تركنا الأخ سليمان الضحيان الأسبوع المنصرم، وبدنه يقشعر من قولي: إن «سلامة القرآن من النقص والزيادة، مما يندرج تحت اليقينيات المعلومة بالضرورة من دين الإسلام» وقد كنت أنتظر من الضحيان شكراً وتقديراً نظير تذكيره بتلك البدهية التي غفل عنها في غمرة اندفاعه للذب عن الجابري. لكن يبدو أن الأستاذ لم يكن بحاجة إلى مجرد تذكير وحسب؛ إذ من الواضح أن المسألة كلها لم تكن قد مرت بخاطره من قبل. أو أنها معلومة قديمة طمرتها (القراءات المتفحصة) لكتب الجابري. الضحيان فوجئ بتلك البدهية الشرعية، فهب مستنكراً، وكتب يقول: إن ما قاله الشويقي «جرأة عظيمة تقشعر منها الأبدان»، وذكر أنه «لم يتوقع ممن هو متخصص بالعقيدة أن يقع بمثل هذه الزلة العظيمة». وتساءل الأستاذ «أي باب للتكفير فتحه الأستاذ الشويقي -المتخصص بالعقيدة- بهذا التقرير الفاسد المخيف؟!!»، «الخطير» «الشنيع» «المخيف»، «البدعي»...إلخ.
هذا ما قاله الضحيان، ولقد تساءلت –ولازلت أتساءل-: كيف لم يقشعر بدن الأستاذ وهو يقرأ ويسمع بأذنه قول الجابري: إن من الجائز أن يكون في القرآن نقص وزيادة؟! فبلية الجابري هذه يقول عنها الأستاذ بكل نعومة و حنان: «هذا من وجهة النظر الشرعية خطأ كبير. وقصارى القول فيه إنه شبهة تنتقد على الجابري، ويـرد عليه بأسلوب علمي محكم بعيد عن الإثارة وتحشيد العوام واستعدائهم، والتهويل بالفتاوى».
هذه النعومة يتعامل بها الاخ مع من يشكك في سلامة القرآن من الزيادة والنقص. أما من يعتبر سلامة القرآن مسألة ضرورية قطعية يقينية، فإن قوله: «جرأة عظيمة تقشعر منها الأبدان، ومنهج فاسد، ومخيف، وشنيع، وبدعي، وخطير ...إلخ». فهل علي لوم بعد هذا حين حذرت الأستاذ من منهج (جماعة عمى الألوان)، التي اختلت موازينها الشرعية، وأصيبت بالحول الفكري المستعصي، والرمد الثقافي المزمن؟!
حسنا -: «أستغفر الله وأتوب إليه. القرآن ليس مقطوعاً بصحته، ولا مجزوماً بسلامته من الزيادة و النقصان. بل ذلك كله محل شك وتردد، إكراماً لعيني الإمام الجابري». هل هذا ما تريد أن أقوله حتى تجف دموعك، و لا يقشعر بدنك، وحتى تنام قرير العين، هادئ البال؟ إن كان هذا ما تريده، فأنا أعتذر إليك من إجابة مطلبك، فكتاب الله أعز علي منك ومن الجابري، و من سائر المرتابين.
تناقض آخر
ظل الضحيان يتساءل: لماذا لا يحكم الشويقي على الجابري بالكفر؟ لماذا لا يصدع بالحق ولا تأخذه في الله لومة لائم؟. هذا السؤال لو طرحه شاب غر لفهمنا دوافعه. لكن حين يطرحه ويلح عليه أستاذ جامعي، يقول إنه «يدافع عن الوسطية والاعتدال»، فهنا تتشكل أمامنا علامة استفهام كبيرة، حول طبيعة تلك الوسطية التي يلوكها قلم الأستاذ، وهل هي منهج راسخ ورؤية صادقة، أو هي مجرد شعار يرفعه في وجه من انتقد تفريطه في الحمية لكتاب الله. والعجيب أنه في لقائه مع (قناة الحرة) اعترض على إتاحة الحكم بالتكفير لآحاد المفتين، و ذكر أن هذا النوع من الفتاوى مما يتعين تقنينه، بحيث لا يفتي به كل أحد. لكنه الآن يعود ليطالب الشويقي بألا تأخذه في الله لومة لائم، فيصدر فتياه بكفر الجابري! فلتضف هذه المسألة إلى ملف تناقضات الأستاذ التي لا تبدو لها نهاية.
أعجب من هذا وأغرب أن الشيخ البراك قال في فتياه المشهورة: «أجمع المسلمون على كفر من زعم تحريف القرآن أو جوز ذلك». قاله الشيخ تعليقا على دعوى الجابري جواز حصول نقصان في القرآن. وقد سمعنا الأستاذ على (قناة الحرة) يقول: «حتى نكون عادلين، واضح أن الشيخ البراك لم يكفر الجابري». ثم استدرك الأستاذ وتحدث عن مشكلة المتلقين للفتوى من الصغار والعوام الذين سيفهمون أن الشيخ حكم بكفر الجابري. فلنجمع كلام الأستاذ هذا، مع تصرفه حين استنبط تكفيري للجابري من قولي إن آراءه تعد «منازعة في ضروري من ضروريات الدين»، فقد عد الأستاذ هذه الكلمة تكفيراً للجابري (بلا شك!). فها نحن نرى أستاذنا الجامعي ينزل لمستوى فهم العوام وصغار المتلقين!
رأي أهل الفتيا
شرحت في مقالتي السابقة أن الحكم بمخالفة فلان لضروري من ضروريات الدين، لا يعني بالضرورة الحكم عليه بالكفر، وإن كان على خطر منه. لكن أستاذنا (الوسطي!)، له رأي آخر مختلف. فمن رأيه أن من شرط الذب عن الضروريات الشرعية الدخول في إطلاق الأحكام على مخالفيها!! و أنه لا يسع أحداً الإمساك عن الدخول في الحكم بتكفير من ثبتت مخالفته لشيء من قطعيات الشريعة! فوسطية أستاذنا قد وضعتنا بين خيارين لا ثالث لهما: فإما التنكر للحقيقة الشرعية، والتنازل عن القطع واليقين بسلامة القرآن من الزيادة والنقصان. وإما الإعلان عن مروق الجابري من دين الإسلام!! أما كاتب هذه الأحرف، فلأجل عدم إيمانه بتلك الوسطية العوجاء، فقد اختار لنفسه الاقتصار على البحث في القدر المجمع عليه، وهو «أن سلامة الكتاب العزيز من الزيادة والنقصان ضرورة شرعية قطعية يقينية». فإن كان هذا السلوك لا يروق لأستاذنا، وكان يريد حكماً على الجابري نفسه فتلك دار الإفتاء تعرض نفسها إن كان لم يزل يثق برأيها. ونصيحتي له إن اختار ذلك أن يعد نفسه للمزيد من النواح واللطم، قبل أن يسمع رأي أهل الفتيا. فنحن نتحدث عن تشكيك في كمال كتاب الله، ولسنا نبحث في حكم من لا يشرب اللبن في الصباح.
في ظني أن الدكتور بطريقته تلك يضر بالجابري من حيث أراد الدفاع عنه. لأن الجابري حين مس كتاب الله بالتشكيك في كمال نصه، يكون قد جاوز حدود الخلاف السائغ والمحتمل، ودخل دائرة مظلمة ترشحه ليكون موضوعاً لفتاوى لا أظنها ستروق لا للجابري نفسه، ولا لمريديه الذين أهلكهم الدفاع عن أوابده. وليقرأ الأستاذ –إن أحب- هذه الفتاوى التي وقع عليها أعيان أهل العلم و(الوسطية الحقة) في زماننا، حتى يدرك حجم المسألة التي يخوض فيها بغير علم.
ففي فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء (4/9) برئاسة الشيخ ابن باز –رحمه الله-: «من قال: إن القرآن غير محفوظ (وهذا أقل ما قال به الجابري بإقرار الأستاذ)، أو دخله شيء من التحريف أو النقص، فهو ضال مضل، يستتاب فإن تاب وإلا وجب على ولي الأمر قتله مرتداً». فليقرأ الأستاذ هذه الفتيا، وليقشعر بدنه، ثم ليرفع صوته بالنواح واللطم من منهج ابن باز «الفاسد»، «الخطير» «الشنيع» «المخيف»، وليتحدث ما شاء عن باب «التكفير البدعي» الذي فتحه ابن باز على الأمة! فإذا انتهى الأستاذ من نواحه وجف الدمع من مآقيه، فليرجع لفتيا أخرى «مخيفة» و«خطيرة» و«شنيعة» و«بدعية» و«فاسدة» صدرت من اللجنة الدائمة (22/240)، تنص على أن «من شكك بحفظ القرآن من التغيير والتبديل (كما فعل الجابري)، فهو كافر». والفتيا –أيضاً- عليها توقيع أعيان أهل العلم وأعلامهم: الشيخ ابن باز، و آل الشيخ، والفوزان، وبكر أبو زيد، والغديان .
فهل هذا المسار في الحوار، هو ما يريده الأستاذ؟
ولا يذهبن الظن إلى أن تلك الفتاوى تعبر عن رأي محلي، بل هي تصدر عن إجماع إسلامي مشهور، لم يخرج عنه سوى غالية الروافض. وهناك الكثير من الفتاوى المماثلة من خارج البلد تصب في المعنى نفسه، إن عجز الأستاذ عن تطلبها أرشدته إليها. أما إن أراد الأستاذ شيئاً من كلام القدماء، فهو كثير لا يقدح في شهرته جهل الأستاذ به. فمن ذلك قول الإمام البيهقي –رحمه الله-: «من أجاز أن يتمكن أحد من زيادة شيء في القرآن، أو نقصانه منه (وهذا قول الجابري بإقرار الأستاذ)، أو تحريفه، أو تبديله، فقد كذب الله في خبره، وأجاز الوقوع فيه، وذلك كفر». (شعب الإيمان 1/468). وقريب من هذا المعنى قول ابن حزم فيمن جوز أن يكون عثمان أسقط شيئاً من القرآن: «تالله إن من أجاز هذا غافلا، ثم وقف عليه وعلى برهان المنع من ذلك وأصر، فإنه خروج عن الإسلام لا شك فيه». (الإحكام 4/521).
هل يريد المزيد مما يثير بكاءه وأشجانه؟ هناك المزيد والمزيد من مثل تلك الأقوال المشهورة المعروفة المبنية على العلم والبصيرة بدين الله، وليس على التشغيب والمزايدة الإعلامية على ثنائية (التكفير) و(الوسطية). ومع قناعتي التامة بأن مثل هذا الحكم الظاهر المشهور ليس مما يحتاج فيه لنقول عن الشيخ ابن باز، أو لجنة الإفتاء، إلا أني سقت هذه النقول بعدما رأيت فزع الأستاذ من تقرير تلك البدهية الشرعية، ورأيته يتساءل بغرابة عمن سبقني لها. فإن أحب الأستاذ الانتقال من البحث العلمي المبرهن، إلى المزايدة والمناورة والتشغيب، فليملك الشجاعة، وليعلن أن أولئك الأعلام كلهم «تكفيريون»، وليجعل خصومته مع أهل العلم كافة، وليس مع الشويقي وحده. وقد سبقه لقريب من هذا بعض أصحابه ممن تضلعوا تشكيكات الجابري، فعادوا على أئمة الإسلام بالتضليل والتجهيل.
ماذا عن السرقة؟
إن كان الأستاذ الضحيان قد داخلته الشكوك حول القطع واليقين بسلامة القرآن من النقصان وكون ذلك من الضروريات الشرعية، فسوف أنقله لمسألة قطعية ضرورية أخرى شذ فيها الجابري، و أرجو أن يكون يقين الأستاذ بها لم يزل متماسكا.
فالحدود الشرعية، كحد الزنا وحد السرقة، وغيرها من العقوبات البدنية المقررة في كتاب الله –عز وجل-، بالنص المحكم الذي لا يحتمل التأويل، كل ذلك مما يعلم الأستاذ أن الجابري يرفضه، ويخصصه بالمجتمع البدوي القديم. فليبين لنا الأستاذ ما إذا كان قطع السارق وجلد الزاني من الأحكام المعلومة ضرورة من دين الإسلام أو لا؟ ثم ليطبق بعد هذا قاعدته في التكفير التي أراد إلزامي بها، وليصدع بالحق، ولا تأخذه في الله لومة لائم. وإن أحب أستاذنا فتيا غير محلية تساعده في اتخاذ قراره، فليرجع لكتاب (الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ص147) للشيخ القرضاوي، وسيجد فيه أن حد السرقة والزنا مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام. وإن أحب الأستاذ شيئاً من كلام القدماء، فليرجع لكتاب (منهاج السنة 5/74)، وسيجد مثل ذلك.
وحسب منهج أستاذنا فلا بد له من أحد خيارين: فإما أن يقشعر بدنه و يستفتح مناحة على باب التكفير المخيف الشنيع البدعي الخطير الذي فتحه القرضاوي وابن تيمية على الأمة. وإما أن يصدع بالحق، ولا تأخذه في الله لومة لائم، فيصدر فتياه بمروق الجابري من الدين. وليس أمام الأستاذ خيار ثالث بعدما ضيق على نفسه، و أعلن التلازم الكامل التام بين تقرير القطعيات الشرعية، وبين وجوب الدخول في إطلاق الأحكام على مخالفيها.
..وقصص القرآن
الجابري في كتابه (المدخل) اعتبر القصص الواردة في القرآن مجرد أمثلة مضروبة للعبرة لا تعبر عن حقائق تاريخية واقعية. وقد رأيت الأستاذ الضحيان يستسهل هذه المقولة فيقرنها بمذهب من حمل نصوص الصفات على المجاز. فليسمح لي الأستاذ أن أشرح له ما الذي يعنيه إنكار حقائق قصص القرآن.
معنى هذا القول باختصار: أنه ليس بالضرورة أن يكون قد وجد في التاريخ شيء اسمه أصحاب الكهف، حتى مع تنصيص القرآن على ذلك. كما أنه ليس بالضرورة أن يكون إبراهيم قد قال لأبيه آزر: (أتتخذ أصناماً آلهة). ولا قال الملك لإبراهيم (أنا أحيي الموتى)، ولا قال له إبراهيم (ربي الذي يحيي ويميت). ولا أمر الله إبراهيم بذبح ولده. ولا وكز موسى رجلا فقضى عليه. ولا قال موسى للسحرة (ألقوا ما أنتم ملقون). ولا قال عيسى لقومه: إنه (يبرئ الأكمه والأبرص). ولم يلق يوسف إخوته في الجب. ولا راودته امرأة العزيز عن نفسه. ولا لبث في السجن بضع سنين. ولا قال له أحد (إني أرى سبع بقرات سمان). ولا وجد رجل أماته الله مائة عام ثم بعثه. ولا قال لقمان (لابنه وهو يعظه لا تشرك بالله). ولا قال سليمان للنمل (ادخلوا مساكنكم). ولا قال شعيب لقومه (أوفوا المكيال والميزان). ولا قال لوط لقومه: (أتأتون الفاحشة). ولا قالت (الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك).
كل هذه القصص وغيرها كثير مما هو منصوص في كتاب الله بعبارات مفصلة لا تحتمل أي تأويل، كل ذلك لا يعدو أن يكون مجرد أمثلة مضروبة ليس بالضرورة أن يكون وراءها واقع تاريخي حسب مذهب الجابري. فلعل الأستاذ يدرك الآن أنه لا مناسبة إطلاقاً بين هذا المذهب الشاذ، وبين مذهب تأويل الصفات. فنفي حقائق قصص القرآن من جنس تأويلات الباطنية القدماء الذين قالوا: إن ظواهر نصوص المعاد و البعث الجسماني وردت على سبيل ضرب الأمثال للعبرة والعظة. وهو الرأي الذي تصدى لإنكاره أبو حامد الغزالي في (التهافت)، وحكم على قائليه بالمروق من الدين، ووافقه على ذلك كثير من أئمة الإسلام.
وكنت قد نقلت للأستاذ نصوصاً عن ثلاثة من أعيان العصر: شيخ الأزهر محمود شلتوت، والشيخ مصطفى صبري (آخر من تولى منصب شيخ الإسلام في الدولة التركية)، والشيخ الأديب علي الطنطاوي –رحمه الله-. كل هؤلاء ذكروا أن إنكار حقائق القصص القرآنية مما يدخل في حيز الكفر بالقرآن. وقد حرصت كثيراً ألا أنقل عن أحد من علماء البلد، لأني رأيت الأستاذ يكثر الحديث عن تأزم مجتمعه تجاه الرأي المخالف، كما رأيته يدعوني للانفتاح على «آفاق فكرية أرحب من واقعي المحلي الضيق». فلأجل هذه اللهجة التي توحي بتأصل عقدة المستورد لدى أستاذنا، تعمدت أن أنقل له عن علماء من وراء الحدود. وكان مقصودي بذلك كله بيان حجم المصيبة التي جاء بها الجابري في ميزان أهل العلم بدين الله. غير أن أستاذنا لا رغبة لديه في مناقشة ذلك بجدية؛ إذ همته كلها مصروفة للمناورة والتشغيب بفزاعة «التكفير». فإن كان الأستاذ يصر على ذلك المسلك، فأنا أخبره بوضوح أني راض وموافق على جميع ما قاله أولئك الكبار. كما أني موافق على جميع تلك الفتاوى التي نقلتها في حكم من يجوز النقص على كتاب الله. فليحشرني الأستاذ مع هؤلاء، وليلحق بنا سائر أئمة الإسلام، وليطبع على الجميع بخاتم «تكفيريين»، وليبق هو والجابري بعد ذلك أئمة الوسطية والاعتدال.
«عبط»..أم «استعباط»؟
حين يذكر الأستاذ من مناقب الجابري: «أنه يرى الأشعرية مخالفين لطريقة السلف». ثم اعترض عليه، بأن الجابري لا يحق له لوم الأشعرية بمثل هذا، لأنه هو نفسه لا يؤمن بإجماع السلف، بل من رأيه أن طريقة السلف تمثل استبداداً وعائقاً معرفياً يتعين الخلاص منه. حين اعترض على الأستاذ بمثل هذا، فإني أفترض أني أخاطب رجلا يفهم وجه الاعتراض، ويدرك أن معنى كلامي أنه لا منقبة ولا فضيلة في مقولة الجابري عن الأشعرية. غير أن الأستاذ تعمد المغالطة في فهم الاعتراض، وجاء ليقول: إنه «مندهش»، و«مصدوم» من فهم الشويقي الذي حسب أن الضحيان يعتبر الجابري سائراً على طريقة السلف!. فهل الأستاذ حقا «مصدوم»، و«مندهش»؟!..لا أظن ذلك. فليس هناك دهشة ولا صدمة، ولكنه «الاستعباط» الذي تعامل به الأستاذ مع اعتراضاتي على كلامه، كي تصح له دعوى أن: الشويقي لا يفهم!
كذلك حين عد الضحيان في مناقب الجابري أنه: يرى (الإسلام ديناً ودولة)، ثم شرحت له أنه لا يوجد فرق حقيقي بين الجابري وبين من لا يؤمن بذلك. إذ جميعهم يرى أن الممارسة السياسية يجب أن يصدر فيه عن العقل وحده. فالجابري يختلف مع العلمانيين الصرحاء في الطريق، لكنه يصل معهم إلى نقطة واحدة. حين اعترض على الأستاذ بمثل هذا، فإني –أيضا- أفترض أن الأستاذ سيفهم وجه الاعتراض، ثم يوضح لنا ثمرة إيمان الجابري بأن (الإسلام دين ودولة). لكن الأستاذ –مرة ثانية- تعامى عن وجه الاعتراض، وجاء ليتحدث طويلا عن الشويقي الذي أساء الفهم، وظن أن الضحيان يقول: إن الجابري يؤمن بتحكيم الشريعة كما يقول به الإسلاميون!
الأخ هذه المرة نسي أو استحيا أن يقول إنه «مصدوم»، و«مندهش» من مستوى فهم الشويقي كما قال في المرة السابقة. ربما لأنه في كلا الموضعين لم يكن «مصدوما»، ولا «مندهشاً»، غير أنه يمارس «الاستعباط» بكفاءة عالية، ليتهرب من حقيقة أن ما توهمه منقبة وفضيلة للجابري، ليس سوى كلام مفرغ من أي معنى.
وسطية المطففين
المستفتي الذي طرح السؤال على الشيخ البراك، ذكر أن كلام الجابري في القرآن انتشر وفرح به خصوم الإسلام، فجاء الأستاذ ثائراً، متهجماً، وقال: هذا «كذب، وافتراء، رخيص ممن لا يتقي الله في اتهام الغافلين والخوض في أعراضهم، فلا انتشار ولا فرح ولا غيره، وإنما قالوه لأنهم يريدون به التهويل على المفتي وحمله على الإفتاء بما يريد المستفتون». هذا ما قاله الأستاذ الذي يدعو للعدل والإنصاف، وإحسان الظن بالمخالف، والتعامل معه بأدب الإسلام. وقد ذكرت له في مقالتي السابقة (بعض، وليس جميع) المواقع المشبوهة التي استبشرت بكلام الجابري، لأثبت له صحة ما ذكره السائل. فماذا كان جواب الأستاذ؟ كل الذي استطاع الأستاذ أن يجيب به، أن تلك المواقع محجوبة! فهل إذا كانت تلك المواقع محجوبة، يكون السائل كاذباً مفترياً في حديثه عن انتشار كلام الجابري؟! ألا يملك الأستاذ بعض الشجاعة والإنصاف ليعتذر عن إقذاعه في حق ذاك السائل؟!
هذا ما قاله الضحيان، ولقد تساءلت –ولازلت أتساءل-: كيف لم يقشعر بدن الأستاذ وهو يقرأ ويسمع بأذنه قول الجابري: إن من الجائز أن يكون في القرآن نقص وزيادة؟! فبلية الجابري هذه يقول عنها الأستاذ بكل نعومة و حنان: «هذا من وجهة النظر الشرعية خطأ كبير. وقصارى القول فيه إنه شبهة تنتقد على الجابري، ويـرد عليه بأسلوب علمي محكم بعيد عن الإثارة وتحشيد العوام واستعدائهم، والتهويل بالفتاوى».
هذه النعومة يتعامل بها الاخ مع من يشكك في سلامة القرآن من الزيادة والنقص. أما من يعتبر سلامة القرآن مسألة ضرورية قطعية يقينية، فإن قوله: «جرأة عظيمة تقشعر منها الأبدان، ومنهج فاسد، ومخيف، وشنيع، وبدعي، وخطير ...إلخ». فهل علي لوم بعد هذا حين حذرت الأستاذ من منهج (جماعة عمى الألوان)، التي اختلت موازينها الشرعية، وأصيبت بالحول الفكري المستعصي، والرمد الثقافي المزمن؟!
حسنا -: «أستغفر الله وأتوب إليه. القرآن ليس مقطوعاً بصحته، ولا مجزوماً بسلامته من الزيادة و النقصان. بل ذلك كله محل شك وتردد، إكراماً لعيني الإمام الجابري». هل هذا ما تريد أن أقوله حتى تجف دموعك، و لا يقشعر بدنك، وحتى تنام قرير العين، هادئ البال؟ إن كان هذا ما تريده، فأنا أعتذر إليك من إجابة مطلبك، فكتاب الله أعز علي منك ومن الجابري، و من سائر المرتابين.
تناقض آخر
ظل الضحيان يتساءل: لماذا لا يحكم الشويقي على الجابري بالكفر؟ لماذا لا يصدع بالحق ولا تأخذه في الله لومة لائم؟. هذا السؤال لو طرحه شاب غر لفهمنا دوافعه. لكن حين يطرحه ويلح عليه أستاذ جامعي، يقول إنه «يدافع عن الوسطية والاعتدال»، فهنا تتشكل أمامنا علامة استفهام كبيرة، حول طبيعة تلك الوسطية التي يلوكها قلم الأستاذ، وهل هي منهج راسخ ورؤية صادقة، أو هي مجرد شعار يرفعه في وجه من انتقد تفريطه في الحمية لكتاب الله. والعجيب أنه في لقائه مع (قناة الحرة) اعترض على إتاحة الحكم بالتكفير لآحاد المفتين، و ذكر أن هذا النوع من الفتاوى مما يتعين تقنينه، بحيث لا يفتي به كل أحد. لكنه الآن يعود ليطالب الشويقي بألا تأخذه في الله لومة لائم، فيصدر فتياه بكفر الجابري! فلتضف هذه المسألة إلى ملف تناقضات الأستاذ التي لا تبدو لها نهاية.
أعجب من هذا وأغرب أن الشيخ البراك قال في فتياه المشهورة: «أجمع المسلمون على كفر من زعم تحريف القرآن أو جوز ذلك». قاله الشيخ تعليقا على دعوى الجابري جواز حصول نقصان في القرآن. وقد سمعنا الأستاذ على (قناة الحرة) يقول: «حتى نكون عادلين، واضح أن الشيخ البراك لم يكفر الجابري». ثم استدرك الأستاذ وتحدث عن مشكلة المتلقين للفتوى من الصغار والعوام الذين سيفهمون أن الشيخ حكم بكفر الجابري. فلنجمع كلام الأستاذ هذا، مع تصرفه حين استنبط تكفيري للجابري من قولي إن آراءه تعد «منازعة في ضروري من ضروريات الدين»، فقد عد الأستاذ هذه الكلمة تكفيراً للجابري (بلا شك!). فها نحن نرى أستاذنا الجامعي ينزل لمستوى فهم العوام وصغار المتلقين!
رأي أهل الفتيا
شرحت في مقالتي السابقة أن الحكم بمخالفة فلان لضروري من ضروريات الدين، لا يعني بالضرورة الحكم عليه بالكفر، وإن كان على خطر منه. لكن أستاذنا (الوسطي!)، له رأي آخر مختلف. فمن رأيه أن من شرط الذب عن الضروريات الشرعية الدخول في إطلاق الأحكام على مخالفيها!! و أنه لا يسع أحداً الإمساك عن الدخول في الحكم بتكفير من ثبتت مخالفته لشيء من قطعيات الشريعة! فوسطية أستاذنا قد وضعتنا بين خيارين لا ثالث لهما: فإما التنكر للحقيقة الشرعية، والتنازل عن القطع واليقين بسلامة القرآن من الزيادة والنقصان. وإما الإعلان عن مروق الجابري من دين الإسلام!! أما كاتب هذه الأحرف، فلأجل عدم إيمانه بتلك الوسطية العوجاء، فقد اختار لنفسه الاقتصار على البحث في القدر المجمع عليه، وهو «أن سلامة الكتاب العزيز من الزيادة والنقصان ضرورة شرعية قطعية يقينية». فإن كان هذا السلوك لا يروق لأستاذنا، وكان يريد حكماً على الجابري نفسه فتلك دار الإفتاء تعرض نفسها إن كان لم يزل يثق برأيها. ونصيحتي له إن اختار ذلك أن يعد نفسه للمزيد من النواح واللطم، قبل أن يسمع رأي أهل الفتيا. فنحن نتحدث عن تشكيك في كمال كتاب الله، ولسنا نبحث في حكم من لا يشرب اللبن في الصباح.
في ظني أن الدكتور بطريقته تلك يضر بالجابري من حيث أراد الدفاع عنه. لأن الجابري حين مس كتاب الله بالتشكيك في كمال نصه، يكون قد جاوز حدود الخلاف السائغ والمحتمل، ودخل دائرة مظلمة ترشحه ليكون موضوعاً لفتاوى لا أظنها ستروق لا للجابري نفسه، ولا لمريديه الذين أهلكهم الدفاع عن أوابده. وليقرأ الأستاذ –إن أحب- هذه الفتاوى التي وقع عليها أعيان أهل العلم و(الوسطية الحقة) في زماننا، حتى يدرك حجم المسألة التي يخوض فيها بغير علم.
ففي فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء (4/9) برئاسة الشيخ ابن باز –رحمه الله-: «من قال: إن القرآن غير محفوظ (وهذا أقل ما قال به الجابري بإقرار الأستاذ)، أو دخله شيء من التحريف أو النقص، فهو ضال مضل، يستتاب فإن تاب وإلا وجب على ولي الأمر قتله مرتداً». فليقرأ الأستاذ هذه الفتيا، وليقشعر بدنه، ثم ليرفع صوته بالنواح واللطم من منهج ابن باز «الفاسد»، «الخطير» «الشنيع» «المخيف»، وليتحدث ما شاء عن باب «التكفير البدعي» الذي فتحه ابن باز على الأمة! فإذا انتهى الأستاذ من نواحه وجف الدمع من مآقيه، فليرجع لفتيا أخرى «مخيفة» و«خطيرة» و«شنيعة» و«بدعية» و«فاسدة» صدرت من اللجنة الدائمة (22/240)، تنص على أن «من شكك بحفظ القرآن من التغيير والتبديل (كما فعل الجابري)، فهو كافر». والفتيا –أيضاً- عليها توقيع أعيان أهل العلم وأعلامهم: الشيخ ابن باز، و آل الشيخ، والفوزان، وبكر أبو زيد، والغديان .
فهل هذا المسار في الحوار، هو ما يريده الأستاذ؟
ولا يذهبن الظن إلى أن تلك الفتاوى تعبر عن رأي محلي، بل هي تصدر عن إجماع إسلامي مشهور، لم يخرج عنه سوى غالية الروافض. وهناك الكثير من الفتاوى المماثلة من خارج البلد تصب في المعنى نفسه، إن عجز الأستاذ عن تطلبها أرشدته إليها. أما إن أراد الأستاذ شيئاً من كلام القدماء، فهو كثير لا يقدح في شهرته جهل الأستاذ به. فمن ذلك قول الإمام البيهقي –رحمه الله-: «من أجاز أن يتمكن أحد من زيادة شيء في القرآن، أو نقصانه منه (وهذا قول الجابري بإقرار الأستاذ)، أو تحريفه، أو تبديله، فقد كذب الله في خبره، وأجاز الوقوع فيه، وذلك كفر». (شعب الإيمان 1/468). وقريب من هذا المعنى قول ابن حزم فيمن جوز أن يكون عثمان أسقط شيئاً من القرآن: «تالله إن من أجاز هذا غافلا، ثم وقف عليه وعلى برهان المنع من ذلك وأصر، فإنه خروج عن الإسلام لا شك فيه». (الإحكام 4/521).
هل يريد المزيد مما يثير بكاءه وأشجانه؟ هناك المزيد والمزيد من مثل تلك الأقوال المشهورة المعروفة المبنية على العلم والبصيرة بدين الله، وليس على التشغيب والمزايدة الإعلامية على ثنائية (التكفير) و(الوسطية). ومع قناعتي التامة بأن مثل هذا الحكم الظاهر المشهور ليس مما يحتاج فيه لنقول عن الشيخ ابن باز، أو لجنة الإفتاء، إلا أني سقت هذه النقول بعدما رأيت فزع الأستاذ من تقرير تلك البدهية الشرعية، ورأيته يتساءل بغرابة عمن سبقني لها. فإن أحب الأستاذ الانتقال من البحث العلمي المبرهن، إلى المزايدة والمناورة والتشغيب، فليملك الشجاعة، وليعلن أن أولئك الأعلام كلهم «تكفيريون»، وليجعل خصومته مع أهل العلم كافة، وليس مع الشويقي وحده. وقد سبقه لقريب من هذا بعض أصحابه ممن تضلعوا تشكيكات الجابري، فعادوا على أئمة الإسلام بالتضليل والتجهيل.
ماذا عن السرقة؟
إن كان الأستاذ الضحيان قد داخلته الشكوك حول القطع واليقين بسلامة القرآن من النقصان وكون ذلك من الضروريات الشرعية، فسوف أنقله لمسألة قطعية ضرورية أخرى شذ فيها الجابري، و أرجو أن يكون يقين الأستاذ بها لم يزل متماسكا.
فالحدود الشرعية، كحد الزنا وحد السرقة، وغيرها من العقوبات البدنية المقررة في كتاب الله –عز وجل-، بالنص المحكم الذي لا يحتمل التأويل، كل ذلك مما يعلم الأستاذ أن الجابري يرفضه، ويخصصه بالمجتمع البدوي القديم. فليبين لنا الأستاذ ما إذا كان قطع السارق وجلد الزاني من الأحكام المعلومة ضرورة من دين الإسلام أو لا؟ ثم ليطبق بعد هذا قاعدته في التكفير التي أراد إلزامي بها، وليصدع بالحق، ولا تأخذه في الله لومة لائم. وإن أحب أستاذنا فتيا غير محلية تساعده في اتخاذ قراره، فليرجع لكتاب (الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ص147) للشيخ القرضاوي، وسيجد فيه أن حد السرقة والزنا مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام. وإن أحب الأستاذ شيئاً من كلام القدماء، فليرجع لكتاب (منهاج السنة 5/74)، وسيجد مثل ذلك.
وحسب منهج أستاذنا فلا بد له من أحد خيارين: فإما أن يقشعر بدنه و يستفتح مناحة على باب التكفير المخيف الشنيع البدعي الخطير الذي فتحه القرضاوي وابن تيمية على الأمة. وإما أن يصدع بالحق، ولا تأخذه في الله لومة لائم، فيصدر فتياه بمروق الجابري من الدين. وليس أمام الأستاذ خيار ثالث بعدما ضيق على نفسه، و أعلن التلازم الكامل التام بين تقرير القطعيات الشرعية، وبين وجوب الدخول في إطلاق الأحكام على مخالفيها.
..وقصص القرآن
الجابري في كتابه (المدخل) اعتبر القصص الواردة في القرآن مجرد أمثلة مضروبة للعبرة لا تعبر عن حقائق تاريخية واقعية. وقد رأيت الأستاذ الضحيان يستسهل هذه المقولة فيقرنها بمذهب من حمل نصوص الصفات على المجاز. فليسمح لي الأستاذ أن أشرح له ما الذي يعنيه إنكار حقائق قصص القرآن.
معنى هذا القول باختصار: أنه ليس بالضرورة أن يكون قد وجد في التاريخ شيء اسمه أصحاب الكهف، حتى مع تنصيص القرآن على ذلك. كما أنه ليس بالضرورة أن يكون إبراهيم قد قال لأبيه آزر: (أتتخذ أصناماً آلهة). ولا قال الملك لإبراهيم (أنا أحيي الموتى)، ولا قال له إبراهيم (ربي الذي يحيي ويميت). ولا أمر الله إبراهيم بذبح ولده. ولا وكز موسى رجلا فقضى عليه. ولا قال موسى للسحرة (ألقوا ما أنتم ملقون). ولا قال عيسى لقومه: إنه (يبرئ الأكمه والأبرص). ولم يلق يوسف إخوته في الجب. ولا راودته امرأة العزيز عن نفسه. ولا لبث في السجن بضع سنين. ولا قال له أحد (إني أرى سبع بقرات سمان). ولا وجد رجل أماته الله مائة عام ثم بعثه. ولا قال لقمان (لابنه وهو يعظه لا تشرك بالله). ولا قال سليمان للنمل (ادخلوا مساكنكم). ولا قال شعيب لقومه (أوفوا المكيال والميزان). ولا قال لوط لقومه: (أتأتون الفاحشة). ولا قالت (الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك).
كل هذه القصص وغيرها كثير مما هو منصوص في كتاب الله بعبارات مفصلة لا تحتمل أي تأويل، كل ذلك لا يعدو أن يكون مجرد أمثلة مضروبة ليس بالضرورة أن يكون وراءها واقع تاريخي حسب مذهب الجابري. فلعل الأستاذ يدرك الآن أنه لا مناسبة إطلاقاً بين هذا المذهب الشاذ، وبين مذهب تأويل الصفات. فنفي حقائق قصص القرآن من جنس تأويلات الباطنية القدماء الذين قالوا: إن ظواهر نصوص المعاد و البعث الجسماني وردت على سبيل ضرب الأمثال للعبرة والعظة. وهو الرأي الذي تصدى لإنكاره أبو حامد الغزالي في (التهافت)، وحكم على قائليه بالمروق من الدين، ووافقه على ذلك كثير من أئمة الإسلام.
وكنت قد نقلت للأستاذ نصوصاً عن ثلاثة من أعيان العصر: شيخ الأزهر محمود شلتوت، والشيخ مصطفى صبري (آخر من تولى منصب شيخ الإسلام في الدولة التركية)، والشيخ الأديب علي الطنطاوي –رحمه الله-. كل هؤلاء ذكروا أن إنكار حقائق القصص القرآنية مما يدخل في حيز الكفر بالقرآن. وقد حرصت كثيراً ألا أنقل عن أحد من علماء البلد، لأني رأيت الأستاذ يكثر الحديث عن تأزم مجتمعه تجاه الرأي المخالف، كما رأيته يدعوني للانفتاح على «آفاق فكرية أرحب من واقعي المحلي الضيق». فلأجل هذه اللهجة التي توحي بتأصل عقدة المستورد لدى أستاذنا، تعمدت أن أنقل له عن علماء من وراء الحدود. وكان مقصودي بذلك كله بيان حجم المصيبة التي جاء بها الجابري في ميزان أهل العلم بدين الله. غير أن أستاذنا لا رغبة لديه في مناقشة ذلك بجدية؛ إذ همته كلها مصروفة للمناورة والتشغيب بفزاعة «التكفير». فإن كان الأستاذ يصر على ذلك المسلك، فأنا أخبره بوضوح أني راض وموافق على جميع ما قاله أولئك الكبار. كما أني موافق على جميع تلك الفتاوى التي نقلتها في حكم من يجوز النقص على كتاب الله. فليحشرني الأستاذ مع هؤلاء، وليلحق بنا سائر أئمة الإسلام، وليطبع على الجميع بخاتم «تكفيريين»، وليبق هو والجابري بعد ذلك أئمة الوسطية والاعتدال.
«عبط»..أم «استعباط»؟
حين يذكر الأستاذ من مناقب الجابري: «أنه يرى الأشعرية مخالفين لطريقة السلف». ثم اعترض عليه، بأن الجابري لا يحق له لوم الأشعرية بمثل هذا، لأنه هو نفسه لا يؤمن بإجماع السلف، بل من رأيه أن طريقة السلف تمثل استبداداً وعائقاً معرفياً يتعين الخلاص منه. حين اعترض على الأستاذ بمثل هذا، فإني أفترض أني أخاطب رجلا يفهم وجه الاعتراض، ويدرك أن معنى كلامي أنه لا منقبة ولا فضيلة في مقولة الجابري عن الأشعرية. غير أن الأستاذ تعمد المغالطة في فهم الاعتراض، وجاء ليقول: إنه «مندهش»، و«مصدوم» من فهم الشويقي الذي حسب أن الضحيان يعتبر الجابري سائراً على طريقة السلف!. فهل الأستاذ حقا «مصدوم»، و«مندهش»؟!..لا أظن ذلك. فليس هناك دهشة ولا صدمة، ولكنه «الاستعباط» الذي تعامل به الأستاذ مع اعتراضاتي على كلامه، كي تصح له دعوى أن: الشويقي لا يفهم!
كذلك حين عد الضحيان في مناقب الجابري أنه: يرى (الإسلام ديناً ودولة)، ثم شرحت له أنه لا يوجد فرق حقيقي بين الجابري وبين من لا يؤمن بذلك. إذ جميعهم يرى أن الممارسة السياسية يجب أن يصدر فيه عن العقل وحده. فالجابري يختلف مع العلمانيين الصرحاء في الطريق، لكنه يصل معهم إلى نقطة واحدة. حين اعترض على الأستاذ بمثل هذا، فإني –أيضا- أفترض أن الأستاذ سيفهم وجه الاعتراض، ثم يوضح لنا ثمرة إيمان الجابري بأن (الإسلام دين ودولة). لكن الأستاذ –مرة ثانية- تعامى عن وجه الاعتراض، وجاء ليتحدث طويلا عن الشويقي الذي أساء الفهم، وظن أن الضحيان يقول: إن الجابري يؤمن بتحكيم الشريعة كما يقول به الإسلاميون!
الأخ هذه المرة نسي أو استحيا أن يقول إنه «مصدوم»، و«مندهش» من مستوى فهم الشويقي كما قال في المرة السابقة. ربما لأنه في كلا الموضعين لم يكن «مصدوما»، ولا «مندهشاً»، غير أنه يمارس «الاستعباط» بكفاءة عالية، ليتهرب من حقيقة أن ما توهمه منقبة وفضيلة للجابري، ليس سوى كلام مفرغ من أي معنى.
وسطية المطففين
المستفتي الذي طرح السؤال على الشيخ البراك، ذكر أن كلام الجابري في القرآن انتشر وفرح به خصوم الإسلام، فجاء الأستاذ ثائراً، متهجماً، وقال: هذا «كذب، وافتراء، رخيص ممن لا يتقي الله في اتهام الغافلين والخوض في أعراضهم، فلا انتشار ولا فرح ولا غيره، وإنما قالوه لأنهم يريدون به التهويل على المفتي وحمله على الإفتاء بما يريد المستفتون». هذا ما قاله الأستاذ الذي يدعو للعدل والإنصاف، وإحسان الظن بالمخالف، والتعامل معه بأدب الإسلام. وقد ذكرت له في مقالتي السابقة (بعض، وليس جميع) المواقع المشبوهة التي استبشرت بكلام الجابري، لأثبت له صحة ما ذكره السائل. فماذا كان جواب الأستاذ؟ كل الذي استطاع الأستاذ أن يجيب به، أن تلك المواقع محجوبة! فهل إذا كانت تلك المواقع محجوبة، يكون السائل كاذباً مفترياً في حديثه عن انتشار كلام الجابري؟! ألا يملك الأستاذ بعض الشجاعة والإنصاف ليعتذر عن إقذاعه في حق ذاك السائل؟!