيطة. هذه الخطوات سوف لن تلقى صدى في الدول التي تساند الاتهام ما لم تترافق مع حملة علاقات عامة تتركز في المقام الأول على الدول القادرة على إعاقة المحاكمة الدولية مثل روسيا والصين.
ثمة خيار أكثر صعوبة لكنه أعمق أثرا، وهو يتطلب تضحيات من زعماء الحكومة بالذات. هذا الخيار هو توسيع القاعدة السياسية للنظام من خلال إقامة حكومة وحدة وطنية تضم جميع القوى السياسية ذات التأثير، بما فيها تلك التي تعادي الحكومة، ثم تفويضها معظم صلاحيات رئيس الجمهورية، ولا سيما سلطته كقائد عام للقوات المسلحة، فضلا عن ملف المفاوضات مع متمردي دارفور. يمكن أن يتم ذلك ضمن صفقة غرضها الأساس هو الحيلولة دون الوصول لرئيس المحكمة الدولية. من المفهوم أن هذا سيقضي على المستقبل السياسي للحكومة الحالية، لكنه من ناحية أخرى سيحول دون المحاكمة، كما سيحول دون تعرض السودان لعقوبات مضاعفة، لا سيما في هذا الوقت الحرج الذي تتراجع فيه عائدات البترول والاستثمارات الأجنبية.
يمكن بطبيعة الحال أن تواصل الحكومة سياساتها الراهنة، لكن موقفها في المفاوضات الحالية مع متمردي دارفور سيكون ضعيفا، كما ستحمل الشعب السوداني أعباء اقتصادية وربما أمنية غير ضرورية.
أيا كان الخيار الذي سوف تتبناه الحكومة، فإن التركيز على الجانب التنموي والعمراني في ولاية دارفور المتوترة، سوف يحيد جانبا هاما من الضغوط. من المؤسف أن الحكومة لم تتخذ إجراءات جوهرية رغم مضى حوالي عقد على تفجر المشكلة، وعليها الآن أن تقوم بجهد مضاعف لتعويض ما مضى من تقصير.
talsaif@dms-ksa.com

للتواصل ارسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي تبدأ بالرمز 109 مسافة ثم الرسالة