تناولت بعض وسائل الإعلام الغربية حضور رئيس الوزراء الأثيوبي (ميليس زيناوي) بالاستغراب تارة، وبالسخرية تارة أخرى. ففي معرض الاستغراب انصبّت التحليلات على الغرض من دعوة (زيناوي) للمؤتمر مع أن دولته لا تعتبر أكبر أو أهم دولة أفريقية من الناحية الاقتصادية ولا أكثرها سكّاناً ولا موقعاً جغرافياً أو مكانة إقليمية، كما أثيرت تساؤلات كثيرة عن مغزى دعوة زيناوي مع التجاهل الواضح لمصر ودورها الإقليمي المحوري سواء على المستوى العربي أو الإفريقي. وفي معرض السخرية ترددت آراء عن ضرورة وجود (شحّاذ) أفريقي لتذكير الحاضرين من زعماء الدول المتخمة بالثراء والنعمة بحال المعذّبين في الأرض من الشعوب الأقل حظاً. وفي إحدى المقالات الطريفة الساخرة نجد كاتباً يحلل صورة جماعية عفوية أخذت للزعماء قبيل افتتاح المؤتمر، فيلاحظ أن الجميع كانوا يتبادلون الحديث والابتسامات ويديرون أكتافهم لزيناوي الذي شدّ كتفيه وضم ذراعيه على صدره كأنما هو يستعدّ للصلاة في توتر ظاهر يبدو أن صاحبه يدرك أن هذا المكان ليس مكانه.
والحقيقة أن كل من تناول مشاركة رئيس الوزراء الأثيوبي بالسخرية أو الاستغراب يتجاهل دور بلاده الاستراتيجي ضمن منظومة الهيمنة الغربية في منطقة القرن الأفريقي. فأثيوبيا الحديثة عرفت عبر تاريخها الطويل منذ آخر أباطرتها (هيلاسي لاسي) بالذراع الغربية الطويلة التي يتم تحريكها عند الحاجة لتنفيذ سياسات محددة في القرن الأفريقي، ابتداء من التعاون مع إسرائيل بتمكينها من التواجد العسكري في بعض جزر مضيق باب المندب لإبقائه مفتوحاً في وجه الملاحة الإسرائيلية تحت أية ظروف وحتى لا تجرؤ البحرية المصرية على الإقدام على إغلاق المضيق مرّة أخرى كما فعلت من قبل أثناء حرب أكتوبر 1970م. ومروراً باستخدام أثيوبيا في انتزاع صحراء (أوجادين) من الصومال بهدف إيجاد مساحة جغرافية كافية لنشر قوّات عسكرية برية لحلف شمال الأطلسي في أرض صديقة عند الحاجة. ومازالت الذراع الأثيوبية تستخدم في إشاعة الفوضى وتدمير بنية الدولة في الصومال عند الحاجة. والحقيقة أن مبرر تدخّل أثيوبيا في الصومال واحتلاله بتوجيه أمريكي منذ عدّة سنوات كان مكافحة الإرهاب وتخليص الصومال من حكم جماعة (المحاكم الإسلامية) المتهمة بإيواء وتشجيع الإرهاب لم يعد مفهوماً في ضوء الانسحاب من الصومال وتسليم الحكم مرّة أخرى لزعيم المحاكم الذي كان عدواً منذ عدّة أشهر ومطارداً بصفته زعيماً للإرهابيين. لا أجد أي تفسير لما حدث سوى رغبة الأطلسي بالاستمرار في تدمير بنية الدولة في الصومال وعدم السماح لها بالاكتمال والاستقرار تحت حكومة مركزية قوية يمكن أن تمنع القرصنة المتنامية في بحار المنطقة والتواجد المشبوه لأساطيل الحلف بدعوى مقاومتها.
ولا ينتهي الدور الأثيوبي على مستوى القرن الأفريقي بل يتعدى ذلك نحو دور استراتيجي أكبر أهمية يتمثل في استخدام أثيوبيا كمخلب قط منذ أمد بعيد للتأثير الاقتصادي والأمني على مصر والسودان من خلال التحكم بجريان الماء في حوض النيل الممتد من المنابع الأثيوبية إلى البحر المتوسط. وكما هو معروف بأن (85%) من الماء الذي يجري في الجزء من نهر النيل الذي يجري في السودان ومصر يأتي من النيل الأزرق المنحدر من الهضبة الأثيوبية. وأثيوبيا هي الدولة الأفريقية المتزعمة بتشجيع من الأطلسي وإسرائيل لقضية نقض معاهدة توزيع ماء النيل التي فرضتها بريطانيا لصالح دولتي المصب (مصر والسودان) أثناء فترة استعمارها للمنطقة. وترى أثيوبيا ودول المنبع السبع الأخرى أن معادلة توزيع ماء النيل غير عادلة وترغب في الإقدام على تنفيذ شبكات سدود كبرى مشابهة لتلك التي تنفذها تركيا على نهر الفرات لزراعة مساحات كبيرة من الأراضي بالمحاصيل المستهلكة لكميات كبيرة من الماء مثل (الأرز) وتوليد الطاقة الكهربائية وبيعها للدول الأفريقية الأخرى التي تحتاجها مثل الصومال وأريتريا وجنوب أفريقيا.
ولكن كل هذه الأبعاد معروفة مسبقاً ولا تبرر دعوة زيناوي لقمّة العشرين ما لم تكن هناك مستجدات دعت (الحكومة البريطانية) رئيسة المؤتمر لهذا العام إلى دعوته في اللحظات الأخيرة؟ أول تلك المستجدّات اكتشاف أن أفريقيا ليست ممثلة على الإطلاق ضمن مجموعة العشرين، وبدلاً من استدعاء مصر أو المغرب لجأ الإنجليز بدهائهم المعروف للرسميات الأساسية فتم استدعاء رئيس وزراء أثيوبيا للمؤتمر بصفة بلاده الرئيسة الحالية لمنظمة (الشراكة الجديدة –مع الغرب- للتنمية الأفريقية NEPAD).
وفي الحقيقة أن هذه دعوة حق أريد به باطل، ولم يكن الهدف منها دعوة زيناوي بهذه الصفة بقدر ما أريد من ورائها توجيه رسالة خاصة للدول العربية الأفريقية المعنية بدليل أن الرسميات البحتة البريئة تستدعي دعوة (العقيد القذّافي) بصفته الرئيس الحالي للمنظمة الأفريقية الأهم (الاتحاد الأفريقي) التي تعتبر منظمة الشراكة واحدة من منظماتها الفرعيّة. ولكن يبدو أن الدعوة وجهت لزيناوي لثلاثة أسباب أحدها أن زيناوي يمكن أن ينظر إليه بصفته ممثلاً لأفريقيا (السوداء) غير العربية والرسالة هنا تقول أن أفريقيا في نظر الغرب تنقسم إلى (سوداء وبيضاء) وأن المقدّم لديهم فيها (السوداء). والسبب الثاني هو التقليل من شأن مصر ودورها التاريخي والإقليمي بسبب مواقف قيادتها أثناء الهجوم الإسرائيلي على غزّة، ورفضها تحمل أي مسؤوليات عن قوات الاحتلال الإسرائيلي للتغطية على حجم الجريمة التي ارتكبها أمام الرأي العام العالمي، أو فتح المعابر لتفريغ القطاع من سكانه، أو حتى السماح بنشر مراقبين أوروبيين على خط الحدود الفاصلة بين رفح المصرية وقطاع غزّة، واعتبار ذلك خطاً أحمر غير قابل للنقاش أو الحوار. أما السبب الثالث لدعوة زيناوي فهو استقباله للرئيس السوداني عمر حسن البشير في عاصمة بلاده (أديس أبابا) بالرغم من مذكرة التوقيف التي أصدرتها محكمة الجزاء الدولية بحقه، مما أدى إلى قرع أجراس الخطر لدى الحلفاء الأوروبيين من أن زيناوي قد يقدّم أفريقيته على تحالفاته في خضمّ إحساسه بالخيبة والضياع نتيجة لتخلي الحلفاء الأوروبيين عنه وعن بلاده وعدم مكافأته بسخاء بعد انتهاء دور قواته العسكري المرسوم لها في الصومال وعودة أفراد جيشه إلى بلادهم التي تطحنها الأزمة الاقتصادية العالمية دون تدخل إيجابي يذكر، مما قد يقود إلى مزيد من التناحر الداخلي والتمرد من جبهات تحرير (أورومو) و (أوجادين) إضافة إلى مزيد من الجرأة للجيران الأريتريين والكينيين والسودانيين على إشعال فتيل النزاعات الحدودية التي مازالت قائمة فيما بينهم وبين أثيوبيا حتى هذه اللحظة.
ورغم أننا لا نعرف حتى الآن حجم الوعود وفحوى التعليمات التي تلقّاها رئيس الوزراء الأثيوبي على هامش قمّة العشرين، إلا أنه من الواضح أن زيناوي حظي بلفتة وفاء نادرة من حلفاء لم يعتادوا الوفاء في تعاملهم مع زعماء العالم الثالث مما يوحي بأن دوره لم ينته بعد وأن الحاجة مازالت قائمة لخدماته مما يمنحه مزيداً من الاطمئنان على مستقبل سلطته وحجم الدعم الاقتصادي المتوقع لبلاده. ولعل هذا الاطمئنان كان وراء التأجيل الثاني للاجتماع الدوري للجنة العليا للتنسيق بين السودان وأثيوبيا الذي كان من المقرر أن يترأس جلساته البشير وزيناوي في وقت سابق من الأسبوع الماضي، ولم يحدد تاريخ جديد لانعقاده حتى الآن. ولربما نرى قريباً تطورات جديدة غير متوقعة في منطقة القرن الأفريقي وحوض النيل يكون لأثيوبيا فيها دور محوري نتيجة للتفاهمات التي تمّت مع زيناوي على هامش قمّة العشرين.
Altawati@yahoo.com
للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي تبدأ بالرمز 130 مسافة ثم الرسالة
والحقيقة أن كل من تناول مشاركة رئيس الوزراء الأثيوبي بالسخرية أو الاستغراب يتجاهل دور بلاده الاستراتيجي ضمن منظومة الهيمنة الغربية في منطقة القرن الأفريقي. فأثيوبيا الحديثة عرفت عبر تاريخها الطويل منذ آخر أباطرتها (هيلاسي لاسي) بالذراع الغربية الطويلة التي يتم تحريكها عند الحاجة لتنفيذ سياسات محددة في القرن الأفريقي، ابتداء من التعاون مع إسرائيل بتمكينها من التواجد العسكري في بعض جزر مضيق باب المندب لإبقائه مفتوحاً في وجه الملاحة الإسرائيلية تحت أية ظروف وحتى لا تجرؤ البحرية المصرية على الإقدام على إغلاق المضيق مرّة أخرى كما فعلت من قبل أثناء حرب أكتوبر 1970م. ومروراً باستخدام أثيوبيا في انتزاع صحراء (أوجادين) من الصومال بهدف إيجاد مساحة جغرافية كافية لنشر قوّات عسكرية برية لحلف شمال الأطلسي في أرض صديقة عند الحاجة. ومازالت الذراع الأثيوبية تستخدم في إشاعة الفوضى وتدمير بنية الدولة في الصومال عند الحاجة. والحقيقة أن مبرر تدخّل أثيوبيا في الصومال واحتلاله بتوجيه أمريكي منذ عدّة سنوات كان مكافحة الإرهاب وتخليص الصومال من حكم جماعة (المحاكم الإسلامية) المتهمة بإيواء وتشجيع الإرهاب لم يعد مفهوماً في ضوء الانسحاب من الصومال وتسليم الحكم مرّة أخرى لزعيم المحاكم الذي كان عدواً منذ عدّة أشهر ومطارداً بصفته زعيماً للإرهابيين. لا أجد أي تفسير لما حدث سوى رغبة الأطلسي بالاستمرار في تدمير بنية الدولة في الصومال وعدم السماح لها بالاكتمال والاستقرار تحت حكومة مركزية قوية يمكن أن تمنع القرصنة المتنامية في بحار المنطقة والتواجد المشبوه لأساطيل الحلف بدعوى مقاومتها.
ولا ينتهي الدور الأثيوبي على مستوى القرن الأفريقي بل يتعدى ذلك نحو دور استراتيجي أكبر أهمية يتمثل في استخدام أثيوبيا كمخلب قط منذ أمد بعيد للتأثير الاقتصادي والأمني على مصر والسودان من خلال التحكم بجريان الماء في حوض النيل الممتد من المنابع الأثيوبية إلى البحر المتوسط. وكما هو معروف بأن (85%) من الماء الذي يجري في الجزء من نهر النيل الذي يجري في السودان ومصر يأتي من النيل الأزرق المنحدر من الهضبة الأثيوبية. وأثيوبيا هي الدولة الأفريقية المتزعمة بتشجيع من الأطلسي وإسرائيل لقضية نقض معاهدة توزيع ماء النيل التي فرضتها بريطانيا لصالح دولتي المصب (مصر والسودان) أثناء فترة استعمارها للمنطقة. وترى أثيوبيا ودول المنبع السبع الأخرى أن معادلة توزيع ماء النيل غير عادلة وترغب في الإقدام على تنفيذ شبكات سدود كبرى مشابهة لتلك التي تنفذها تركيا على نهر الفرات لزراعة مساحات كبيرة من الأراضي بالمحاصيل المستهلكة لكميات كبيرة من الماء مثل (الأرز) وتوليد الطاقة الكهربائية وبيعها للدول الأفريقية الأخرى التي تحتاجها مثل الصومال وأريتريا وجنوب أفريقيا.
ولكن كل هذه الأبعاد معروفة مسبقاً ولا تبرر دعوة زيناوي لقمّة العشرين ما لم تكن هناك مستجدات دعت (الحكومة البريطانية) رئيسة المؤتمر لهذا العام إلى دعوته في اللحظات الأخيرة؟ أول تلك المستجدّات اكتشاف أن أفريقيا ليست ممثلة على الإطلاق ضمن مجموعة العشرين، وبدلاً من استدعاء مصر أو المغرب لجأ الإنجليز بدهائهم المعروف للرسميات الأساسية فتم استدعاء رئيس وزراء أثيوبيا للمؤتمر بصفة بلاده الرئيسة الحالية لمنظمة (الشراكة الجديدة –مع الغرب- للتنمية الأفريقية NEPAD).
وفي الحقيقة أن هذه دعوة حق أريد به باطل، ولم يكن الهدف منها دعوة زيناوي بهذه الصفة بقدر ما أريد من ورائها توجيه رسالة خاصة للدول العربية الأفريقية المعنية بدليل أن الرسميات البحتة البريئة تستدعي دعوة (العقيد القذّافي) بصفته الرئيس الحالي للمنظمة الأفريقية الأهم (الاتحاد الأفريقي) التي تعتبر منظمة الشراكة واحدة من منظماتها الفرعيّة. ولكن يبدو أن الدعوة وجهت لزيناوي لثلاثة أسباب أحدها أن زيناوي يمكن أن ينظر إليه بصفته ممثلاً لأفريقيا (السوداء) غير العربية والرسالة هنا تقول أن أفريقيا في نظر الغرب تنقسم إلى (سوداء وبيضاء) وأن المقدّم لديهم فيها (السوداء). والسبب الثاني هو التقليل من شأن مصر ودورها التاريخي والإقليمي بسبب مواقف قيادتها أثناء الهجوم الإسرائيلي على غزّة، ورفضها تحمل أي مسؤوليات عن قوات الاحتلال الإسرائيلي للتغطية على حجم الجريمة التي ارتكبها أمام الرأي العام العالمي، أو فتح المعابر لتفريغ القطاع من سكانه، أو حتى السماح بنشر مراقبين أوروبيين على خط الحدود الفاصلة بين رفح المصرية وقطاع غزّة، واعتبار ذلك خطاً أحمر غير قابل للنقاش أو الحوار. أما السبب الثالث لدعوة زيناوي فهو استقباله للرئيس السوداني عمر حسن البشير في عاصمة بلاده (أديس أبابا) بالرغم من مذكرة التوقيف التي أصدرتها محكمة الجزاء الدولية بحقه، مما أدى إلى قرع أجراس الخطر لدى الحلفاء الأوروبيين من أن زيناوي قد يقدّم أفريقيته على تحالفاته في خضمّ إحساسه بالخيبة والضياع نتيجة لتخلي الحلفاء الأوروبيين عنه وعن بلاده وعدم مكافأته بسخاء بعد انتهاء دور قواته العسكري المرسوم لها في الصومال وعودة أفراد جيشه إلى بلادهم التي تطحنها الأزمة الاقتصادية العالمية دون تدخل إيجابي يذكر، مما قد يقود إلى مزيد من التناحر الداخلي والتمرد من جبهات تحرير (أورومو) و (أوجادين) إضافة إلى مزيد من الجرأة للجيران الأريتريين والكينيين والسودانيين على إشعال فتيل النزاعات الحدودية التي مازالت قائمة فيما بينهم وبين أثيوبيا حتى هذه اللحظة.
ورغم أننا لا نعرف حتى الآن حجم الوعود وفحوى التعليمات التي تلقّاها رئيس الوزراء الأثيوبي على هامش قمّة العشرين، إلا أنه من الواضح أن زيناوي حظي بلفتة وفاء نادرة من حلفاء لم يعتادوا الوفاء في تعاملهم مع زعماء العالم الثالث مما يوحي بأن دوره لم ينته بعد وأن الحاجة مازالت قائمة لخدماته مما يمنحه مزيداً من الاطمئنان على مستقبل سلطته وحجم الدعم الاقتصادي المتوقع لبلاده. ولعل هذا الاطمئنان كان وراء التأجيل الثاني للاجتماع الدوري للجنة العليا للتنسيق بين السودان وأثيوبيا الذي كان من المقرر أن يترأس جلساته البشير وزيناوي في وقت سابق من الأسبوع الماضي، ولم يحدد تاريخ جديد لانعقاده حتى الآن. ولربما نرى قريباً تطورات جديدة غير متوقعة في منطقة القرن الأفريقي وحوض النيل يكون لأثيوبيا فيها دور محوري نتيجة للتفاهمات التي تمّت مع زيناوي على هامش قمّة العشرين.
Altawati@yahoo.com
للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي تبدأ بالرمز 130 مسافة ثم الرسالة