-A +A
ابتهال مبارك
لست من الجيل الذي درس مادة التربية الوطنية، والحقيقة أنني لا أعتقد أنها كانت ستزيد من وطنيتي على أية حال، فمناهجنا برتابتها تقتل أي فرصة للإبداع عدا عن أن تلقين الوطنية لطالبات في غرفة صف دراسي مغلق بعيدا عن الأنشطة الخارجية كالكشافة والرحلات الميدانية يبدو لي عقيما. الفرصة الذهبية التي أتاحت لي التعرف على وطني هي الصحافة. نعم الصحافة وحدها هي التي شرعت لي نوافذ كانت غائبة عني تماما لأطل بها على وطني كشرفة بيت على ما أريد ــ كما يقول الشاعر محمود درويش.
لا توجد مهنة أخرى غير الصحافة، تلك التي تسمح لفتاة سعودية في منتصف عقدها الثاني من أسرة محافظة أن تفيق فجرا لتلحق على رحلة الصباح للدمام من جدة لتقضي يومها في سجن الدمام العام قسم النساء الذي لا بد من العبور بين عنابر الرجال للوصول إليه لإجراء مقابلة صحافية مع سجينة واحدة هناك. لا مهنة أخرى تبرر وجود أرقام مسؤولين حكوميين في دليل هاتفي كمديرية السجون العامة، محكمة الجوف، المتحدث الرسمي بوزارة الداخلية، مكتب وزير العدل، محكمة جدة العامة، مباحث حائل، المتحدث الرسمي باسم شرطة الشرقية، سجن نجران العام، شرطة مرور جدة، وكيل وزارة الثقافة، هيئة حقوق الإنسان، وجمعية حقوق الإنسان والعديد من المثقفين والمثقفات والشيوخ أيضا وغيرهم الكثير. الأهم من هذا أنه أثناء مخاطبة كل هذه الجهات والتعامل معها تعين علي أن أقرأ وأفهم جيدا الأنظمة والقوانين التي تحكمها كقانون المحاماة السعودي وقانون الأنظمة الجزائية وطريقة عمل المحاكم واختلافها وصلاحيات أجهزة الأمن المختلفة وحدودها وأنظمة زيارة السجن وحقوق السجناء وغيرها.
لكتابة تقاريري بشكل سليم ومتوازن كان يتعين علي الإلمام بكل هذه القوانين، لدرجة أني في إحدى المرات كنت أصحح لأحد المحامين معلومات دقيقة عن نوعية أعضاء اللجنة التأديبية للمحامين بوازة العدل وعلى أي أساس يتم اختيارهم. لم أقم بذلك مفاخرة ولكن لأني وجدت أن المسؤول، الذي عادة ما يماطل الصحافي الرجل الذي لا يعاني مثلي من عوائق التواصل المباشر معه ما بالك بامرأة صحافية، لا يسعه إلا أن يتجاوب لو وجد أن هذه الصحافية تعرف تماما كافة أبعاد القصة وتناقشه في أدق التفاصيل القانونية. ممارسة الصحافة الميدانية التحقيقية كما ترون أتاحت لي ليس فقط أن أعرف وطني وأنظمته وقوانينه كما ينبغي، بل ولسعادتي أكد لي بأن النوايا الحسنة لا بد لها أن تثمر وإن كثرت العوائق، وبأن الرجل السعودي ليس وحشا بريا وجب علينا الهرب عند رؤيته كما يريدنا البعض أن نصدق أو موظفا حكوميا غير مبال، بل هو مواطن مهتم إن طلبت منه التعاون لأجل خبر صحافي قدم لك ما تحتاجينه بلباقة وشهامة.
وجود الصحافية السعودية في الميدان، بعيدا عن صفحات الرأي والأعمدة، سواء للكتابة عن قضايا المرأة أو حقوق العمال ليس ترفا ولا هو وظيفة للوجاهة أبدا بل ضرورة ملحة جدا عدا أنها تتلخص في البحث عن الحقيقة، بل لسبب غاية في الأهمية وهو أنها تتيح لنا كنساء أن نكتب شهادتنا على مجتمعنا في طريقة اختيارنا للخبر وطرحه بنوعية التحقيقات التي نستقصيها بكشفنا لحقائق غائبة أو مغيبة بأن نكون صوتا لا صوت له لنساء بسيطات خائفات من المطالبة بحقوقهن. أن نساهم في تكوين الرأي العام السعودي حول قضايا مختلفة. صحيح أن طبيعة العمل الصحافي في بلدنا ليست سهلة للرجل ما بالك بالمرأة، عدا عن الحقيقة المخجلة بهضم الكثير من المؤسسات الصحافية لحقوق المرأة الصحافية واستئثار الرجل بالتدريب والترقيات، لكن كل ذلك لا يجعل من مهنة البحث عن المتاعب مستحيلة، على العكس تماما فهذه العراقيل أراها مزايا فهي تقوم كحاجز أمام المتسلقات الباحثات عن شهرة ما سريعة وأولئك غير الجريئات اللواتي يقنعن بالطريق الممهد. وحدهن الصحافيات الحقيقيات من سيطرقن الدروب الوعرة، من ستساهم تغطيتهن في تغيير القوانين، من ستغمرهن الدعوات الصادقة، من سيحصدن النجاح. ولكن من المؤسف والمقلق أن رقم كاتبات الرأي والأعمدة في ازدياد، بينما تتناقص الصحافيات الميدانيات فمن غيرهن لن نحصل على الأخبار التي نعلق عليها.
رغم غياب كليات الإعلام للطالبات فإن ذلك ليس عقبة أبدا، فكلياتنا تهمل الجانب التطبيقي وهو الأهم، والكثير من أبرز صحافيي العالم تعلم الصحافة بالممارسة، كل ما تحتاجه الصحافية هو لغة جيدة تصقلها بالقراءة والتمرين والبعد عن الكليشيهات الجاهزة، وقدرة عالية على التقاط الأخبار وتحليلها، ورغبة عارمة في الإصرار على كشف الحقيقة رغم كل شيء، والالتزام بأخلاقيات المهنة، والأهم من هذا وذاك صرامة وجدية أثناء تأدية المهمة الصحافية لفرض الاحترام الذي سيجبر الكل حولها على التجاوب المهني المطلوب. لا أبالغ عندما أقول إنه لو وجد لدينا عشر صحافيات فقط بهذه المواصفات كان ذلك كفيلا بإنعاش صحافتنا المحلية التي أراها ترهلت في السنة الأخيرة وغلبت عليها الآراء وهمشت الأخبار وهذا وضع مقلوب، ففي غياب الخبر تنتشر الشائعات الأمر الذي قد يؤدي إلى مضاعفات كتزعزع الاستقرار الاقتصادي وغيره. إذا عزيزتي القارئة لو كنت طالبة لديك القدرة والرغبة ولم تزدك المقدمة أعلاه إلا إصرارا وحماسا فأنت أهل لها، ها هي الأبواب أمامك اطرقيها ادلفي إلى حرم صاحبة الجلالة وافتحي النافذة لتطلي على الوطن، لتساهمي في كتابة حاضره ومستقبله.
ebtihalus@gmail.com


للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 249 مسافة ثم الرسالة