-A +A
علي حسن التواتي
عندما أضاء خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في ذكرى يوم وحدتنا الوطنية التاسعة والسبعين منارة جامعته على ساحل البحر الأحمر، انبعث نورها كفنار مبهر يضيء عتمة الليل ويذيب ضباب الساحل ليهدي السفن الحائرة في لجة البحر المظلم وعصف الأنواء والأعاصير الهادرة إلى شاطئ الأمن والسلام. ليس هذا فحسب بل إن النور المنبعث من جوانب تلك المنارة الرائعة غمر قلوبنا بالحب وعقولنا بالوعي وغسل جوانحنا من الفئوية والمناطقية والشعوبية وكافة المشاعر السلبية تجاه بعضنا البعض وتجاه الآخرين قبل أن يغمر الفضاء ويسري في الآفاق ليغمر الكون معلنا للدنيا بأسرها عن بدء المسيرة في مرحلة علمية جديدة من تاريخنا ترتكز على تحول هيكلي في فلسفة التعليم وما يتفرع عنها من سياسات ونظم وأهداف وغايات بعيدة. إن اليد المباركة التي زرعت هذه النبتة وأضاءت هذه الشعلة هي يد رجل عظيم لسان حاله يقول نحن أمة لم تعد تكتفي بتاريخها العظيم وتتغنى بذكرياتها المجيدة، بل هي منذ اليوم أمة مفكرة مبدعة منتجة تسهم في مسيرة العالم الحضارية وتتفاعل معه تفاعل الشركاء لا التابعين ولا المتطفلين على إبداعات الحضارة الإنسانية.
لقد كان في اختيار موقع الجامعة في حد ذاته رسالة إنسانية عميقة. فناهيك عن اعتدال المناخ في الموقع في فصلي الخريف والربيع كما هو الحال في كافة المواقع الواقعة في سهل تهامة على البحر الأحمر، فإن موقعها بين الحرمين الشريفين في منطقة عرفت بتنوعها الثقافي والحضاري يعني أنها جامعة أسست للإنسانية ورسالتها عالمية مثلما هو الإسلام للإنسانية ورسالته عالمية. وموقعها على شاطئ قرية ساحلية فقيرة تبعد عن أقرب مدينة كبيرة مسافة تصل إلى 90 كيلومترا يعني أن بانيها لا يفرق في اختياراته بين قرية كبيرة أو مدينة صغيرة، ولا بين ريف أو حضر في بلاده، فالكل في عينه سواء، وأرض الوطن واحدة، ولا مانع من أن يصنع الحضر في الريف إن أمكن ذلك من خلال جامعة أو مدينة اقتصادية أو مشروع تنموي كبير.

وبعد أن أنجز خادم الحرمين وعده وأنشأ الجامعة وفق أفضل ما يمكن أن تنشأ عليه جامعة عالمية حديثة ووفر لها أحدث ما يمكن أن يتوفر لجامعة من إمكانات بشرية وفنية ومالية، تبقى أمام إدارتها والقائمين عليها مهمتان أساسيتان، أولاهما التميز العلمي والبحثي المنشود أصلا من إنشائها لتحتل مكانتها في طليعة الجامعات العالمية، والثانية تعميق تأثيرات الجوار بمد الجسور مع الجامعات ومراكز البحث المحلية لبناء نماذج وأنماط مثالية تفاعلية يمكن أن تنعكس بالإيجاب على مضمون التعليم الجامعي وبالتالي تميز منتجاته على نطاق أوسع من حدود الجامعة ذاتها.
وأخيرا.. أهنئ خادم الحرمين الشريفين بهذا الإنجاز الذي يرسي حجر الأساس في تحول كبير في التعامل مع العلوم لأول مرة منذ عصور الانحطاط التي أنتجت فيما أنتجت في معظم العالمين العربي والإسلامي إنسانا متصفا بالجمود في التفكير وبمحاربة كل جديد حتى أصبح الإسلام نفسه في موضع الاتهام. كما أهنئ نفسي وكافة أفراد الشعب السعودي بهذا الإنجاز الحضاري الذي يمكن وصفه بقوة بأنه إنجاز له ما بعده. وما بعده مختلف بالتأكيد عما قبله على الجبهة العلمية.
وقبل أن أنهي هذه المقالة أود الإشارة إلى أن كافة الشعوب التي تبني معالم حضارية مميزة تسطر على قواعدها كلمات تغني عن كتب في التعريف عليها وعلى الغرض من إنشائها وعن الفلسفة التي تستند إليها لتجيب على مر الأيام والعصور على تساؤلات الأجيال القادمة والزوار من كل مكان ولتخلد ذكرى من أنجزوها. فعلى سبيل المثال إذا قدر لأحد أن يزور تمثال الحرية في نيويورك سيجد لوحة نحاسية مثبتة على قاعدة التمثال كتب عليها مقطع من قصيدة (العملاق الجديد) الرائعة للشاعرة (النيويوركية) المبدعة (آمي لازاروس) التي ألقتها سنة 1883م في حفل خيري للآداب والفنون خصص ريعه لتمويل نصب التمثال الذي أهدته فرنسا لمدينة نيويورك. وتقول الشاعرة في قصيدتها التي لم يمهلها القدر لتعيش حتى عام 1901م لتراها في موضعها الحالي (ادفعوا نحوي بالبؤساء منكم والفقراء، بالجموع الهادرة المتطلعة لأنفاس الحرية، وبمن يرفضون التزاحم على مراكب البؤس والحرمان. أرسلوا نحوي أولئك المشردين الذين تتقاذفهم الأعاصير، فلهم ومن أجلهم وضعت مصباحي بجانب البوابة الذهبية..). وبالفعل فقد أصبحت هذه القصيدة عنوانا معبرا عن أمريكا بلد الفرصة الجديدة والحلم الجميل لكل المبدعين من مختلف الشعوب وأصبح تمثال الحرية والقصيدة المحفورة على قاعدته عنوانا لأمريكا ومدعاة فخر لكافة أبناء الشعب الأمريكي.
ولذلك أقترح على من بيدهم القرار في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية أن تحاط قاعدة (منارتها) بلوحة رخامية أو نحاسية تأخذ شكل القاعدة لتحفر عليها عبارات تعكس لسان حال خادم الحرمين وهو يضغط زر افتتاح الجامعة. فمن خلال تصريحات خادم الحرمين يمكن اختيار كلمات تعبر عما يجول بخاطره ــ حفظه الله ــ وهو يفتتح تلك المنشأة الحضارية المميزة.. فكأني به يقول في نفسه مخاطبا ذكرى والده المؤسس الكبير (في مثل هذا اليوم منذ تسعة وسبعين عاما رفعت يا أبي العظيم علم التوحيد عاليا، وأعلنت وحدة بلادي، وهاأنذا اليوم أرفع منارة جامعتي لتكون دارا للحكمة، وحاضنة للعقول النيرة، وإضافة سعودية قيمة للحضارة الإنسانية ــ عبد الله بن عبد العزيز).
Altawati@yahoo.com