-A +A
حوار : بدر الغانمي
المرارات السحيقة ظلت هي محور الحديث مع البروفيسور أحمد بن خالد البدلي، السعودي الوحيد المتخصص في اللغة الفارسية والأدب الفارسي، وثالث الحاصلين على شهادة الدكتوراه من جيل السعوديين الأوائل، بعد الدكتور عبد العزيز الخويطر والدكتور رضا عبيد .. رجل يضحك قليلا ولكنه يسخر دائما من نفسه ومن التاريخ ومن الأنثروبولوجيا ومن الأرض كلها ـ كما وصفه بذلك الدكتور فهد العرابي الحارثي.
التقيته في منزله في حي الملز القديم في الرياض مستكينا إلى حياة التقاعد التي يقتاد إليها الإنسان قسرا، فوجدته متألما من الوحدة والعزلة بعد أن اعتاد على الركض والتشقي طيلة حياته. الدكتور البدلي الذي يضرب بنسب إلى قسم اللغة العربية في جامعة الملك سعود تحدث بفخر عن أصوله الأفريقية وحياة أجداده وتمنى أن تتاح له الفرصة ليخدم في المجال الدبلوماسي مستفيدا من سنوات خبرته الطويلة وتخصصه النادر، ودعا إلى توثيق الصلة باللغة الفارسية الأقرب إلى العربية والتي تكاد تكون الآن شبه معدومة .. وما بين الضحك والسخرية ظلت المرارة هي الإطار المحاصر لثنايا الحديث بدءا من يتم الطفولة وهروبه من الواقع المؤلم بقارب نجاة دار الأيتام حيث صقلت شخصيته ولملمت جراحه الغائرة.
ولدت في حي (الطندباوي) وهو من الأحياء العشوائية، التي نبتت في ضواحي مكة المكرمة نباتا شيطانيا وكان حيا فقيرا بائسا فيه مجموعة من العشش والأكواخ، تشب فيها الحرائق كل يوم، حتى صار الحريق جزءا من تاريخ قبيلتي (الفلاته)، فأصبحنا نؤرخ أفراحنا وأتراحنا به، فيقال ولد فلان يوم احترق الجانب الفلاني، ومات فلان يوم الحريق العلاني، وكنا نلعب ونحن أطفال صغار في برحة العم (يسلم بافرج) ـ رحمه الله ـ وهي برحة تقع في أعلى الحي قرب المسيل كانت هي كل حياتنا، فكنا نلعب الكبت والاستغماية والكبوش والطبيان، وكنت ألقب بكبش منى؛ لأنني ولدت في التاسع من ذي الحجة فكان الأشقياء من شباب الحي يتسلون بالتلاعب معي بسبب هذا اللقب، فكانوا يجتمعون ويطلبون مني القيام ببعض حركات التيوس باعتباري تيسا بشريا. ونحن أسرة فقيرة بائسة، حملنا طغيان المستعمر الأوروبي على ترك وطننا الأصلي (بوركينافاسو) في أفريقيا، والهجرة إلى مكة في حوالي سنة 1882 م فرارا بديننا والتجاء إلى حرم الله الآمن، وما زال هناك بعض من أبناء عمي في السودان، كما يوجد أناس من جماعتنا في بوركينافاسو يراسلوننا وزارونا في المملكة، أما أنا فلم يسبق لي أن سافرت إلى هناك وأتمنى أن تتاح لي الفرصة في يوم ما.

• رغم أنك نشأت يتيم الأبوين، إلا أنك أدركت جزءا بسيطا من حياة الوالد والوالدة؟
والدي كان يعمل في ورشة بسوق المعلاة مع العم يحيى أبو شال ـ رحمهم الله جميعا ـ في سبك الأمهار بأحجامها المختلفة وبيعها لرجل يدعى لقمان كانت له دكانة صغيرة على يسار الداخل إلى الحرم من باب الزيارة، وكان ـ رحمه الله ـ يكلفني ببعض الأعمال الصغيرة في ورشته الخاصة التي أنشأها في المنزل، كبرد الأمهار أو نفخ الكير ليعلمني الصنعة بينما كان أخي الأكبر محمد الذي أقعده المرض اليوم يعمل بناء منذ صباه الباكر ولم يتعلم لا القراءة ولا الكتابة، وأتذكر أن وفاة الوالد صادفت نشوب الحرب العالمية الثانية سنة 1939 م وتأزم الموقف العالمي، فقفلت البحار، وذلك يعني لسكان الحجاز انقطاع مورد هام من موارد رزقهم، وانقطاع السفن عن حمل الأرزاق إلى الموانئ، وهذا يعني مجاعة أكيدة وارتفاعا في الأسعار، ولكن حكومة الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ تولت تأمين الغذاء للناس، فوزعت الدولة الطحين والسكر والخبز على جميع الأسر المحتاجة عن طريق بطاقات تموين رسمية، فكنت أذهب إلى «المبسط» ومعي البطاقة التموينية لأخذ الدقيق والسكر الأحمر، ثم أذهب صباحا إلى فرن العم أحمد الجداوي ـ رحمه الله ـ لأخذ المقرر من الخبز لأفراد أسرتي، ولم يمض على وفاة الوالد أقل من عام حتى صدمت مرة أخرى بوفاة الوالدة ـ رحمها الله. وأذكر أني عدت إلى منزل جدي ذات مساء ومعي حلوى وشريك لأمي، ولكن اكتشفت أنها ماتت منذ أيام، ولم يخبرني أحد بذلك، ولقد أسلمتني الصدمة إلى الضياع في تلك السن المبكرة وغضبت من أهلي الذين أهملوني ولم يخبروني بموت أمي العزيزة، فصممت على الانتقام فسرقت بطاقة التموين من جيب جدي الذي أفتخر باسمه (سمبودودو) وهربت من المنزل هائما على وجهي، أبيت في الحرم ومتجولا في حواري مكة وأزقتها وتكاياها، فإذا جاء الصباح ذهبت مبكرا إلى فرن العم (أحمد جداوي) واستلمت الأرغفة المسجلة على البطاقة وبعتها جميعا في سوق العياشين، وأبقيت رغيفا واحدا لإفطاري ومثلما يقولون (عيش مكة كبريت واللي يأكله يصير عفريت) فظللت على هذه الحال ولكن لم تطل بي (العفرتة) فقد كنت أتعذب في داخلي وأحن إلى أخواتي الصغيرات اليتيمات (سعاد وخديجة وأمينة)، فكنت أختلس العودة إلى بيت جدي لرؤيتهن وكثيرا ما كنت أقع في قبضة جدي، فكان يربطني إلى أصل شجرة نيم عتيقة في بيتنا، ويوسعني ضربا بجريد النخل، وما بين الضرب والنصح مرت بي سنتان مريرتان توازعهما اليتم والتشرد والضياع، فقرر جدي أن أدخل دار الأيتام في مكة المكرمة لكي أدرس وأتعلم بدلا من أن أكون لصا منحرفا وتائها، خصوصا أن دخله ـ رحمه الله ـ كان ضئيلا ومتواضعا ولا يمكنه من توفير رغباتنا الكثيرة، وأذكر أنه كان يخيط لنا الثياب من أسماله البالية بعد أن يستغني عنها ويؤثرنا على نفسه، ويحلق لنا رؤوسنا في الأعياد لعدم قدرته على دفع أجرة الحلاقين فكان ـ رحمه الله ـ أبا وأما ومعلما وطبيبا وحلاقا أيضا، وكانت هذه النظرة منه ثاقبة ومحور تغيير رئيسي في حياتي كلها.
• وأخواتك الصغيرات؟
جلسن في بيت جدي ويسر الله لهن الزواج تباعا وأنا في الدار، فخديجة تزوجت في السابعة وسعاد في التاسعة وأمينة تأخرت قليلا فجاءها النصيب وهي في السادسة عشرة، والحقيقة أن الزواج في هذه السن المبكرة كان شائعا في تلك الفترة ويعتبر مسألة طبيعية ومألوفة، فالسيدة عائشة رضي الله عنها تزوجت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في التاسعة، ولذلك أنا استغرب عندما أسمع تعليقات في الإعلام واستنكارا من البعض لزواج الفتيات في سن مبكرة فهذه هي الفطرة.
• طبعا دخلت دار الأيتام غصبا عنك؟
لا، والله كنت فرحا بها ومن كان يصدق أنه يدخلها في تلك الفترة، فيجد الأكل والملبس النظيف والتدريس الأفضل على مستوى المملكة، خصوصا بعد الواقع الأليم الذي عشته، والعجيب أن رقمي في دار الأيتام كان (132) وظل هذا الرقم ملازما لي طوال السنين الست، لأن النظام المتبع في الدار يعرف الأيتام بأرقامهم أكثر من أسمائهم، فكان رقمي مكتوبا على القايش والعقال والفانيلة تحسبا لو حدث لطالب مكروه ـ لا سمح الله ـ فيعرف من رقمه.
• يقال أن تأسيس دار الأيتام أثر على حياتك كلها؟
وحياة كل من دخل الدار، وأقولها صادقا كنا محسودين على كوننا طلابا في الدار ويكفيك أن تعرف أنني إلى اليوم وأنا في الخامسة والسبعين من العمر أسير على نفس النظام الذي تعلمته في الدار، بدءا من النظام الصحي الصارم الذي كان يفرض على جميع التلاميذ أن يحلقوا رؤوسهم كل أسبوع، وأن يقلموا أظافرهم وأن يستاكوا كل صباح، وكان يكشف علينا طبيب مديرية الصحة كل أسبوع كشفا تاما، ولابد أن نمارس الألعاب الرياضية كل صباح قبل الفطور، والويل للتلميذ الذي يتهاون في تنظيف أسنانه أو تقليم أظافره، فكان أدنى عقاب ينزل به أن يوضع في (الفلكة) ويشبع ضربا، وكان الطعام جيدا ولكنه كان قليلا، فهو لا يزيد على الحليب والشاي يوما والفول المدمس يوما آخر، والعدس في يوم ثالث وعيش الصدقة دائما، فميزانية الدار القائمة على حسنات المحسنين ومعونات الدولة، لم تكن تستطيع تقديم أكثر من ذلك ولم نكن نحن الأيتام نطمع في أكثر منه.
• درستم نفس المنهج الذي كان يطبق في مديرية المعارف؟
نفسه ومواد الدراسة عبارة عن التوحيد، الفقه، القرآن، الحديث، التاريخ، المطالعة، الإملاء، الإنشاء، القواعد، الحساب، والهندسة، وشيء من العلوم، ولكن قد تزيد جرعات المواد كلما انتقل التلميذ إلى فصل دراسي أعلى وكان مدرسونا في الدار من المجاورين في البلد الحرام، من جاويين ومغاربة ومصريين وهنود. وعندما تخرجت من دار الأيتام في شهر محرم سنة 1370 هـ كنا سبعة من الشباب هم: حسن بخاري، ناصر بن فراج القحطاني، راشد التركي، محمد صالح وزان، صالح صائغ، وأمين رمضاني، وقد وفقني الله لإكمال دراستي في المعهد العلمي السعودي في حارة القشاشية، وكان مجاورا لمدرسة تحضير البعثات يحتلان عمارتين متجاورتين أمام عمارة باناجة بجوار المسعى القديم، وكان النظام الدراسي في المعهد العلمي السعودي نظاما فذا وفريدا وعمليا في نفس الوقت، فكان الأساس في ذلك المنهاج أن يدرس الطالب المواد الدينية، كالقرآن والتفسير والحديث والتوحيد والفقه والفرائض، إلى جانب المواد الاجتماعية كالتاريخ والجغرافيا، والمواد الرياضية كالحساب والهندسة إلى جانب المواد الأدبية كالأدب العربي في مختلف عصوره وتاريخ الأدب العربي، وقد صدمت في السنة الثالثة من دراستي بالمعهد بوفاة جدي الشيخ أبو بكر سمبودودو إلى رحمة الله، وكانت تلك أول مرة أرى فيها محتضرا بأم عيني، وكنت قد استأذنت من المسؤولين في القسم الداخلي قبل موته بأيام للحصول على إجازة قصيرة لأكون بجانبه ثم عدت لإكمال دراستي وبعد تخرجي من المعهد كان ترتيبي السادس.
• وكنت تدرس في الحرم في الفترة المسائية؟
كنت أحضر دروس الشيخ حسن محمد المشاط ـ رحمه الله ـ وكان يولينا أنا والدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان عناية خاصة، وكنا ندرس عليه ألفية ابن مالك، وكان عبد الوهاب أجود مني حفظا وأفطن في تحصيله العلمي مني، وكان ذلك يغيظني جدا.
• اشتهرت كمذيع في الإذاعة السعودية وأنت مازلت طالبا بالمعهد؟
كانت بيضة الديك ودرسا لن أنساه ما حييت وأتذكر أنني كنت في السنة الثالثة ألقي محاضرة بعنوان «ثوان مع هنري ديكارت» في إحدى المسامرات، وكانت تلك المحاضرة الجريئة عن فيلسوف فرنسي نابه سببا في أن طلب مني المرحوم الشاعر طاهر عبد الرحمن زمخشري أن التحق بالإذاعة السعودية في القلعة، فقبلت العرض شاكرا، وقد أحسست بشيء من الغرور الخفي، وما هي إلا أيام حتى طلبني المرحوم حامد دمنهوري المشرف على الإذاعة ـ آنذاك ـ في مكتبه لإجراء مقابلة شخصية. وبعد المقابلة أرسلني إلى المرحوم بكر بوقس لإجراء الامتحان اللازم لمعرفة مدى صلاحية صوتي للإلقاء الإذاعي، ومدى قدرتي على الاشتراك في البث المباشر الحي، وقد نجحت ـ ولله الحمد ـ في الامتحان وعينت مذيعا وكان ذلك سنة 1374 هـ، وفي أول عهدي بالإذاعة الصباحية أصبت بلخمة، فبدلا من أن أقول أيها السادة نفتتح الإرسال بتلاوة آي من الذكر الحكيم، قلت: أيها السادة نفتتح الإرسال بفاصل موسيقي، فأضطر المهندس المسئول لإيقاف الإرسال وإعطائي فرصة لإصلاح الخطأ، وبعد دقائق كان المرحوم حامد دمنهوري في مبنى الإذاعة فسألني عن سبب تصرفي، فقلت له بكل بساطة: نسيت، فقال لي: هذا شغل عيال وفصلني وغادرت المبنى غير آبه لما حدث.
• يقولون إن ترشيحك للابتعاث كان بدعوة الوالدين؟
هذا أمر أنا لا أشك فيه بعد توفيق الله عز وجل ولك أن تتصور أنني عندما أنهيت الثانوية، لم أكن أطمع في أكثر من وظيفة مناسبة في إحدى الدوائر الحكومية، أو التدريس في إحدى المدارس الابتدائية، فلا ترتيبي في النجاح كان يؤهلني للسفر والاستزادة من العلم، ولا وضعي المالي كان يسمح لي بالسفر على حسابي الخاص، أضف إلى ذلك أن الشيخ حسن مشاط كان لا يشجع طلابه على السفر، فهو سيئ الظن بالتحصيل خارج حلقات العلم في المسجد الحرام، وكان يرى أن ذهاب شاب في سني إلى مصر لن يعود عليه بالنفع، وكل هذا أقنعني بعدم جدوى السفر، فبدأت أخطط للالتحاق بوظيفة ما، ولكني شئت شيئا وشاء الله شيئا آخر فقد اتضح أن الستة الأوائل بالمعهد كلهم ليسوا سعوديين، ومن ثم لا يحق لهم الابتعاث بموجب النظام الذي هو من حق المواطنين السعوديين فقط، وهكذا أصبح ترتيبي الأول بعد أن كان السادس وفتحت لي الأبواب من حيث لا أحتسب.
تلميذ طه حسين
• وكنت سعيد الحظ أن يكون أستاذك في القاهرة عميد الأدب العربي طه حسين شخصيا؟
كان يوم الأربعاء من أحب الأيام لي في كلية آداب القاهرة ففيه يلقي الأديب الكبير الدكتور طه حسين، محاضرة على طلاب قسم اللغة العربية وكانت قاعة الدرس تموج بأفواج صاخبة، متدافعة من محبي عميد الأدب من كل معاهد القاهرة العلمية وغير العلمية، وكان يصعد إلى القاعة وقد حف به كوكبة من العلماء كلهم تلاميذه وحواريوه ومحبوه، وكان طه حسين معجزة حقا، فقد كان مسيطرا على اللغة العربية، جبارا في الحديث ولم يكن عندي شيء يعدل سماعه وكنت حريصا على أحاديث الأربعاء تلك، أكثر من حرصي على حفلات السيدة أم كلثوم.
• ورغم ذلك يقال أنك خريج مدرسة محمد عبد الصمد فدا؟
هذا المربي الفاضل الفذ ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ أثر في حياتي أكثر من طه حسين وترك في نفسي أثرا بارزا لا أنساه ما حييت، فهو الذي دفعني دفعة قوية لقراءة الكتب المصرية الجادة عندما طلب منا في أول درس ألقاه علينا بالمعهد العلمي السعودي أن نحاول قراءة كتاب (حياتي) للدكتور أحمد أمين، و(الأيام) للدكتور طه حسين، و(حياة محمد) للدكتور محمد حسين هيكل، ومتابعة أعداد مجلة الرسالة المصرية التي كان يحررها المرحوم أحمد حسن الزيات. كما حدثنا عن ضرورة القراءة الحرة خارج الفصول الدراسية، وما درى ـ رحمه الله ـ أنه كان يحدد اتجاهنا العلمي منذ تلك الساعة، فقررنا، نحن مجموعة من الطلاب، الاشتراك في شراء تلك الكتب وكنا نقرؤها بالدور، وهكذا قرأنا تلك الكتب جميعا، ثم قررنا توزيعها بيننا، فأخذ أحدنا (الأيام) وأخذ الثاني (حياة محمد) وكان كتاب (حياتي) لأحمد أمين من نصيبي.
• بطبيعتك كنت انطوائيا وتقضي وقتك في قراءة الكتب؟
بحكم نشأتي يتيما أميل دائما إلى العزلة والانطواء، وما زالت العزلة إلى اليوم إحدى أميز خصائصي، ولا شك أن أحب أنواع الرياضات إلى نفسي كانت وما زالت الخلوة إلى كتاب أو مجلة، ولم أتقن أية لعبة من الألعاب التي كان أقراني يلعبونها في صباهم.
• طبعا، شعرتكم بالفارق التعليمي الكبير الذي كان يصب لمصلحة الطلاب المصريين في آداب القاهرة؟
بل على العكس مما توقعنا فقد كنا، نحن السعوديين في قسم اللغة العربية، نشعر بشيء من التفوق على زملائنا المصريين فيما يتعلق بالدراسات النحوية والبلاغية والدينية، وكانوا يتفوقون علينا في الدراسات النقدية واللغات الأجنبية والتاريخية، فدراستنا في المعهد العلمي في مكة هيأتنا للتفوق في تلك الدراسات، بينما وقفت بنا قاصرة عن تجويد الدراسات الاجتماعية واللغات الأجنبية، فلم يزد ما درسناه من اللغة الإنجليزية في المعهد عن المبادئ الأولية البسيطة على يد معلم مصري، وقد وجدنا الحل في ترتيب دروس خصوصية تولاها أحد الأساتذة المصريين العاملين في المعهد الثقافي البريطاني في القاهرة، فكان يلخص لنا تلك المقررات تلخيصا جيدا يضمن لنا النجاح، وإن كان يعطل فينا موهبة الفهم والفطانة، ولكن ليس باليد حيلة.
عنصرية الإنجليز
• لماذا هربت من إنجلترا وفاجأت زملاءك بالسفر إلى إيران ودراسة اللغة الفارسية؟
لأن الإنجليز عنصريون وامتحنوني لأن لوني أسمر في كل مكان، وكنا نذهب أنا والدكتور منصور الحازمي لنستأجر بيتا فيرفض الإنجليز عندما يروننا معا، وكنت أمازحه دائما (إذا أنت حربي وأنا تكروني ولوننا زي بعض، فما الفرق الذي بيني وبينك) .. وكان الإنجليز يقولون لي أنت نيجر يعني زنجي وكنت عندما أركب «الأندرغراوند» بعد العاشرة لا يصدقون أنني سعودي والحقيقة أنني لم أرتح هناك مع أنني ذهبت لتحضير الماجستير والدكتوراه في مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية في لندن، وكان لنصيحة المشرفة علي السيدة لامبتون بأهمية الذهاب إلى إيران إن كنت راغبا في دراسة اللغة الفارسية كما فعلت هي ذلك، خصوصا بعد أن أمضيت سنة كاملة أدرس عندها كتاب (المقالات الأربع) باللغة الفارسية ولم أفلح فيه، وقالت لي لو كنت ذهبت قبل سنة إلى إيران لكنت الآن تقرأ كتاب (شهنامة الفردوس)، وهذا الكتاب هو الأشهر بين الكتب الإيرانية لاحتوائه على ستين ألف بيت شعري، يعني لو ترصها من الملز إلى البطحاء ما يكفيها، فقررت أن أذهب إلى جامعة طهران وكانت خطوة جريئة لم يقم بها من قبل أي طالب سعودي.
• الغريب أنك اتجهت لدراسة اللغة الفارسية وليس الإنجليزية أو الفرنسية مثلا؟
اختلاطي مع الحجاج والمعتمرين في مكة المكرمة دفعني لهذا الاختيار، فعندما كنت أعمل مع بعض المطوفين في الحج كنت أستمتع بحديث حجاج العجم ووجدت في لغتهم جرسا خاصا في أذني لما تحتويه من كلمات عربية كثيرة، فأحببت اللغة الفارسية وتعلقت بها وتمنيت أن أتعلمها في يوم من الأيام، وعندما كبرت اكتشفت أن أقرب لغة إلى اللغة العربية في الأرض هي اللغة الفارسية بسبب أن 90 في المائة من حملة الثقافة الإسلامية من الفرس كالبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو حنيفة فارسي، كما أن جدة الإمام أحمد بن حنبل الشيباني من نيسابور في إيران، والأهم من هذا أن أكثر من خدموا الثقافة العربية هم الفرس إلى اليوم، ولو كان لي من الأمر شيء فلن أطلب من الطالب السعودي أو العربي أن يدرس الفرنسية أو الألمانية، وإنما اللغة الفارسية؛ لأنها اللغة الأقرب للغة العربية. والطريف أن الإخوة الإيرانيين إلى الآن لا يصدقون أنني سعودي عندما أتحدث معهم، ويقولون لي أنت من خوزستان وسكان هذه المناطق سود وليسوا سمر البشرة مثلي.
• لم تواجه أي صعوبات في طهران على مدى أربع سنوات كاملة؟
في البداية فقط وكانت مواقف فردية بأخطاء وجهل مني. والحقيقة أنني عشت بين الإيرانيين أربع سنوات وكنت سعيدا ومندمجا معهم وذهبت لقم وشيراز وأصفهان، وكنت أحب زيارة المناطق التراثية والألعاب مثل منطقة (زولخانة) التي يلعب فيها الإيرانيون المصارعة، وتعجبني طريقة احتفالاتهم وهوسهم وهيصتهم وهم بطبيعتهم بسطاء ويسهل التعامل معهم مادمت لا تتحدث في الدين والسياسة.
• لم تفكر في الزواج منهم؟
كنت مشغولا بالدراسة وأسابق الزمن لإكمال رسالة الدكتوراه والعودة مع زملائي الذين تركتهم في لندن مع إن الإيرانيات من أجمل نساء الأرض، لدرجة أن الفاتحين من المسلمين تزوجوا منهن وكان سيدنا عمر بن الخطاب ينبه الجيوش قبل لقاء الفرس بقوله: إن في نساء العجم خلابة والمرأة فتنة.
ولكنك لم تسلم من المخابرات الإيرانية المعروفة بـ(السافاك)؟
مرة واحدة فقط عندما اشتريت سيارة ألمانية مستعملة من نوع (بورجوا) للتنقل بها في العاصمة طهران، ومن سوء حظي أن تعطلت في أحد الأيام في الطريق الرئيسي المؤدي للمطار وكان الشاه محمد رضا بهلوي يستقبل في المطار الرئيس الفرنسي شارل ديغول، ويستعدان للخروج إلى الشارع ففوجئت بجنود السافاك يجرونني وجلسوا يحققون معي لمدة أسبوع، ثم أطلقوا سراحي بعد أن تأكدوا أنني طالب سعودي في جامعة طهران .
• وظللت حتى بعد عودتك من إيران موضع تساؤل؟
طلبوني أكثر من مرة للمساءلة وهذا من الأسباب التي دعتني لعدم السفر إلى إيران منذ أن تخرجت؛ لكي لا تحسب علي أي مواقف.
• ولكننا لا نرى إقبالا من الطلبة السعوديين والعرب على اللغة الفارسية؟
مجال الأدب الفارسي معدوم في المملكة وفي تصوري أن هناك سوء فهم بين العرب والفرس رغم وجود أشياء مشتركة كثيرة.
• مع أنك حاولت من خلال ترجماتك أن توضح الصورة؟
ما عملته مجرد اجتهادات لا أقل ولا أكثر كنت أحاول فيها أن ألامس الذائقة العربية، خصوصا في تناولي للترجمات العربية لرباعيات الخيام التي يظن البعض أنها لأحمد رامي والذي جعل رباعياته جميلة أن أم كلثوم غنتها، ولكن من بين 22 ترجمة عربية لم أجد أفضل من ترجمة البحريني إبراهيم العريض وبعده يأتي الشاعر العراقي الكبير أحمد الصافي النجفي، وله ترجمة جميلة جدا ولكن القضية قضية تذوق وذوق بالدرجة الأولى، وتظل ترجمة إبراهيم العريض الأفضل لأن أمه إيرانية وزوجته كذلك وعلاقته بالإيرانيين عاطفية ولذلك نجحت ترجمته.
• الملاحظ في كثير من كتاباتك أنك تميل إلى السخرية دائما؟
بصراحة هي محاولة للانتقام من نفسي ومن المجتمع للمعاناة واليتم والفقر والمرارة التي عشتها في طفولتي، وإلى الآن فأنا أميل حتى في قراءاتي إلى هذا الجانب، فمثلا كتاب المستطرف في كل فن مستظرف واحد من الكتب التي أقرأها مثل القرآن الكريم، وهناك بيت شعر لجرير مازلت أحفظه إلى الآن (وتقول بوزع قد شببت على العصا هلا هزئت بغيرنا يابوزع) وللعقاد كتاب عن جحا بعنوان (أمير المضحكين) أقرأه دائما وأنا من محبي جحا ونكاته، وفي اللغة الفارسية أميل إلى قراءة كتب الهزليين من الإيرانيين، وللعلم فهم من أكثر شعوب الأرض ظرفا وطرحا للنكت.
• وأنا أسألك أيضا .. أليس من السخرية أن يتقاعد رجل أوحد مثلك، ولا بديل له في مجال تخصصه، وهو قادر على العطاء؟
التقاعد في حقيقته شهادة وفاة تمنح للشخص المتقاعد مع ابتسامة، ولا أخفيك أنني تألمت في داخلي كثيرا وكنت آمل أن استمر في العطاء لسنوات، ولكن التقاعد سيف مسلط على الجميع وفيه إتاحة فرصة لأجيال جديدة؛ لكي تقدم ما تستطيع للبلد، وظللت حتى بعد التقاعد ومازلت أتمنى في داخلي أن أخدم بلدي وحلمت بأن أكون سفيرا وأن يستفاد من معرفتي باللغة والواقع الإيراني، ولكن هذه الأمور ليست بالأماني والرغبات.