هل من السذاجة أن نطالب أو نتوقع نهاية عادلة في عالم السياسية؟ بشكل خاص السياسية الأمريكية؟
السذاجة الحقيقية برأيي والتي يعاني منها العالم العربي عند محاولة فهمه وتعاطيه مع الولايات المتحدة الأمريكية هي القوالب والنعوتات الجاهزة ونظريات المؤامرة التي توفر حلا مناسبا ومريحا جدا لجهل العامة وكسل المعلقين ممن يتعاطون الكتابة السياسية أو مع الأسف في حالات كثيرة تورطهم *بديماغوجية غوغائية لا توفر معلومة محايدة وتحليلا دقيقا للقراء. لازالت أمريكا ومؤسساتها السياسية غامضة عصية الفهم على العرب، يتوجسون منها يقتربون ويبتعدون تماما كتوجس الرجل البدائي عند اكتشافه النار لأول مرة.
عندما انتخبت أمريكا في نوفمبر الماضي رجلا أسود أقسم في يناير على الدستور الأمريكي باسمه الكامل باراك الاسم السواحيلي المشتق من مبارك بالعربية، حسين اسم أبيه المسلم وأوباما اسم قبيلته الكينية، لم يتم ذلك عبثا. أمريكا أرادت التغيير وانتخبت الرجل الذي وعدها بإرجاع الحلم الأمريكي، باسترداد مكانة أمريكا حول العالم، باحترام الدستور وهذه كانت ركيزة أساسية من ركائز حملته الذي حصدت له غالبية الأصوات، خصوصا من الطبقة البيضاء المتوسطة هنا. أوباما هو إذا تجسيد لهذا الحلم الأمريكي الذي ذكرنا به في خطبته القاهرية لاستمالتنا، وهذا ليس مجرد بطاقة بريدية من عالم ديزني للفأر الأشهر ميكي ماوس ضاحكا وليس كأحلام العرب «بأمجادهم وانتصاراتهم الكبرى» طبعا في مخيلتهم الواسعة فحسب. هذا الحلم هو في الحقيقة رغبة أمريكية عارمة في العودة إلى بدايات مشرقة في التاريخ الأمريكي عندما خاطب الرئيس الأمريكي السادس جون كوينسي آدمز الشعب بمناسبة يوم الاستقلال الأمريكي العام 1821 قائلا: «ليس من المفترض أن تذهب أمريكا خارجا للبحث عن وحوش لتدميرها.عندما يحصل هذا قد تصبح ديكتاتور العالم ولن تكون قادرة بعدها على أن تكون سيدة نفسها.»
نهاية «مهمة أمريكا القذرة» ليست واضحة المعالم في الفترة الحالية بشكل قاطع، وإن أصبحت الكفة تميل مؤخرا لرغبة في المكاشفة والمصارحة. أحب أن أنوه هنا إلى جزئية مهمة جدا في تفصيل برامج التعذيب هذه والتي من أجلها أشرت سابقا إلى أن أوباما يواجه مأزقا أخلاقيا بسببها، وأكرر لا أعني بالمأزق هنا كفضيلة وهبة يمتلكها الرئيس الحالي حصريا بل شأنا عاما قوميا يمس فكرة الحرية الأمريكية التي يقوم عليها الدستور ونظام البلد بشكل عام. هذه الجزئية المفصلية هي أن برامج تعذيب السجناء في عهد بوش وبطلب من وزير الدفاع الأسبق دونالد رامسفيلد صممت باقتباس برنامج عسكري سِري أمريكي محاكيا ماكان يتعرض له الجنود الأمريكيون من تعذيب من قبل الصينيين أيام الحرب في كوريا في الخمسينات بغرض تدريب الجنود الأمريكيين على وسائل تعذيب العدو. طبعا أساليب التعذيب التي مارسها الصينيون سابقا والتي جرمتها الأنظمة الأمريكية بالكامل متهمة محتقرة العدو الأحمر الشيوعي باللاإنسانية وانعدام الأخلاق وهلمجرا وهذا هو لب المعضلة الأخلاقية التي تؤرق الأمريكان حاليا.
الكونغرس غاضب ومحتقن بسبب إخفاء وكالة الاستخبارات الأمريكية تفاصيل برامج مكافحة الإرهاب كما تبين ذلك الأسبوع الماضي فقط، الصحافة هنا والمدونون أيضا يطالبون بالشفافية. أمريكا ليست قانعة الآن بما قاله أوباما عن ضرورة كشف الحقائق ولكن تفضيله عدم البقاء في الماضي في منتصف أبريل الماضي عند الكشف لأول مرة عن وثائق بوش للتعذيب. مقولته حينها كانت مناورة سياسية تحاول جس نبض الرأي العام بلباقة و تأمل في القفز على مستنقع كوارث بوش الابن. حتى نائب الرئيس الأسبق ديك تشيني صاحب العبارة الأشهر التي وصفت التعذيب «بالمهمة القذرة، القاسية واللئيمة» حاول مؤخرا التنصل من المسؤولية في خطاب ألقاه بداية الشهر الماضي، زاعما أن التعذيب بدأ بطلب من السي آي ايه ولم يكن فكرة البيت الأبيض بالأساس.
هذا ما يحصل في أمريكا ولكن ماذا عنا نحن المشككين في نوايا أمريكا تجاه العالم الإسلامي المعارضين دائما والبارعين في صياغة نظريات مؤامرة عجيبة، تأكد لنا نباهة عربية فريدة في صنع أشباح طواحين وهمية توجب أن نحاربها بضراوة غابت عنا الجرأة الحقيقية في فتح هذا الملف الشائك. ولكنها لحسن الحظ لم تغب عن طالب الصف الرابع اليهودي الأمريكي ميشا البالغ من العمر تسع سنوات الذي سأل كوندليزا رايس بصراحة بعد إلقائها خطابا في مدرسته عن رأيها في ما تقوله إدارة أوباما عن الأساليب التي استخدمتها إدارة بوش السابقة عند التحقيق مع السجناء؟ بالأصح سؤال ميشا الأساسي كان: إذا عملت مع إدارة أوباما هل كنت ستشجعين استخدام التعذيب؟ لكن طلب أساتذة ميشا منه إعادة الصياغة، حيث لم يحبذوا استخدام مفردة التعذيب حسبما صرحت والدة الطفل للإعلام الأمريكي. لله درك يا ميشا. بقي للشرفاء ومنظمات حقوق الإنسان في عالمنا العربي إظهار مساندتهم ورغبتهم في «بداية جديدة» مع أمريكا تبدأ من نهاية عادلة تحترم كرامة الطرفين.
*ديماغوجية: أي خطاب / خطيب يستخدم خطابا شعبيا، مستغلا رغبات الجماهير لتهييجهم وكسب ودهم عوضا عن انتهاج منهج العقلانية.
ebtihalus@gmail.com
السذاجة الحقيقية برأيي والتي يعاني منها العالم العربي عند محاولة فهمه وتعاطيه مع الولايات المتحدة الأمريكية هي القوالب والنعوتات الجاهزة ونظريات المؤامرة التي توفر حلا مناسبا ومريحا جدا لجهل العامة وكسل المعلقين ممن يتعاطون الكتابة السياسية أو مع الأسف في حالات كثيرة تورطهم *بديماغوجية غوغائية لا توفر معلومة محايدة وتحليلا دقيقا للقراء. لازالت أمريكا ومؤسساتها السياسية غامضة عصية الفهم على العرب، يتوجسون منها يقتربون ويبتعدون تماما كتوجس الرجل البدائي عند اكتشافه النار لأول مرة.
عندما انتخبت أمريكا في نوفمبر الماضي رجلا أسود أقسم في يناير على الدستور الأمريكي باسمه الكامل باراك الاسم السواحيلي المشتق من مبارك بالعربية، حسين اسم أبيه المسلم وأوباما اسم قبيلته الكينية، لم يتم ذلك عبثا. أمريكا أرادت التغيير وانتخبت الرجل الذي وعدها بإرجاع الحلم الأمريكي، باسترداد مكانة أمريكا حول العالم، باحترام الدستور وهذه كانت ركيزة أساسية من ركائز حملته الذي حصدت له غالبية الأصوات، خصوصا من الطبقة البيضاء المتوسطة هنا. أوباما هو إذا تجسيد لهذا الحلم الأمريكي الذي ذكرنا به في خطبته القاهرية لاستمالتنا، وهذا ليس مجرد بطاقة بريدية من عالم ديزني للفأر الأشهر ميكي ماوس ضاحكا وليس كأحلام العرب «بأمجادهم وانتصاراتهم الكبرى» طبعا في مخيلتهم الواسعة فحسب. هذا الحلم هو في الحقيقة رغبة أمريكية عارمة في العودة إلى بدايات مشرقة في التاريخ الأمريكي عندما خاطب الرئيس الأمريكي السادس جون كوينسي آدمز الشعب بمناسبة يوم الاستقلال الأمريكي العام 1821 قائلا: «ليس من المفترض أن تذهب أمريكا خارجا للبحث عن وحوش لتدميرها.عندما يحصل هذا قد تصبح ديكتاتور العالم ولن تكون قادرة بعدها على أن تكون سيدة نفسها.»
نهاية «مهمة أمريكا القذرة» ليست واضحة المعالم في الفترة الحالية بشكل قاطع، وإن أصبحت الكفة تميل مؤخرا لرغبة في المكاشفة والمصارحة. أحب أن أنوه هنا إلى جزئية مهمة جدا في تفصيل برامج التعذيب هذه والتي من أجلها أشرت سابقا إلى أن أوباما يواجه مأزقا أخلاقيا بسببها، وأكرر لا أعني بالمأزق هنا كفضيلة وهبة يمتلكها الرئيس الحالي حصريا بل شأنا عاما قوميا يمس فكرة الحرية الأمريكية التي يقوم عليها الدستور ونظام البلد بشكل عام. هذه الجزئية المفصلية هي أن برامج تعذيب السجناء في عهد بوش وبطلب من وزير الدفاع الأسبق دونالد رامسفيلد صممت باقتباس برنامج عسكري سِري أمريكي محاكيا ماكان يتعرض له الجنود الأمريكيون من تعذيب من قبل الصينيين أيام الحرب في كوريا في الخمسينات بغرض تدريب الجنود الأمريكيين على وسائل تعذيب العدو. طبعا أساليب التعذيب التي مارسها الصينيون سابقا والتي جرمتها الأنظمة الأمريكية بالكامل متهمة محتقرة العدو الأحمر الشيوعي باللاإنسانية وانعدام الأخلاق وهلمجرا وهذا هو لب المعضلة الأخلاقية التي تؤرق الأمريكان حاليا.
الكونغرس غاضب ومحتقن بسبب إخفاء وكالة الاستخبارات الأمريكية تفاصيل برامج مكافحة الإرهاب كما تبين ذلك الأسبوع الماضي فقط، الصحافة هنا والمدونون أيضا يطالبون بالشفافية. أمريكا ليست قانعة الآن بما قاله أوباما عن ضرورة كشف الحقائق ولكن تفضيله عدم البقاء في الماضي في منتصف أبريل الماضي عند الكشف لأول مرة عن وثائق بوش للتعذيب. مقولته حينها كانت مناورة سياسية تحاول جس نبض الرأي العام بلباقة و تأمل في القفز على مستنقع كوارث بوش الابن. حتى نائب الرئيس الأسبق ديك تشيني صاحب العبارة الأشهر التي وصفت التعذيب «بالمهمة القذرة، القاسية واللئيمة» حاول مؤخرا التنصل من المسؤولية في خطاب ألقاه بداية الشهر الماضي، زاعما أن التعذيب بدأ بطلب من السي آي ايه ولم يكن فكرة البيت الأبيض بالأساس.
هذا ما يحصل في أمريكا ولكن ماذا عنا نحن المشككين في نوايا أمريكا تجاه العالم الإسلامي المعارضين دائما والبارعين في صياغة نظريات مؤامرة عجيبة، تأكد لنا نباهة عربية فريدة في صنع أشباح طواحين وهمية توجب أن نحاربها بضراوة غابت عنا الجرأة الحقيقية في فتح هذا الملف الشائك. ولكنها لحسن الحظ لم تغب عن طالب الصف الرابع اليهودي الأمريكي ميشا البالغ من العمر تسع سنوات الذي سأل كوندليزا رايس بصراحة بعد إلقائها خطابا في مدرسته عن رأيها في ما تقوله إدارة أوباما عن الأساليب التي استخدمتها إدارة بوش السابقة عند التحقيق مع السجناء؟ بالأصح سؤال ميشا الأساسي كان: إذا عملت مع إدارة أوباما هل كنت ستشجعين استخدام التعذيب؟ لكن طلب أساتذة ميشا منه إعادة الصياغة، حيث لم يحبذوا استخدام مفردة التعذيب حسبما صرحت والدة الطفل للإعلام الأمريكي. لله درك يا ميشا. بقي للشرفاء ومنظمات حقوق الإنسان في عالمنا العربي إظهار مساندتهم ورغبتهم في «بداية جديدة» مع أمريكا تبدأ من نهاية عادلة تحترم كرامة الطرفين.
*ديماغوجية: أي خطاب / خطيب يستخدم خطابا شعبيا، مستغلا رغبات الجماهير لتهييجهم وكسب ودهم عوضا عن انتهاج منهج العقلانية.
ebtihalus@gmail.com