مما استوقفني في صحيح مسلم، في باب الكلالة، حديث عمر، عندما قال: ما راجعت رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ فى شيء ما راجعته فى الكلالة، وما أغلظ لي فى شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن بإصبعه فى صدرى، وقال: « يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التى فى آخر سورة النساء ». وإنى إن أعش أقض فيها بقضية يقضى بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن.
ووجدت في الحديث عجبا أي عجب!
عمر ــ رضي الله عنه ــ يسأل النبي ويلح في المسألة ويراجع.. حتى يقول النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ:
«يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التى فى آخر سورة النساء» ويضرب بيده على صدره!
فالمسـألة إذا لا تخلو من إشكال وعسر على عقل كبير كعقل عمر بن الخطاب، والذي خصه الله تعالى بمزيد العلم، حتى قال النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ: (بينا أنا نائم إذ رأيت قدحا أتيت به فيه لبن فشربت منه حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب) قالوا فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: (العلم) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر.
مع هذا المشكل الملتبس؛ يصر عمر على معالجة القضية، بل على تبسيطها وتسهيلها حتى يفهمها القراء المتخصصون وغير المتخصصين.
إنها سنة عمرية!
تسهيل المعرفة وإتاحتها للناس، وليس تعقيدها وتصعيبها ووضع الأسوار حولها، حتى يمل الطالب وتفتر عزيمته وتخور همته.
وذكرني هذا الأثر الجميل بالكلمة المأثورة عن الخليل بن أحمد، أنه كان يفكر في طريقة للحساب؛ تذهب به الجارية إلى البقال؛ فلا يظلمها؛ فهنا يحاول هذا المبدع العظيم الأديب الخليل الفراهيدي أن ينزل علم الحساب من عليائه، ويقربه إلى الجارية المشغولة بطبخها وكنسها وعملها الخدمي عن معاناة العلم والتفرغ له.
ولعل هذا وذاك هو ما اهتدى إليه غيرنا فسبقونا بعيدا..
نعم!
نحن لا ندري بالضبط ما كان يفكر فيه عمر، وكأنه لم يكتب أن يدونه، أو يخبر بما يفك رمز المسألة.
ولا ندري ما كان الحساب الذي يفكر فيه الخليل، ولعل صدمة العمود له كانت وهو منهمك في النظر للمسألة، وهي التي كان فيها حتفه، (كما ذكر ابن خلكان وغيره)، لكن نقتبس من الأثرين فكرة توصيل المعرفة التي تعم الحاجة إليها من طالبيها دون اشتراط مستوى عال من الفهم والذكاء والتفكير، ودون اشتراط التفرغ والانقطاع.
وسائل الإعلام، القنوات الفضائية، الشبكة العنكبوتية، الألعاب الإلكترونية، وسائط المعرفة... جعلت كل ذلك في متناول أيدي الأطفال والمراهقين، والذكور والإناث، والكبار والصغار، والمتعلمين والجهلة، وقضت على حاجز اللغة أو الثقافة أو الجغرافيا؛ فأوجدت محتوى عالميا؛ يشاهد ويسمع في الرياض ونيويورك والقاهرة وطوكيو وباريس وتل أبيب في وقت واحد.
نحن الآن لسنا أمام اختراع جديد نحاوله، ونزعم أنه المستحيل أو أخو المستحيل، أو ضرب من الخيال، أو طائف من الشيطان..، كلا.
نحن أمام وسائل قائمة متاحة، وفيها قدر من الحياد، يسمح بتوظيفها والانتفاع بها لأهل كل ثقافة ومبدأ، شريطة أن يحسنوا الاستخدام، قد نستفيد من التقنيات المعاصرة من الناحية الآلية البحتة، لكن لم نستطع أن نسهل المضمون، ولا أن نجعله مواكبا للعصر في لغته وأمثلته وسياقه وصياغته، ولعلنا عمدنا إلى ما هو مسطور في الكتب عبر العصور من ألوان المعارف والعلوم، وقمنا بنقلها حرفيا، وتحويلها إلى الوسائط العصرية ؛ فصارت تسمع في القنوات وتقرأ في المواقع الإلكترونية.. هذا كل ما أنجزناه..
ولا أجحد جهودا طيبة مباركة ؛ تعدت هذا إلى المحاولة الجادة لتقريب العلوم والمعارف الإسلامية والتاريخية واللغوية وتسهيلها لطلابها، لكن الأمر يتطلب جهدا أوسع، بل خطة شاملة تتبناها جهات وحكومات أو مؤسسات علمية، وتنفق عليها بسخاء، وتسكب فيها خلاصة جهود تربوية ونفسية وتجارب إنسانية، هدفها إيجاد البدائل المنافسة لما هو متاح في الأسواق والمواقع والفضاء، ووسائل الاتصال المختلفة، ولكافة شرائح المجتمع، بل للمسلمين وغير المسلمين.
إنها مهمة جبارة، أزعم أن لو أنفق فيها بعض الأثرياء كل ماله لكان عملا « مخلوفا» بإذن الله، فضلا عن المردود المادي الضخم، فالاستثمار في المعرفة اليوم من أرقى أنواع الاستثمار عائدا، وهو من العمل الصالح، وله أن يجعل منه في الصدقة الجارية، وهو العلم الذي ينتفع به، لا ينفع به الخاصة فحسب، أو من يأخذ عنهم، بل تتوسع دوائر الانتفاع للقريب والبعيد، ويصبح كالماء الذي يصل إلى كل بيت دون حاجة إلى حمله، وطرق الأبواب، وإجراء عملية طويلة للسقي..
يظل دور العالم والفقيه الواعي البصير فعالا إذا واكب هذه التحولات وتفاعل معها، وأطل على ثقافة العصر ومتغيرات الوقت ومستجدات الزمان، وضرب بسهم في هذه العملية؛ مشاركة وإشرافا وتسديدا، بل وتطويرا لذاته، فليس أضر على المعرفة ولا على المجتمع من متعلم أو قارئ يظن أنه انتهى وحصل ما يريد، وفي نيته أن ينفق بقية عمره في تعليم الآخرين، وقديما قال ابن المبارك:لا يزال المرء عالما ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل.
والله الموفق لكل خير.
للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 138 مسافة ثم الرسالة
ووجدت في الحديث عجبا أي عجب!
عمر ــ رضي الله عنه ــ يسأل النبي ويلح في المسألة ويراجع.. حتى يقول النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ:
«يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التى فى آخر سورة النساء» ويضرب بيده على صدره!
فالمسـألة إذا لا تخلو من إشكال وعسر على عقل كبير كعقل عمر بن الخطاب، والذي خصه الله تعالى بمزيد العلم، حتى قال النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ: (بينا أنا نائم إذ رأيت قدحا أتيت به فيه لبن فشربت منه حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب) قالوا فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: (العلم) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر.
مع هذا المشكل الملتبس؛ يصر عمر على معالجة القضية، بل على تبسيطها وتسهيلها حتى يفهمها القراء المتخصصون وغير المتخصصين.
إنها سنة عمرية!
تسهيل المعرفة وإتاحتها للناس، وليس تعقيدها وتصعيبها ووضع الأسوار حولها، حتى يمل الطالب وتفتر عزيمته وتخور همته.
وذكرني هذا الأثر الجميل بالكلمة المأثورة عن الخليل بن أحمد، أنه كان يفكر في طريقة للحساب؛ تذهب به الجارية إلى البقال؛ فلا يظلمها؛ فهنا يحاول هذا المبدع العظيم الأديب الخليل الفراهيدي أن ينزل علم الحساب من عليائه، ويقربه إلى الجارية المشغولة بطبخها وكنسها وعملها الخدمي عن معاناة العلم والتفرغ له.
ولعل هذا وذاك هو ما اهتدى إليه غيرنا فسبقونا بعيدا..
نعم!
نحن لا ندري بالضبط ما كان يفكر فيه عمر، وكأنه لم يكتب أن يدونه، أو يخبر بما يفك رمز المسألة.
ولا ندري ما كان الحساب الذي يفكر فيه الخليل، ولعل صدمة العمود له كانت وهو منهمك في النظر للمسألة، وهي التي كان فيها حتفه، (كما ذكر ابن خلكان وغيره)، لكن نقتبس من الأثرين فكرة توصيل المعرفة التي تعم الحاجة إليها من طالبيها دون اشتراط مستوى عال من الفهم والذكاء والتفكير، ودون اشتراط التفرغ والانقطاع.
وسائل الإعلام، القنوات الفضائية، الشبكة العنكبوتية، الألعاب الإلكترونية، وسائط المعرفة... جعلت كل ذلك في متناول أيدي الأطفال والمراهقين، والذكور والإناث، والكبار والصغار، والمتعلمين والجهلة، وقضت على حاجز اللغة أو الثقافة أو الجغرافيا؛ فأوجدت محتوى عالميا؛ يشاهد ويسمع في الرياض ونيويورك والقاهرة وطوكيو وباريس وتل أبيب في وقت واحد.
نحن الآن لسنا أمام اختراع جديد نحاوله، ونزعم أنه المستحيل أو أخو المستحيل، أو ضرب من الخيال، أو طائف من الشيطان..، كلا.
نحن أمام وسائل قائمة متاحة، وفيها قدر من الحياد، يسمح بتوظيفها والانتفاع بها لأهل كل ثقافة ومبدأ، شريطة أن يحسنوا الاستخدام، قد نستفيد من التقنيات المعاصرة من الناحية الآلية البحتة، لكن لم نستطع أن نسهل المضمون، ولا أن نجعله مواكبا للعصر في لغته وأمثلته وسياقه وصياغته، ولعلنا عمدنا إلى ما هو مسطور في الكتب عبر العصور من ألوان المعارف والعلوم، وقمنا بنقلها حرفيا، وتحويلها إلى الوسائط العصرية ؛ فصارت تسمع في القنوات وتقرأ في المواقع الإلكترونية.. هذا كل ما أنجزناه..
ولا أجحد جهودا طيبة مباركة ؛ تعدت هذا إلى المحاولة الجادة لتقريب العلوم والمعارف الإسلامية والتاريخية واللغوية وتسهيلها لطلابها، لكن الأمر يتطلب جهدا أوسع، بل خطة شاملة تتبناها جهات وحكومات أو مؤسسات علمية، وتنفق عليها بسخاء، وتسكب فيها خلاصة جهود تربوية ونفسية وتجارب إنسانية، هدفها إيجاد البدائل المنافسة لما هو متاح في الأسواق والمواقع والفضاء، ووسائل الاتصال المختلفة، ولكافة شرائح المجتمع، بل للمسلمين وغير المسلمين.
إنها مهمة جبارة، أزعم أن لو أنفق فيها بعض الأثرياء كل ماله لكان عملا « مخلوفا» بإذن الله، فضلا عن المردود المادي الضخم، فالاستثمار في المعرفة اليوم من أرقى أنواع الاستثمار عائدا، وهو من العمل الصالح، وله أن يجعل منه في الصدقة الجارية، وهو العلم الذي ينتفع به، لا ينفع به الخاصة فحسب، أو من يأخذ عنهم، بل تتوسع دوائر الانتفاع للقريب والبعيد، ويصبح كالماء الذي يصل إلى كل بيت دون حاجة إلى حمله، وطرق الأبواب، وإجراء عملية طويلة للسقي..
يظل دور العالم والفقيه الواعي البصير فعالا إذا واكب هذه التحولات وتفاعل معها، وأطل على ثقافة العصر ومتغيرات الوقت ومستجدات الزمان، وضرب بسهم في هذه العملية؛ مشاركة وإشرافا وتسديدا، بل وتطويرا لذاته، فليس أضر على المعرفة ولا على المجتمع من متعلم أو قارئ يظن أنه انتهى وحصل ما يريد، وفي نيته أن ينفق بقية عمره في تعليم الآخرين، وقديما قال ابن المبارك:لا يزال المرء عالما ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل.
والله الموفق لكل خير.
للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 138 مسافة ثم الرسالة