يروى البيضاني في هذه الحلقة كيف نجح الوشاة والرافضون الاصلاح في الوقيعة بينه وبين الامام، موهمينه انه يدعو للثورة والتقليص من سلطاته، وهو امر غير صحيح على الاطلاق، لكنهم اغضبوا الامام فعاقبه بتعيينه ضابطا لمكافحة الجراد في صحراء تهامة، بعدما كان مستشارا بدرجة وزير. ويستعرض قصة علاج الامام في روما وحقنة المورفين التي جعلته ينام ثلاثة أيام متواصلة، لدرجة اعتقد معها البعض أنه قد فارق الحياة، فما كان من ولي العهد الامام البدر الا أن سارع بإعلان الاصلاحات، مما ادى الى اندلاع الشغب وما نتج عنه من عمليات قتل وحرق، هذا الاعلان عن الاصلاحات اغضب الامام حتى انه صفع ابنه البدر على وجهه وامام الجماهير التي احتشدت لتحيته في ميناء الحديدة.
«استدعانى الإمام من ألمانيا الغربية بعد مروري على القاهرة حيث كان مندوب الرئيس الامريكي أيزنهاور سوف يصل إلى اليمن لبحث نظرية الرئيس الامريكي لملء الفراغ الذى تركته فرنسا وانجلترا في المنطقة العربية، وعندما سألني الإمام عن موقفي قلت إن الرئيس عبد الناصر ضد سياسة الأحلاف، ووقف بقوة ضد حلف بغداد، أما موضوع التصدي لنشر الفكر الشيوعي في المنطقة فإن الرئيس عبد الناصر مقتنع جدا بأن الدول العربية مجتمعة تستطيع وقف النشاط الشيوعي في المنطقة.
وعندما وصل ريتشارد مندوب الرئيس ايز نهاور على متن طائرته الخاصة لمقابلة الإمام كان الإمام نائما حيث كان يأخذ حقنة مورفين، واستمر نائما لمدة يومين دون أن يجرؤ أي شخص على إيقاظه، وكنت كلما اتصل به يقولون لي إن الإمام نائم لدرجة أن المندوب ريتشارد فكر في مغادرة اليمن دون المقابلة لكن لم يكن أحد يستطيع أو يملك قرار أن يسافر ريتشارد بدون مقابلة الإمام الذي استيقظ في اليوم الثالث، وكان العرض الذي قدمه ريتشارد أن تنضم اليمن لمجموعة من الدول العربية لمحاربة ومنع انتشار الفكر الشيوعي مقابل أن تقوم الولايات المتحدة بإنشاء الطرق التي تحتاجها اليمن، وهنا سأل الإمام ريتشارد عن السبب الذي تريد واشنطن لأجله بناء الطرق، ولماذا الطرق تحديدا، وكان رده أن الولايات المتحدة تعلم حاجة اليمن إلى الطرق لذلك اندهش الإمام جدا بسبب وصول هذه المعلومات إلى الولايات المتحدة، وكان رده أنه لا يتفق مع الولايات المتحدة في أولوية حاجة اليمن للطرق فطرحت الولايات المتحدة تخصيص مبلغ وبعدها تكون الحرية للحكومة اليمنية في تقرير أوجه إنفاق هذه الأموال وقال الإمام إنه لا يوجد أى خطر شيوعي في اليمن، وأن الخطر الوحيد هم الإنجليز في الجنوب.. وسافر ريتشارد وبدأت البعثة العسكرية المصرية في تدريب الجنود اليمنيين وتخرجت دفعة سميت باسم البدر وتم افتتاح الكلية الحربية، وكلية الطيران، وكانت البعثة في سباق مع الزمن خوفا من أن يتراجع الإمام عن هذه الفكرة فأنجزت البعثة في ثلاثة شهور ما كان يمكن إنجازه في سنة كاملة.
الاصلاحات وعمليات الحرق والقتل
وصلني امر من الامام ان ألحق به في روما في صيف 1959 حيث قرر أن يصل إليها للعلاج من الأمراض التي لحقت به، وعندما وصلت وجدت حاشية الإمام تجلس حوله وتدعو له وتقرأ القرآن، وعلمت أن البدر بدأ في التحرك اعتقادا منه أن الإمام في سكرات الموت واعتقد الكثيرون ومنهم البدر أن الإمام لن يعود مرة أخرى، وبدأ الإمام في تشكيل أول مجلس نيابي برئاسة القاضي أحمد السياغي المعروف عنه كراهيته للامتيازات التي يحصل عليها الهاشميون وكان البدر يريد أن يؤكد أنه ضد امتيازات الهاشميين وأنه مع جموع الشعب ومع المساواة الكاملة في الوظائف، ولكن للأسف تسرع البدر في الإعلان عن هذه الإصلاحات وهو ما أدى لاندلاع الشغب ضد محافظي مناطق صنعاء وحرق بيت المحافظ يحيى العمري وقتل حاكم تعز أحمد الجبري وأخيه علي الجبري وأنا اعتقد أن الشيخ حميد بن حسين الحمد لو دخل صنعاء لكان أعلن قيام الجمهورية بمساعدة شيوخ ورؤساء القبائل ومساعدة القاضي أحمد السياغي أقوى شخصية في اليمن، وأراد الإمام ان يرجع الى اليمن بحرا على عكس رحلاته التي تكون دائما بالطائرة و طلب مني ان أسافر الى ألمانيا لإحضار يخت بحري يسافر به الى اليمن ، و عندما ذهبت لالمانيا اخبرني وزير الخارجية الالماني الهرفون برنتانو ان رجال الاعمال الألمان لا يمكن ان «يضيعوا وقتهم» في نزهات بحرية و نصحني بالبحث عن مثل هذه اليخوت في اليونان، و عندما عدت الى الامام لاخبره بما حدث في المانيا وجدته نائما و لم استطع مقابلته و كان الشائع ان الامام يحتضر لكن اثناء عودتي للفندق فكرت في العودة مرة اخرى للامام و عندما دخلت الى غرفة نومه في ظل حراس ايطاليين وجدت الامام مختلفا فهو يمشي في الغرفة و صحته اكثر من ممتازة و اخبرني انه لا يستعجل السفر وان صحته تتغير كل ساعة عن الاخرى ، و هنا ارسلت رسالتين الاولى الى ابن الامام وولي عهده البدر اطلب فيها ارجاء التصريحات حول الاصلاحات لان الامام بصحة جيدة و سوف يعود قريبا ، ثم ارسلت رسالة اخرى الى السادات عن طريق الملحق العسكري المصري في روما اطلب منه ان يبلغ عبد الناصر ان صحة الامام جيدة وانه على عبد الناصر ان يقوم بعمل اللازم حتى يزيل الوشايات التي قالها البعض للامام حول عبد الناصر الذي ينوي استضافة الامام في مصر ويدخله مصحة للاستشفاء يتولى على اثرها البدر السلطة ، رغم ان عبد الناصر و السادات لم يفكرا في ذلك مطلقا ، واتفقت مع القاضي محمد العمري انني سوف اسافر لالمانيا و لن اعود لايطاليا حتى لا اسافر لليمن و القيام برئاسة المحكمة او دور المدعي العام ، و عندما وصلت المانيا شعرت ببعض التعب فتوجهت للطبيب في المستشفى الجامعي في بون وفوجئت باصابتي بالسكر ، و كان الطبيب الالماني في غاية الدهشة لانه فحصني قبل شهر و كانت صحتي جيدة الامر الذي جعله يفسر اصابتي بالسكر الى تعرضي لضغط نفسي كبير جدا اثناء وجود الامام في روما، ونصحني الطبيب بالاقامة في المستشفى الجامعي لمدة اسبوعين حتى يتم ضبط السكر و هذه هي طريقة الالمان في علاج السكر ومازلت حتى الان اعاني من مرض السكر الذي اعانني الله على الالتزام بشروط صداقته الثقيلة طوال 47 عاما ، و ارسلت برقية للامام اعتذر فيها عن عودتي لروما معللا ذلك باقامتي في المستشفى و ارسلت له تقرير الطبيب حول اصابتي بالسكر، لكن الامام استاء جدا من اعتذاري و اعتقد انني فعلت ذلك حتى اهرب من القيام بمهمة المدعي العام أمام المحكمة التي أراد ان ينشئها خصيصا للمتورطين في أحداث تعز.
الامام يناور بالطائرة واليخت
ورغم سعي الامام الى العودة لليمن عن طريق اليخت الا انه استقل طائرة ووصل الخبر لليمن ان الامام سوف يأتي على عجل بالطائرة ، لكن و بينما الطائرة تحلق في الجو و في منتصف الطريق طلب الامام العودة لايطاليا و اخذ يخت بحري ، ولعل الامام كان يقصد من ذلك انه عندما يصل الخبر الى اليمن تظهر كل المكائد والخطط التي كان البدوي و غيره ينوون القيام بها ، و بالتالي يستطيع الامام عن طريق عيونه في اليمن معرفة هؤلاء و محاكمتهم، و عندما يأخذ اليخت يستطيع ان يفكر في الطريقة التي سيتعامل بها مع المعارضين له، و عندما وصل الامام الى بورسعيد كان الرئيس جمال عبد الناصر في استقباله و صعد عبد الناصر الى السفينة، و كان الامام خائفا من استقباله في مصر ، و كان يعتقد ان كل ما يحدث في اليمن وراءه مصر .
صفعة البدر
عندما وصل الإمام الى ميناء الحديدة كان البدر في استقباله وكانت هناك حشود ضخمة من الجماهير ، كما علقت الزينة ابتهاجا بعودته وقام بصفع البدر على وجهه أمام الحضور ، و القى الإمام خطبة نقلتها إذاعة صنعاء هدد فيها الجميع ووصف من قاموا بعمليات تعز بأنهم سفهاء و نتيجة لغضب الإمام علي قام بنقلي من المانيا الغربية الى السودان وكنت وقتها انتهيت من بكالوريوس الاقتصاد السياسي و العلوم المالية من جامعة بون و سجلت رسالة الدكتوراه عن إصلاح اليمن الاقتصادي.
و عندما وصلت السودان و بعد 13 يوما وصلتني رسالة من الامام تدعوني للعودة فورا لليمن ، وفي نفس الوقت وصلتني رسالة من الرئيس انور السادات عن طريق السفير محمد سيف اليزل سفير مصر في الخرطوم ينصحني باسم الرئيس جمال عبد الناصر بعدم العودة لليمن حيث كان الامام يتهمني بانني كنت من بين الذين حرضوا البدر على اعلان خطوات اصلاحية اثناء غيابه في روما. ووجدت نفسي في حيرة شديدة فاذا رجعت قد يقتلني الامام وهذا احتمال ، لكن اذا لم اسافر فقد قتلت آمالي في الاصلاح و هذا يقين ، و كعادتي عندما اقوم بتحليل سلوكي و اختيار منهجي فانني اتحاشى التهلكة بالخطر اليقين واقبل المجازفة بالخطر المحتمل ، لذلك قررت العودة الى اليمن على خلاف نصيحة السادات و عبد الناصر حتى يمكن انقاذ ما يمكن انقاذه ، و عندما وصلت الحديدة كنت اتمنى مقابلة البدر لكنني وجدته سافر الى صنعاء ، وصلت سيارة من الامام لتنقلني الى منطقة السخنة التي يقيم فيها ، و علمت انه يقوم بقتل كل من يشك في ولائهم له سرا عن طريق عمل حوادث للسيارات في الطريق الوعر بين الحديدة و السخنة المليء بالأشجار الصغيرة ، و نصحني أصدقائي في الحديدة بعدم السفر في سيارة الامام و سافرت في سيارة خاصة ، و عندما رآني الامام استغرب جدا اذ و جدني على قيد الحياة ، و عندما سألته عن السبب الذى دعاني من اجله للوصول الى اليمن قال انه سيبحثه معي فيما بعد، وطلب مني العودة الى الحديدة ، و كانت وقتها الحرب مشتعلة بين قوات الامام وبين قبائل آل الاحمر و من يقف معهم ، حيث لعب الامام حربا نفسية ناجحة ضد آل الاحمر اجبر على اثرها الشيخ حسين الاحمر على تصديق وعد الامام بانه اذا جاء السخنة فان دمه حرام ، و ماله حرام ، فتوجه الى السخنة و قابل الامام لكن الامام نفذ ما في نفسه وأمر باعتقاله.
انهيار ثقتي في البدر
وهنا انهارت ثقتي في البدر تماما فها هما الشيخ حسين الاحمر و ابنه حميد الاحمر يساقان الى سجن صحية ، و البدر يشدد عليهما الحراسة بعد ان وقفا معه ووضعا حياتهما من اجله ، وكنت لا اصدق ما قام به البدر ، فلم ينفع صديقا ، و لم يشفع لاحد ، و كان الشيخ عبد الله بن حسين الاحمر شقيق الامام يقيم في الغرفة المجاورة لغرفتي في دار الضيافة في السخنة وكان يحاول استعطاف الامام للافراج عن ابيه و اخيه ، و رغم يأسي من البدر وعدت الشيخ عبدالله الاحمر ان اسعى لدى البدر حتى يستعطف والده و يفرج عن الشيخ حسين الاحمر و ابنه حميد وكان البدر قد وصل من الحديدة الى السخنة و اقام في قصر اليوني و في الصباح استخدمت سيارة احد الأصدقاء بعد الهروب من سيارة الإمام ووصلت الحديدة و التقيت البدر ، و اقسم لي البدر على نواياه الإصلاحية ، و ان ما حدث اثناء غياب الامام في روما يؤكد نواياه للإصلاح ، لكنه في نفس الوقت لا يستطيع ان يرد اي امر للامام مهما كان ، ولا يستطيع ان يتشفع لاحد ، و ان الشيخ حسين الأحمر و ابنه حميد اذا قتلهما الامام سيكونان شهيدين تمتلئ بهما صفحات التاريخ.
و أثناء اقامتي في دار الضيافة وصل الى اليمن مجموعة من شيوخ القبائل الذين كانوا يقيمون في المملكة ووعدهم الإمام بالسلامة اذا عادوا الى اليمن ووعد بذلك الملك سعود رحمه الله لكن عندما عاد هؤلاء نفذ الإمام فيهم أمر الإعدام ، و كان من المألوف ان تخرج سيارات الإمام منطقة السخنة و بها ضيوفه و معهم الجنود لحمايتهم ، لكن بعد فترة قصيرة تعود السيارات والجنود ولا يعود الضيوف.
مستشار للإمام بدرجة وزير
كانت علاقة قوية تربطني بمحمد احمد باشا وكنت اقضي اليوم عنده ، وكان يلعب الشطرنج مثلي كما كان مصابا ايضا بالسكر.
وفي أحد الايام تشجع السيد محمد باشا و تحدث عني لدى الامام و ذكره بموقفي من انقلاب محمد يحيى الثلايا و محمد قائد سيف في مارس 1955 ، و كيف كنت وفيا للإمام اثناء محاكمة الاطباء الهولنديين ، و اعاد على سمعه الاعمال السياسية والاتــفـــاقيـات الاقــــتصاديـــة وتمثيلي للحكومة في المؤتمرات الدولية ، ووصلت وقتها بعثة امريكية للتنقيب عن البترول في اليمن ، و انشاء بنك امريكي ، وحاول وزراء الامام التوصل لابعاد الموضوع لكنهم لم يتوصلوا لشيء. و اقترح احمد باشا ان يكلفني الامام بدراسة الاتفاقية بحكم تخصصي فأصدر الامام قرارا بتعييني مستشارا بدرجة وزير ، ففرحت جدا و فرح معي السيد احمد باشا الذي نجح كثيرا في استمالة الامام لتعييني و التوقف عن ذبح الوطنيين و قتلهم ، و قمت على الفور باعداد دراسة اقتصادية عن احوال اليمن قدمتها لكل الوزراء المعينين و حاشية الامام و البدر و جميعهم وافقوا ثم عرضتها على الامام نفسه فوافق في 30 اكتوبر 1959 ، و جاءني عبدالله الصقيل و هو صحفي لامع في صحيفة الطليعة لاجراء حديث صحفي حول التقرير ووافقت و نشر التقرير الذي قدمته للامام ، لكن الذين لا يريدون الاصلاح لليمن و يهمهم استمرار الوضع كما هو عليه قالوا للامام ان هناك بعض الفقرات تدعو للثورة وتقلل من سلطات الامام و هذا غير صحيح ، و قلت في بداية التقرير إن الإصلاح يحتاج إلى ثلاثة اشياء: إرادة وتخطيط ورأس مال وقصدت بالارادة ارادة مولانا الإمام ، لكن كلام الوشاة جعل الإمام يغضب مني و يقوم بتعييني ضابطا لمكافحة الجراد في صحراء تهامة على ساحل اليمن.
«استدعانى الإمام من ألمانيا الغربية بعد مروري على القاهرة حيث كان مندوب الرئيس الامريكي أيزنهاور سوف يصل إلى اليمن لبحث نظرية الرئيس الامريكي لملء الفراغ الذى تركته فرنسا وانجلترا في المنطقة العربية، وعندما سألني الإمام عن موقفي قلت إن الرئيس عبد الناصر ضد سياسة الأحلاف، ووقف بقوة ضد حلف بغداد، أما موضوع التصدي لنشر الفكر الشيوعي في المنطقة فإن الرئيس عبد الناصر مقتنع جدا بأن الدول العربية مجتمعة تستطيع وقف النشاط الشيوعي في المنطقة.
وعندما وصل ريتشارد مندوب الرئيس ايز نهاور على متن طائرته الخاصة لمقابلة الإمام كان الإمام نائما حيث كان يأخذ حقنة مورفين، واستمر نائما لمدة يومين دون أن يجرؤ أي شخص على إيقاظه، وكنت كلما اتصل به يقولون لي إن الإمام نائم لدرجة أن المندوب ريتشارد فكر في مغادرة اليمن دون المقابلة لكن لم يكن أحد يستطيع أو يملك قرار أن يسافر ريتشارد بدون مقابلة الإمام الذي استيقظ في اليوم الثالث، وكان العرض الذي قدمه ريتشارد أن تنضم اليمن لمجموعة من الدول العربية لمحاربة ومنع انتشار الفكر الشيوعي مقابل أن تقوم الولايات المتحدة بإنشاء الطرق التي تحتاجها اليمن، وهنا سأل الإمام ريتشارد عن السبب الذي تريد واشنطن لأجله بناء الطرق، ولماذا الطرق تحديدا، وكان رده أن الولايات المتحدة تعلم حاجة اليمن إلى الطرق لذلك اندهش الإمام جدا بسبب وصول هذه المعلومات إلى الولايات المتحدة، وكان رده أنه لا يتفق مع الولايات المتحدة في أولوية حاجة اليمن للطرق فطرحت الولايات المتحدة تخصيص مبلغ وبعدها تكون الحرية للحكومة اليمنية في تقرير أوجه إنفاق هذه الأموال وقال الإمام إنه لا يوجد أى خطر شيوعي في اليمن، وأن الخطر الوحيد هم الإنجليز في الجنوب.. وسافر ريتشارد وبدأت البعثة العسكرية المصرية في تدريب الجنود اليمنيين وتخرجت دفعة سميت باسم البدر وتم افتتاح الكلية الحربية، وكلية الطيران، وكانت البعثة في سباق مع الزمن خوفا من أن يتراجع الإمام عن هذه الفكرة فأنجزت البعثة في ثلاثة شهور ما كان يمكن إنجازه في سنة كاملة.
الاصلاحات وعمليات الحرق والقتل
وصلني امر من الامام ان ألحق به في روما في صيف 1959 حيث قرر أن يصل إليها للعلاج من الأمراض التي لحقت به، وعندما وصلت وجدت حاشية الإمام تجلس حوله وتدعو له وتقرأ القرآن، وعلمت أن البدر بدأ في التحرك اعتقادا منه أن الإمام في سكرات الموت واعتقد الكثيرون ومنهم البدر أن الإمام لن يعود مرة أخرى، وبدأ الإمام في تشكيل أول مجلس نيابي برئاسة القاضي أحمد السياغي المعروف عنه كراهيته للامتيازات التي يحصل عليها الهاشميون وكان البدر يريد أن يؤكد أنه ضد امتيازات الهاشميين وأنه مع جموع الشعب ومع المساواة الكاملة في الوظائف، ولكن للأسف تسرع البدر في الإعلان عن هذه الإصلاحات وهو ما أدى لاندلاع الشغب ضد محافظي مناطق صنعاء وحرق بيت المحافظ يحيى العمري وقتل حاكم تعز أحمد الجبري وأخيه علي الجبري وأنا اعتقد أن الشيخ حميد بن حسين الحمد لو دخل صنعاء لكان أعلن قيام الجمهورية بمساعدة شيوخ ورؤساء القبائل ومساعدة القاضي أحمد السياغي أقوى شخصية في اليمن، وأراد الإمام ان يرجع الى اليمن بحرا على عكس رحلاته التي تكون دائما بالطائرة و طلب مني ان أسافر الى ألمانيا لإحضار يخت بحري يسافر به الى اليمن ، و عندما ذهبت لالمانيا اخبرني وزير الخارجية الالماني الهرفون برنتانو ان رجال الاعمال الألمان لا يمكن ان «يضيعوا وقتهم» في نزهات بحرية و نصحني بالبحث عن مثل هذه اليخوت في اليونان، و عندما عدت الى الامام لاخبره بما حدث في المانيا وجدته نائما و لم استطع مقابلته و كان الشائع ان الامام يحتضر لكن اثناء عودتي للفندق فكرت في العودة مرة اخرى للامام و عندما دخلت الى غرفة نومه في ظل حراس ايطاليين وجدت الامام مختلفا فهو يمشي في الغرفة و صحته اكثر من ممتازة و اخبرني انه لا يستعجل السفر وان صحته تتغير كل ساعة عن الاخرى ، و هنا ارسلت رسالتين الاولى الى ابن الامام وولي عهده البدر اطلب فيها ارجاء التصريحات حول الاصلاحات لان الامام بصحة جيدة و سوف يعود قريبا ، ثم ارسلت رسالة اخرى الى السادات عن طريق الملحق العسكري المصري في روما اطلب منه ان يبلغ عبد الناصر ان صحة الامام جيدة وانه على عبد الناصر ان يقوم بعمل اللازم حتى يزيل الوشايات التي قالها البعض للامام حول عبد الناصر الذي ينوي استضافة الامام في مصر ويدخله مصحة للاستشفاء يتولى على اثرها البدر السلطة ، رغم ان عبد الناصر و السادات لم يفكرا في ذلك مطلقا ، واتفقت مع القاضي محمد العمري انني سوف اسافر لالمانيا و لن اعود لايطاليا حتى لا اسافر لليمن و القيام برئاسة المحكمة او دور المدعي العام ، و عندما وصلت المانيا شعرت ببعض التعب فتوجهت للطبيب في المستشفى الجامعي في بون وفوجئت باصابتي بالسكر ، و كان الطبيب الالماني في غاية الدهشة لانه فحصني قبل شهر و كانت صحتي جيدة الامر الذي جعله يفسر اصابتي بالسكر الى تعرضي لضغط نفسي كبير جدا اثناء وجود الامام في روما، ونصحني الطبيب بالاقامة في المستشفى الجامعي لمدة اسبوعين حتى يتم ضبط السكر و هذه هي طريقة الالمان في علاج السكر ومازلت حتى الان اعاني من مرض السكر الذي اعانني الله على الالتزام بشروط صداقته الثقيلة طوال 47 عاما ، و ارسلت برقية للامام اعتذر فيها عن عودتي لروما معللا ذلك باقامتي في المستشفى و ارسلت له تقرير الطبيب حول اصابتي بالسكر، لكن الامام استاء جدا من اعتذاري و اعتقد انني فعلت ذلك حتى اهرب من القيام بمهمة المدعي العام أمام المحكمة التي أراد ان ينشئها خصيصا للمتورطين في أحداث تعز.
الامام يناور بالطائرة واليخت
ورغم سعي الامام الى العودة لليمن عن طريق اليخت الا انه استقل طائرة ووصل الخبر لليمن ان الامام سوف يأتي على عجل بالطائرة ، لكن و بينما الطائرة تحلق في الجو و في منتصف الطريق طلب الامام العودة لايطاليا و اخذ يخت بحري ، ولعل الامام كان يقصد من ذلك انه عندما يصل الخبر الى اليمن تظهر كل المكائد والخطط التي كان البدوي و غيره ينوون القيام بها ، و بالتالي يستطيع الامام عن طريق عيونه في اليمن معرفة هؤلاء و محاكمتهم، و عندما يأخذ اليخت يستطيع ان يفكر في الطريقة التي سيتعامل بها مع المعارضين له، و عندما وصل الامام الى بورسعيد كان الرئيس جمال عبد الناصر في استقباله و صعد عبد الناصر الى السفينة، و كان الامام خائفا من استقباله في مصر ، و كان يعتقد ان كل ما يحدث في اليمن وراءه مصر .
صفعة البدر
عندما وصل الإمام الى ميناء الحديدة كان البدر في استقباله وكانت هناك حشود ضخمة من الجماهير ، كما علقت الزينة ابتهاجا بعودته وقام بصفع البدر على وجهه أمام الحضور ، و القى الإمام خطبة نقلتها إذاعة صنعاء هدد فيها الجميع ووصف من قاموا بعمليات تعز بأنهم سفهاء و نتيجة لغضب الإمام علي قام بنقلي من المانيا الغربية الى السودان وكنت وقتها انتهيت من بكالوريوس الاقتصاد السياسي و العلوم المالية من جامعة بون و سجلت رسالة الدكتوراه عن إصلاح اليمن الاقتصادي.
و عندما وصلت السودان و بعد 13 يوما وصلتني رسالة من الامام تدعوني للعودة فورا لليمن ، وفي نفس الوقت وصلتني رسالة من الرئيس انور السادات عن طريق السفير محمد سيف اليزل سفير مصر في الخرطوم ينصحني باسم الرئيس جمال عبد الناصر بعدم العودة لليمن حيث كان الامام يتهمني بانني كنت من بين الذين حرضوا البدر على اعلان خطوات اصلاحية اثناء غيابه في روما. ووجدت نفسي في حيرة شديدة فاذا رجعت قد يقتلني الامام وهذا احتمال ، لكن اذا لم اسافر فقد قتلت آمالي في الاصلاح و هذا يقين ، و كعادتي عندما اقوم بتحليل سلوكي و اختيار منهجي فانني اتحاشى التهلكة بالخطر اليقين واقبل المجازفة بالخطر المحتمل ، لذلك قررت العودة الى اليمن على خلاف نصيحة السادات و عبد الناصر حتى يمكن انقاذ ما يمكن انقاذه ، و عندما وصلت الحديدة كنت اتمنى مقابلة البدر لكنني وجدته سافر الى صنعاء ، وصلت سيارة من الامام لتنقلني الى منطقة السخنة التي يقيم فيها ، و علمت انه يقوم بقتل كل من يشك في ولائهم له سرا عن طريق عمل حوادث للسيارات في الطريق الوعر بين الحديدة و السخنة المليء بالأشجار الصغيرة ، و نصحني أصدقائي في الحديدة بعدم السفر في سيارة الامام و سافرت في سيارة خاصة ، و عندما رآني الامام استغرب جدا اذ و جدني على قيد الحياة ، و عندما سألته عن السبب الذى دعاني من اجله للوصول الى اليمن قال انه سيبحثه معي فيما بعد، وطلب مني العودة الى الحديدة ، و كانت وقتها الحرب مشتعلة بين قوات الامام وبين قبائل آل الاحمر و من يقف معهم ، حيث لعب الامام حربا نفسية ناجحة ضد آل الاحمر اجبر على اثرها الشيخ حسين الاحمر على تصديق وعد الامام بانه اذا جاء السخنة فان دمه حرام ، و ماله حرام ، فتوجه الى السخنة و قابل الامام لكن الامام نفذ ما في نفسه وأمر باعتقاله.
انهيار ثقتي في البدر
وهنا انهارت ثقتي في البدر تماما فها هما الشيخ حسين الاحمر و ابنه حميد الاحمر يساقان الى سجن صحية ، و البدر يشدد عليهما الحراسة بعد ان وقفا معه ووضعا حياتهما من اجله ، وكنت لا اصدق ما قام به البدر ، فلم ينفع صديقا ، و لم يشفع لاحد ، و كان الشيخ عبد الله بن حسين الاحمر شقيق الامام يقيم في الغرفة المجاورة لغرفتي في دار الضيافة في السخنة وكان يحاول استعطاف الامام للافراج عن ابيه و اخيه ، و رغم يأسي من البدر وعدت الشيخ عبدالله الاحمر ان اسعى لدى البدر حتى يستعطف والده و يفرج عن الشيخ حسين الاحمر و ابنه حميد وكان البدر قد وصل من الحديدة الى السخنة و اقام في قصر اليوني و في الصباح استخدمت سيارة احد الأصدقاء بعد الهروب من سيارة الإمام ووصلت الحديدة و التقيت البدر ، و اقسم لي البدر على نواياه الإصلاحية ، و ان ما حدث اثناء غياب الامام في روما يؤكد نواياه للإصلاح ، لكنه في نفس الوقت لا يستطيع ان يرد اي امر للامام مهما كان ، ولا يستطيع ان يتشفع لاحد ، و ان الشيخ حسين الأحمر و ابنه حميد اذا قتلهما الامام سيكونان شهيدين تمتلئ بهما صفحات التاريخ.
و أثناء اقامتي في دار الضيافة وصل الى اليمن مجموعة من شيوخ القبائل الذين كانوا يقيمون في المملكة ووعدهم الإمام بالسلامة اذا عادوا الى اليمن ووعد بذلك الملك سعود رحمه الله لكن عندما عاد هؤلاء نفذ الإمام فيهم أمر الإعدام ، و كان من المألوف ان تخرج سيارات الإمام منطقة السخنة و بها ضيوفه و معهم الجنود لحمايتهم ، لكن بعد فترة قصيرة تعود السيارات والجنود ولا يعود الضيوف.
مستشار للإمام بدرجة وزير
كانت علاقة قوية تربطني بمحمد احمد باشا وكنت اقضي اليوم عنده ، وكان يلعب الشطرنج مثلي كما كان مصابا ايضا بالسكر.
وفي أحد الايام تشجع السيد محمد باشا و تحدث عني لدى الامام و ذكره بموقفي من انقلاب محمد يحيى الثلايا و محمد قائد سيف في مارس 1955 ، و كيف كنت وفيا للإمام اثناء محاكمة الاطباء الهولنديين ، و اعاد على سمعه الاعمال السياسية والاتــفـــاقيـات الاقــــتصاديـــة وتمثيلي للحكومة في المؤتمرات الدولية ، ووصلت وقتها بعثة امريكية للتنقيب عن البترول في اليمن ، و انشاء بنك امريكي ، وحاول وزراء الامام التوصل لابعاد الموضوع لكنهم لم يتوصلوا لشيء. و اقترح احمد باشا ان يكلفني الامام بدراسة الاتفاقية بحكم تخصصي فأصدر الامام قرارا بتعييني مستشارا بدرجة وزير ، ففرحت جدا و فرح معي السيد احمد باشا الذي نجح كثيرا في استمالة الامام لتعييني و التوقف عن ذبح الوطنيين و قتلهم ، و قمت على الفور باعداد دراسة اقتصادية عن احوال اليمن قدمتها لكل الوزراء المعينين و حاشية الامام و البدر و جميعهم وافقوا ثم عرضتها على الامام نفسه فوافق في 30 اكتوبر 1959 ، و جاءني عبدالله الصقيل و هو صحفي لامع في صحيفة الطليعة لاجراء حديث صحفي حول التقرير ووافقت و نشر التقرير الذي قدمته للامام ، لكن الذين لا يريدون الاصلاح لليمن و يهمهم استمرار الوضع كما هو عليه قالوا للامام ان هناك بعض الفقرات تدعو للثورة وتقلل من سلطات الامام و هذا غير صحيح ، و قلت في بداية التقرير إن الإصلاح يحتاج إلى ثلاثة اشياء: إرادة وتخطيط ورأس مال وقصدت بالارادة ارادة مولانا الإمام ، لكن كلام الوشاة جعل الإمام يغضب مني و يقوم بتعييني ضابطا لمكافحة الجراد في صحراء تهامة على ساحل اليمن.