كان أبو حنيفة إماما في الفقه والقياس، كلامه فيه أدق من الشعر؛ حتى تضافرت أقوال العلماء على تقديمه وإمامته وفطنته.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: (الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه) (1).
وقال الذهبي معلقا: (الإمامة في الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام وهذا أمر لا شك فيه:
وليس يصح في الأفهام شيء إذا احتاج النهار إلى دليلِ (2).
وقال ابن المبارك رحمه الله: (أفقه الناس أبو حنيفة، ما رأيت في الفقه مثله) (3).
وقال أيضا: (إن كان الأثر قد عرف واحتيج إلى الرأي فرأي مالك وسفيان وأبي حنيفة، وأبو حنيفة أحسنهم وأدقهم فطنة وأغوصهم على الفقه، وهو أفقه الثلاثة) (4).
وقال: (رأيت مسعرا في حلقة أبي حنيفة جالسا بين يديه يسأله ويستفيد منه وما رأيت أحدا قط تكلم في الفقه أحسن من أبي حنيفة) (5).
وقال صاحبه أبو يوسف رحمه الله: (ما رأيت أحدا أعلم بتفسير الحديث ومواضع النكت التي فيه من الفقه من أبي حنيفة) (6).
وقال شعبة بن الحجاج رحمه الله لما علم بوفاته: (لقد ذهب معه فقه الكوفة، تفضل الله علينا وعليه برحمته) (7).
وقال النضر بن شميل رحمه الله: (كان الناس نياما عن الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة بما فتقه وبينه ولخصه) (8).
وحين سئل يزيد بن هارون رحمه الله: (أيما أفقه: أبو حنيفة أو سفيان؟ قال: سفيان أحفظ للحديث، وأبو حنيفة أفقه) (9).
وقال ابن المبارك رحمه الله: (إن كان أحد ينبغي له أن يقول برأيه فأبو حنيفة ينبغي له أن يقول برأيه) (10).
وقال محمد بن بشر رحمه الله: (كنت أختلف إلى أبي حنيفة وإلى سفيان، فآتي أبا حنيفة فيقول لي: من أين جئت؟ فأقول: من عند سفيان. فيقول: لقد جئت من عند رجل لو أن علقمة والأسود حضرا لاحتاجا إلى مثله. فآتي سفيان فيقول: من أين جئت؟ فأقول: من عند أبي حنيفة. فيقول: لقد جئت من عند أفقه أهل الأرض) (11).
وقال يحيى بن معين رحمه الله: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: (لا نكذب الله، ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله).
قال: (وكان يحيى بن سعيد يذهب في الفتوى إلى قول الكوفيين، ويختار قوله من أقوالهم، ويتبع رأيه من بين أصحابه) (12).
وقال عبد الرزاق الصنعاني رحمه الله: (كنت عند معمر فأتاه ابن المبارك، فسمعنا معمرا يقول: ما أعرف رجلا يحسن يتكلم في الفقه أو يسعه أو يقيس ويشرح لمخلوق النجاة في الفقه أحسن معرفة من أبي حنيفة، ولا أشفق على نفسه من أن يدخل في دين الله شيئا من الشك من أبي حنيفة) (13).
وقال الذهبي رحمه الله: (وأما الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه فإليه المنتهى، والناس عليه عيال في ذلك) (14).
لقد أسس أبو حنيفة مدرسة الرأي في الكوفة، واستجاب لدواعي التجديد والقياس مما طرأ على حياة الناس وجد من المسائل، خاصة مع نقص الرواية عندهم، ولقي في ذلك عنتا من بعض من لم تتسع عقولهم لما اتسع له عقله، ولم يدركوا ما أدرك، وما هو إلا أن قامت المدرسة واستقرت أصولها حتى سلم لها كثير من المخالفين، وعذرها آخرون، وانقطع الكلام أو كاد، وهذا شأن المدارس التاريخية كما تجده في النحو والأصول وغيرها.
ولله در الإمام أحمد رحمه الله حين يقول: (ما زلنا نلعن أهل الرأي ويلعنونا حتى جاء الشافعي فأصلح بيننا) (15).
وهكذا قال إسحاق وغيره: (أنهم ما زال بهم الأمر حتى أخذوا بكثير من مسائل أبي حنيفة).
وهذا شأن المنصفين؛ الرجوع إلى الحق وأخذه من غير أنفة ولا استكبار.
وفعلا فالرسالة للإمام الشافعي كانت تأصيلا لطرائق الاستدلال، وتدوينا لقواعده، وقطعا لدابر كثير من التهاوش والتهارش والتناوش بين المدارس المتنوعة في الفقه الإسلامي والتي كان تنوعها خيرا وثراء للشريعة، وهكذا ولدت المدارس الفقهية المعروفة، في الحجاز والشام والعراق ومصر وما وراء النهر و بلاد المغرب؛ استجابة لدواعي الصيرورة الحضارية، ومعايشة لتقلبات الحياة، فالغنى والفقر والقوة والضعف، وقدر المعرفة ونوع العلاقة التي تحكم صلة الشعوب بعضها ببعض ذات تأثير واضح في عقل الفقيه واستنباطه، وقد كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: (تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور) (16).
أصول فقهه
قال أبو حنيفة رحمه الله: (ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين وما جاء عن الصحابة اخترنا وما كان من غير ذلك فهم رجال ونحن رجال) (17).
وقال الحسن بن زياد اللؤلؤي رحمه الله: (سمعت أبا حنيفة يقول: قولنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا) (18).
وقال يحيى بن ضريس رحمه الله: (شهدت سفيان وأتاه رجل، فقال له: ما تنقم على أبي حنيفة؟ قال: وما له؟ قال: سمعته يقول: آخذ بكتاب الله، فما لم أجد فبسنة رسول الله، فما لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله أخذت بقول أصحابه، آخذ بقول من شئت منهم وأدع من شئت منهم، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فأما إذا انتهى الأمر أو جاء إلى إبراهيم، والشعبي، وابن سيرين، والحسن، وعطاء، وسعيد بن المسيب .. ــ وعدد رجالا ــ فقوم اجتهدوا، فأجتهد كما اجتهدوا) (19).
تلك هي مصادر فقه أبي حنيفة، يقررها في وضوح وجلاء، يلتزم بالمصدرين الأساسين للفقه الإسلامي وهما كتاب الله وسنة رسوله، ثم يلزم نفسه بمصدر ثالث هو أقوال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما لم تكن أقوالهم متطابقة تطابقا كاملا في بعض القضايا؛ فإن أبا حنيفة يأخذ عمن يراه أكثر علما من غيره وهو مع ذلك ملتزم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحابته: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» (20).
فإذا كان الأمر متعلقا بالتابعين، والتابعون على جلالة قدرهم لا يستوون مع الصحابة في موازين العلم والتقدير، فإن أبا حنيفة يرى نفسه أهلا لأن يجتهد كما اجتهدوا، وأنه ليس ملزما بالأخذ عنهم إلا تطوعا واقتناعا، وذكر في هذا السبيل عددا من خيرة التابعين، وبعضهم يعتبر شيخا له مثل عطاء بن رباح.. وإبراهيم النخعي الذي كان أستاذا لحماد بين أبي سليمان شيخ أبي حنيفة.
ومهما يكن الأمر فأبو حنيفة مؤهل لأن يجتهد كما اجتهد غيره من العلماء الذين ذكرهم في معرض مصادر فقهه من غير الصحابة طبعا (21).
وقال الحسن بن صالح رحمه الله: (كان النعمان بن ثابت فهما عالما متثبتا في علمه، إذا صح الخبر عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يعده إلى غيره) (22).
أقول: وهذا هو الظن بإمام مثله، وبإخوانه من الأئمة، فهم لم يختلفوا في الكتاب، ولم يختلفوا على الكتاب، وإنما اجتهدوا كما أمرهم الله، ومن شأن الاجتهاد أن يتعدد، وقد قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، ولو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة) (23).
ذكاؤه وحجته
قال الإمام الشافعي رحمه الله: (قيل لمالك بن أنس: هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم. رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته) (24).
وقال النضر بن شميل: (كان الناس نياما عن الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة بما فتقه وبينه ولخصه) (25).
وقال جعفر بن الربيع: (أقمت على أبي حنيفة خمس سنين فما رأيت أطول صمتا منه، فإذا سئل عن شيء من الفقه تفتح وسال كالوادي، وسمعت له دويا وجهارة بالكلام) (26).
وذكر المتقي المكي في مناقب أبي حنيفة مناظرة جرت بين الإمام أبي حنيفة وبين جماعة من الزنادقة: قال لهم أبو حنيفة: ما تقولون في رجل يقول لكم: إني رأيت سفينة مشحونة بالأحمال، مملوءة بالأمتعة وقد احتوشتها في لجة البحر أمواج متلاطمة، ورياح مختلفة، وهي من بينها تجري مستوية ليس فيها ملاح يجريها ويقودها ويسوقها، ولا متعهد يدفعها، هل يجوز ذلك في العقل؟
فقالوا: لا. هذا لا يقبله العقل، ولا يجيزه الوهم.
فقال لهم أبو حنيفة: فيا سبحان الله! إذا لم يجز في العقل وجود سفينة تجري مستوية من غير متعهد، فكيف يجوز قيام الدنيا على اختلاف أحوالها وتغير أمورها، وسعة أطرافها، وتباين أكنافها من غير صانع وحافظ ومحدث لها؟! (27).
رجاحة عقله
قال محمد بن عبد الله الأنصاري: (كان أبو حنيفة يتبين عقله في منطقه ومشيه ومدخله ومخرجه) (28).
وقال يزيد بن هارون: (أدركت الناس، فما رأيت أحدا أعقل ولا أفضل ولا أورع من أبي حنيفة) (29).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) تاريخ بغداد (13/346)، تهذيب الكمال (29/433)، تهذيب التهذيب (10/402)، سير أعلام النبلاء (6/403).
(2) سير أعلام النبلاء (6/403)، والبيت للمتنبي وهو في ديوانه (3/92) بشرح العكبري.
(3) تهذيب الكمال (29/430)، تهذيب التهذيب (10/401)، سير أعلام النبلاء (6/403).
(4) تاريخ بغداد (13/343).
(5) المرجع السابق.
(6) تاريخ بغداد (13/340).
(7) الانتقاء لابن عبد البر (ص126).
(8) تاريخ بغداد (13/345).
(9) تهذيب الكمال (29/429).
(10) المرجع السابق (29/431).
(11) المرجع السابق.
(12) انظر: تهذيب الكمال (29/433)، سير أعلام النبلاء (6/402)، تهذيب التهذيب (10/402).
(13) تاريخ بغداد (13/339).
(14) سير أعلام النبلاء (6/390-392).
(15) انظر: ترتيب المدارك (1/386-387)، الاعتصام للشاطبي (1/226).
(16) الاعتصام للشاطبي (1/476).
(17) سير أعلام النبلاء (6/401).
(18) تاريخ بغداد (13/352).
(19) تهذيب الكمال (29/443)، تهذيب التهذيب (10/402).
(20) الحديث ضعيف ، انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني (1/78) برقم : (58).
(21) انظر الأئمة الأربعة للشكعة (ص/164 ــ 165).
(22) الانتقاء لابن عبد البر (ص:128).
(23) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/80).
(24) تاريخ بغداد (13/337-338)، تهذيب الكمال (29/429)، سير أعلام النبلاء (6/399).
(25) تاريخ بغداد (13/345).
(26) تاريخ بغداد (13/347).
(27) مناقب أبي حنيفة (ص:51).
(28) تهذيب الكمال (29/439).
(29) المرجع السابق (29/438).