هكذا بدأ الرجل حديثه المسطور على الورق، تماهيا مع الخطاب الشفوي العاطفي، ولم أجد غرابة بعد، أن أصادف في ثنايا المقال عبارات مثل :
ويطول عجبي، ويستبد بي الحزن، أشعر بالذهول، إنه لشيء مخز حقا.. وسواها من عبارات تشي بالثقة المطلقة والحسمية، وتشم من خلالها أن هذا الرأي المصحوب بمثل تلك العبارات بيان وتصريح حزبي وسياسي أكثر من كونه رأيا شخصيا، ليشعرك بأنه قول غير قابل للنقد والتشكيك.
وتجرني الملاحظة إلى جملة من العبارات، اعتاد جملة من الكتبة، بل أحيانا المبتدئون إلف الابتداء بها، فقد تقرأ عبارات مثل: «دون شك» أو «بلا ريب» كأن هذه الجملة تقدم لك قدر القطع والتأكيد، والحزم والجزم في هذه الأفكار.. لدرجة أن تخيف القارىء من الوقوف عندها، أو التشكيك فيها، أو اعتماد الرأي الآخر تجاهها.. فهي أشبه بالعلامات التحذيرية، وكأنها تشير إلى طريق مسدود.
أما كلمات «لا ينقضي العجب»، و «لا ينتهي الأسف» ونحوها، فهي مشاعر خاصة، يقدمها الكاتب أو المتحدث لجمهوره وقرائه؛ كأنها حقائق رشيدة.. وهي ردود أفعال عاطفية محدودة، بإمكانيات الشخص المتحدث أو الكاتب نفسه، وبنفسيته المحددة ومشاعره المرتبطة بتكوينه وبيئته وعلاقاته وأشياء أخرى، قد لا يكون لها علاقة بالعلم والمعرفة والفهم..
وذكرني هذا بجدل فقهي حول مسألة يسيرة، لم يتضح فيها وجه الدليل لكثير من الفقهاء، فاتسعت دائرة الخلف فيها بين الأئمة الأربعة وأتباعهم، فكان أحد الفقهاء غير المتمذهبين يهاجمهم، ويقول: «هذه التي تدع الديار بلاقع»! وهو مضمار ركض فيه الإمام أبو محمد بن حزم ـ رحمه الله ـ وشنع على مخالفيه، وحاصرهم بإحراجات قياسية، ومقارنات منطقية، ونظام فقهي صارم، وتوعدهم بالطامة الكبرى، وقاصمة الظهر، والقاضية!
ولقد كان لأبي محمد بعض المعذرة في النظر إلى سعة محفوظة، وعمق فهمه، وتمام تأصيله، وظروفه السياسية، وشيء من الاضطهاد الذي لقيه، حتى منع بعضهم من تسمية أهل الظاهر بالفقهاء أو العلماء، وحرق قوم كتبه، فقال قولته المعروفة:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي
تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي
وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
دعوني من إحراق رق وكاغد
وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري
وإلا فعودوا في المكاتب بدأة
فكم دون ما تبغون لله من ستر !
كذاك النصارى يحرقون إذا علت
أكفهم القرآن في مدن الثغر
وقراء اليوم أكثر عقلا من أن يصدقوا سريعا أو أن يسلموا على عجل، فوسائل المعرفة والاتصال والتقنية تسهل لهم معرفة مصداقية المعلومات التي انطمرت وغلفت داخل تلك العبارات، ويستطيعون أن يشاركوا الكاتب القدرة والإمكانية في الفهم والقراءة والرأي، ويعرفوا أن لهم القدرة على التصديق أو التكذيب، ويدركوا أن من حقوقهم كقراء أن يتحفظوا على شيء مما تقول، وأن ينقدوا شيئا مما ترى؛ فحق النقد وحق الرأي وحق القارئ؛ حقوق فكرية، حفظتها الشريعة ضمن عنصر «حفظ العقل» من ضروريات الشريعة ومقاصدها في الحفاظ على الحياة العامة، والحياة العلمية والفكرية بالخصوص، وأشارت إليها الكثير من المنظمات الحقوقية والقوانين، وهي في الوقت ذاته تمنع هذا الحمى من المتسورين والمتطفلين والطارئين، فليست الحرية تعني إلغاء الشروط.
التحرير العلمي والتحقيق أقرب شيء إلى الدقة والهدوء والاعتدال، وأكثر تفهما للقارئ ورأيه، وأعمق تقديرا للآراء العلمية الأخرى ووجهات النظر المختلفة.. حتى أثر عن علماء التحقيق أنهم يعرضون الآراء الأخرى إلى الحد الذي تظن معه أنها آراؤهم؛ لقوة دعمهم لها، واستدلالهم عليها، واجتهادهم في بيان قوة هذا الرأي وعرضه للقارىء.. ثم يعودون لبيان آرائهم بمثل تلك الطريقة، في منهج رشيد، جرى عليه أئمة التحقيق والتحرير.
أما العبارات المرهقة؛ فهي صاخبة، غير أنها خالية من القوة العلمية، كالعربات الفارغة، أو كالمياه الضحلة.
عبارات مشحونة بالمشاعر الشخصية الخاصة، معبرة عن شدة الاقتناع، أو قوة الاندفاع، لكنها لا تحمل في طياتها أثارة من علم (ائْتوني بِكتاب من قبلِ هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) (الأحقاف: من الآية4)، ولا تنطوي على برهان صادق (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) (البقرة: من الآية111).
فلا علم مأثورا بنقل مصدق، ولا قياس صحيحا بفهم محقق، ولذا لم يعد ممكنا الحكم: هل هذا الاقتناع المشبع ناتج عن إلف واعتياد ووراثة وتقليد فهو التعصب إذن، أو هو ثمرة بحث واجتهاد؛ لم يستطع صاحبه أن يعبر عنه بشكل صحيح، ولا أن يعزله عن مشاعره الذاتية، أو هو مرحلة بين هذا وهذا، تتمثل في أنه درس الأمر سابقا، واستقر في ذهنه رأي راسخ، بقي الرأي، ونسي الدليل، وظل الرجل وفيا للنتيجة.
أم هو بسبب قوة شخصية الشيخ، بحيث طبع تلاميذه على تقبل أفكاره واجتهاداته، وأخذها مأخذ الدين الذي يطاع فلا يعصى، وتقبل دون مراجعة أو مناقشة.
كان بعض علمائنا يعرض ويناقش ويرجح ويقوي ويضعف؛ فإذا مر على نقل يتحمس صاحبه لدرجة عالية ويقارع بأسلوب إنشائي.. أعرض عنه وقال هذا كلام وعظي؛ يصح أن يكون خطبة، لا درسا علميا.
الكبار يغلبون الناس باعتدال خطابهم، وهدوء طبعهم، ومشيهم الهوينى؛ فالرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه؛ كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالرفق في الألفاظ دليل العقل والحكمة، أما الألفاظ المقعقعة فهي تجلب المزيد من الخصوم، وتخسر المزيد من الأصدقاء.. وليس أفضل من اللين حتى مع فرعون
(فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى [طه/44]
العبارات الرشيدة مترفقة لا مترنحة، وقائدة لا قاعدة، والأهم أن تكون مثرية لا مثيرة، وقديرة لا كثيرة، وعميقة لا عقيمة، ودقيقة رقيقة، لا خشنة صفيقة.. فإذا ترفقت دانت لها عقول الكبار ، وجلبت العقلاء.. فإذا ناطحت أشبهت صفات الهيجان، وكانت للجهل أقرب، والله يقول عن المؤمنين وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما [الفرقان/63].
والمرء وما يختار لنفسه، ومن كان ممتلئا من الحجة؛ لن يجد من الحكمة أن يضيع وقته في صياح لا يغني، أو أسف لا يجدي، سيكون عرضه للدليل، وبيانه للحجة؛ خير استثمار لوقته، وخير صلة لمستمعيه وقارئيه [قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون (25) قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم (26)] (سورة سبأ).
للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 138 مسافة ثم الرسالة