يشخص المحلل السياسي الامريكى نعوم تشومسكي في كتابه ديمقراطية الردع هذا الوضع الحالي بالقول بأن الولايات المتحدة أصبحت تلقائيا في موقع عسكري أفضل عما كانت عليه وذلك في أعقاب انهيار القوة العظمى التي كانت تتزعم المعسكر الشرقي وسقوط الشيوعية في الاتحاد السوفيتي السابق. وان القدرة العسكرية للولايات المتحدة الأميركية قد ارتفعت إلى ضعف مستواها (وليس أكثر) بسبب اضمحلال القدرة العسكرية المنافسة للاتحاد السوفيتي ، إلا أن ذلك ـ حسب رأي شومسكي ـ لا يعني أن أميركا أصبحت تتمتع بموقع أفضل ومناسب في المجالات الأخرى كالمجال الاقتصادي الذي تتخلف فيه أميركا عن بعض البلدان الأخرى كاليابان وأوروبا الموحدة.
في مقابل من يرى أن الولايات المتحدة أضحت القوة العظمى الوحيدة في العالم بعد انهيار الإمبراطورية السوفيتية، يعتقد هنري كيسنجر أن النظام الدولي الجديد قيد التشكيل هو شيء أشبه ما يكون بنظام الدول الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وسيكون في هذا النظام الجديد ستة مراكز قوى أساسية على الأقل هي: الولايات المتحدة الأميركية، وأوروبا، والصين ، واليابان ، وروسيا واحتمالا الهند بإضافة مجموعة من الدول الأصغر.
ومن المحتمل ان تتشكل المجموعة الاخيرة من دول من العالم الثالث والتي تتمتع بالثروات المالية والقوة العسكرية النووية والسكان، وبقية العناصر التي تعتبر مؤثرة فى تشكيل القوة على الساحة الدولية.
سمات النظام الدولي ومقومات القوة
وفي نظرة إجمالية وكلية نرى بوضوح تام أن التحولات التي طرأت على أسس وبناء القوة في العالم كانت على حساب الآلة والقوة العسكرية التي كانت تضبط العلاقات الدولية من خلالها في فترة الحرب الباردة ، ولصالح العوامل الاقتصادية والخبرات الفنية. ولكننا يجب ان لا نستبعد عن الاذهان هذه الحقيقة وهي ان القوة العسكرية ما زالت تتمتع بدور كبير في الوقت الراهن في سلسلة مراتب العناصر التي تشكل القدرة الوطنية. وبعبارة اخرى فما دامت المباحثات الطويلة والمتعلقة بنزع الاسلحة النووية لم تصل بعد إلى نتيجة نهائية وقطعية فاننا سنشاهد ولسنوات طويلة جداً نظاماً ثنائي القطبية في بناء القوة العسكرية المرعبة في العالم. والدليل على ذلك هو انّه رغم انهيار الاتحاد السوفيتي الذي كان يمثل زعيم القطب الشرقي السابق، تمتلك جمهورية روسيا 1035 صاروخاً بالستياً عابراً للقارات من طراز ICBM مقابل 1000 صاروخ باليستي تمتلكه الولايات المتحدة الأميركية بل إن أوكرانيا وكازاخستان وروسيا البيضاء تمتلك بالترتيب 176 و104 و72 صاروخا في حين تملك بريطانيا 96 وفرنسا 452 والصين 324 ولا يخفى ان هذا التوزيع للاسلحة الاستراتيجية يعكس نوعاً من توازن القوى في المعايير العالمية.
وعلى صعيد القوة الاقتصادية يبلغ إجمالي الناتج القومي الأمريكي حاليا 6 تريليونا دولار وهو ما يوازي 25 بالمائة من إجمالي الناتج القومي العالمي الذي بلغ أكثر من 26 تريليون دولار عام 1995. وبالنظر إلى هذه الإمكانيات والقدرات التي يتميز بها الاقتصاد الأمريكي الذي أصبح مبينا على الاتصالات والمعلومات والإعلام والترفيه.
وعلى المستوى العسكري, تمتلك الولايات المتحدة أكبر قوة عسكرية في العالم، فهي تخصص ميزانية سنوية ضخمة لاستثمارها في هذا المجال تصل إلى حدود 270 مليار دولار، أي ما يوازي 30 بالمائة من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي والذي يقدر بحوالي 900 مليار دولار ، بل إن الإنفاق العسكري الأمريكي وصل مؤخرا إلى ما يربو نصف الإنفاق العسكري العالمي وعشرة أضعاف الميزانية العسكرية الروسية، وإلى ما يوازي إنفاق الدول الخمس عشرة الأولى في العالم مجتمعة في هذا المجال.
فقد تمكنت هذه الدولة من مراكمة ترسانة عسكرية ضخمة كما ونوعا، بدءا بالأسلحة التقليدية ثم النووية وصولا إلى الأنظمة الدفاعية المتطورة والتي ليس بإمكان دول كالصين واليابان وأوربا وروسيا امتلاكها, فهي»الأولى من حيث عدد الرؤوس النووية التي تقدر بحوالي 15 ألف رأس نووي، وهي الأولى من حيث عدد الغواصات النووية الذي يقدر بحوالي 700 غواصة نووية، وهي الأولى من حيث عدد القاذفات الاستراتيجية البعيدة المدى التي تزيد على 500 قاذفة استراتيجية، كما أنها الدولة الوحيدة التي تمتلك برنامج حرب النجوم الذي يوفر للولايات المتحدة دون غيرها من دول العالم، حماية ضد أي هجوم نووي من الخارج».
الحضور السياسي والدبلوماسى
على مستوى الحضور الدبلوماسي والسياسي على الساحة الدولية فهو حضور فعال منذ نهاية الحرب الباردة، تعزز مع حرب الخليج الثانية وتأكد في عدة أزمات وقضايا دولية عديدة أخرى، فكل العوامل السابق ذكرها أسمهت بشكل كبير في تعزيزه, وأتاحت لها القدرة على التدخل في المناطق النائية، وضبط بؤر التوتر الخطيرة واحتواء الأنظمة والجماعات الدولية المعادية لمصالحها، واحتكار إدارة أزمات دولية تنطوي على مصالح استراتيجية لهذا البلد (حرب الخليج الثانية، مشكلة الشرق الأوسط، أزمة البوسنة والهرسك، المشكلة الصومالية، أزمة «لوكربي»، قضية هايتي، التدخل في أفغانستان 2001، غزو العراق...).
ويمكن القول إن غياب بديل أو منافس قادر على كسر الهيمنة الأمريكية على شؤون العالم حتى الآن رغم تنامي قدرات بعضها بشكل لافت للنظر ، حيث نجد سعيا حثيثا لليابان نحو تأكيد تواجدها الدولي، حيث أصبحت تهتم بالشؤون الدولية وتشارك أحيانا ضمن عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام, فالثقل الذي يحتله اقتصادها ونفوذها المحتمل في المؤسسات المالية الدولية يؤهلها لهذا الدور، فيما يعرف الاتحاد الأوربي تطورا كبيرا على المستوى الاقتصادي والمالي والإستراتيجي، وإقدامه على الدخول في بعض المواجهات مع الولايات المتحدة بخصوص بعض السياسات الزراعية والثقافية والقضايا الدولية الكبرى.
اوروبا فى الطريق
يقدم الاتحاد الأوروبي نفسه من خلال مشروع دولة كونفدرالية بعد عملية التوحيد، وإطلاق اليورو بالإضافة للسياسة الخارجية الموحدة والأمن لتحقيق عدة أهداف أولها السعي لتأسيس أوروبا مستقرة ذات نفوذ قوي في العالم. وزيادة قدرته على المنافسة الدولية ، بالإضافة للتمكين من استخدام القوة حيثما تعرضت المصالح الحيوية للخطر وذلك بالإضافة إلى تعزيز القدرة على الاستجابة الأكثر عملية في مواجهة الصراعات والأزمات . إن أوروبا بأكملها ككل ستستفيد اقتصاديا وسياسيا وذلك من خلال خلق سوق محلية مؤلفة من 500 مليون إنسان. بعد أن توسع من ستة أعضاء ليشمل 25عضوا.
كذلك فإن الاتحاد الأوروبي وبعض دوله الأعضاء تقدم ما معدله 55% من أموال المساعدات الرسمية للتطوير (ODA) وأكثر من ثلثي منح المساعدات . وقد ارتفعت حصة المساعدات الأوروبية التي تمت إدارتها من قبل المفوضية وبنك الاستثمار الأوروبي من 7% قبل 30 عاما إلى ما نسبته 17% في الوقت الراهن . وفي المجموع العام فإن المفوضية تدير حقيبة للمساعدات الخارجية السنوية تبلغ حوالي 9.6 بليون يورو سنويا.
وبالنسبة للصين فقد كانت الصين السنوات الماضية من أسرع دول العالم نموا.. وشقت طريقها لتتبوأ مكانتها كواحدة من أكبر القوى الاقتصادية في العالم. وحددت حكومة بكين هدفا لها عام 2004 هو تضاعف الناتج المحلي الإجمالي أربع مرات خلال 20 عاما من خلال الاستفادة من التجارة الخارجية والاستثمارات والتكنولوجيا. وتهدف الحكومة الصينية عام 2020 لمضاعفة نصيب الفرد إلى خمسة أضعاف نصيبه الآن والذي يصل إلى ألف دولار.
ونتيجة لهذه التحولات زاد حجم التجارة الخارجية للصين خلال العام 2004 ليصل الى 587 مليار دولار وتزايدت صادرات الصين لتصل الى 266.1 مليار دولار بنسبة زيادة قدرها 6.8 بالمائة حيث تعد الولايات المتحدة السوق الرئيسية للصادرات الصينية إذ وصل إجمالي الصادرات الصينية إلى أميركا في عام 2000 إلى ما يزيد على 542 مليون دولار أي بنسبة عشرين بالمائة من الصادرات مقابل 16.9 بالمائة لليابان و15.3 بالمئة مع أوروبا، كما أن ميزان المدفوعات التجاري بين الصين وأميركا فاق 15 مليون دولار لصالح الصين لتحقق بعد اليابان هذه النسبة الضخمة من العجز في ميزان المدفوعات الأميركي.
وفي 17/2/2005 قال مسؤول من وزارة التجارة الصينية إن الصادرات الصينية الى الولايات المتحدة تجاوزت 120 مليار دولار أمريكى فى 2004 بينما بلغت الصادرات الصينية الى اليابان والاتحاد الأوربى 170.9 مليار و177.7 مليار دولار أمريكى, وذلك أظهر أن زيادة التجارة الصينية الخارجية اعتمدت على الأسواق اليابانية والأمريكية والأوربية التقليدية وان نسبة الأسواق التقليدية فى التجارة الصينية ما زالت تزداد.
نهاية توازن الرعب
وبالنسبة لروسيا القطب السابق فقد كانت علاقتها بالولايات المتحدة محكومة بتوازن الرعب النووي إبان فترة الحرب الباردة وكانت الحرب الباردة فى الماضى هى بمثابة مواجهة بين كتلة عسكرية وأخرى أما الآن فهي تتركز على التغلغل والتغلغل المضاد بين البلدين فى مجال كل دولة ، والتكالب بينهما على المكانة فى مجال الوضعية السياسية العالمية المستقبلية.
صحيح أن المصالح بين أميركا وروسيا تداخلت بعمق فى كثير من المجالات على خلفية عولمة الاقتصاد ، ولكن لا يزال يبقى مزيد من الاحتكاك . فالبيت الأبيض لم يتوقف منذ نهاية العام 2001 عن تسديد اللكمات المؤلمة للكرملين، وعن دفعه دفعاً إلى القيام بهجمات مضادة، على الأقل دفاعاً عن النفس والوجود.
القصة بدأت مباشرة بعد أحداث سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن. آنذاك، كان فلاديمير بوتين أول رئيس في العالم يتصل بالرئيس بوش ليضع إمكانات بلاده في خدمة الحرب العالمية الأمريكية ضد الإرهاب. وسرعان ما قرن بوتين القول بالفعل، فسمح للقوات الأمريكية بالتمركز في بعض دول آسيا الوسطى الإسلامية لتسهيل غزوها لأفغانستان، ثم قدم لواشنطن تسهيلات لوجستية واستخبارية واسعة النطاق. كما أن الرئيس الروسي، الذي تحوّل حينها إلى نجم شعبي أمريكي بسبب مواقفه هذه، حرص على تنسيق كل سياساته الإقليمية والعالمية مع واشنطن. الهدف: التحول إلى حليف استراتيجي لأمريكا، ممنياً النفس بأن هذا قد يسمح لروسيا باستعادة شيء من صحتها الاقتصادية ونفوذها الدولي، وإن تحت عباءة أمريكية.
لكن الولايات المتحدة قررت الإعلان فجأة في أواخر العام 2001 عن إلغاء معاهدة حظر الدفاع ضد الصواريخ( أي.بي. ام)، مما سمح لواشنطن بتطوير أنظمة دفاعية صاروخية متطورة تمكنّها من تدمير روسيا (أو الصين) في ضربة نووية أولى، من دون أن تخشى رداً في ضربة ثانية. مع بدايات العام ،2002 شنت واشنطن بقيادة نائب الرئيس تشيني حملة شاملة للسيطرة على النفط الروسي)، وذلك عبر تسهيل سيطرة شركات النفط الأمريكية، خاصة أكسون وشيفرون، على شركة النفط الروسية العملاقة «يوكوس» التي يملكها اليهودي خودوركوفسكي.
حين فشلت هذه المحاولة، بعد أن عمد بوتين إثر غزو العراق العام 2003 إلى سجن خودوركوفسكي وإعادة هيمنة الدولة الروسية على «يوكوس»، تحركت واشنطن للسيطرة على بحر قزوين وقطع دابر المصالح الروسية الكبيرة فيه، خاصة في مجال نقل البترول. الهجوم الأمريكي هناك لا يزال مستمراً.
في أواخر ،2003 أشعلت واشنطن «ثورة الورود» في جورجيا لإطاحة الرئيس شيفاردنازدة، وأرسلت فرقة القبعات الخضر إلى هناك لدعم النظام الجديد. الهدف الظاهر الديمقراطية والباطن فصل جورجيا عن روسيا، وتأمين المناطق التي يمر بها خط أنابيب النفط من باكو في أذربيجان إلى سيحان على السواحل التركية، والذي بني لتجنب نقل النفط عبر روسيا.
بعد ثورة ورود جورجيا، جاءت ثورة قرنفل أوكرانيا العام 2004 بدفع من واشنطن، والتي ألهبت بشكل حاد المشاعر القومية الروسية، بسبب العلاقات التاريخية والثقافية بين الروس ونصف الأوكرانيين على الأقل.
ولم يكن للروس من خيار سوى الرد بهجوم مضاد. وهذا ما فعلوه، أولاً داخل روسيا نفسها، حين اطبقوا على خودوركوفسكي وبقية السرب الاقتصادي السياسي الموالي للغرب، ثم حين تحركوا بقوة لوقف تداعي المواقع في الاتحاد السوفييتي السابق مستخدمين للمرة الأولى سلاح النفط، ونجحوا في ذلك في جورجيا وأوكرانيا وقيرغيستان وإلى حد ما في كازاخستان وأذربيجان. والآن، هم ينشطون في أمريكا اللاتينية (بيع الأسلحة لفنزويلا وغيرها) ويستعدون للعب أدوار أكبر في الشرق الأوسط عبر الإيرانيين والسوريين والفلسطينيين وبعض اللبنانيين.
ثانيا: الزعامة الأمريكية في مواجهة التحديات. رغم توافر مجموعة من المؤهلات التي تمنح للولايات المتحدة مكانة متميزة ورائدة في المجتمع الدولي، فإن هناك العديد من التحديات التي تواجهها، ويمكن تصنيف أهم التحديات التي تواجه الزعامة الأمريكية إلى تحديات داخلية وأخرى خارجية. فعلى الصعيد الداخلي، بدأت تعتري الاقتصاد الأمريكي في السنوات الأخيرة عدة صعوبات من بينها الركود، فقد وصل عجز الميزانية الأمريكية في العقد الأخير من القرن الماضي ما يناهز 350 مليار دولار، وبلغ حجم الديون الخارجية 3,5 تريليونا دولار, وزادت ديون الأفراد بنسبة 12 بالمائة، في حين لم يرتفع دخل الفرد إلا بنسبة 7 بالمائة، كما ارتفعت معدلات البطالة إلى 6,6 في المائة، وهبطت معدلات البيع في أسواق السيارات والعقارات هبوطا حادا (14)، وخلال فترة التسعينيات أصبحت سرعة الإنتاجية تقل ثلاث مرات عن مثيلاتها في اليابان ومرتين عنه في أوربا الغربية، هذا بالإضافة إلى التردي الذي تعرفه الخدمات الصحية والتعليمية, وتزايد نسبة الإقصاء والتهميش في أوساط الفئات الفقيرة، وهو الأمر الذي أفرز أصواتا عديدة داخلية تندد بالعولمة.
وتشهد المدارس والجامعات الأمريكية حالات من التدهور يبرزها تراجع طلابها أمام الطلاب الأجانب وخاصة في مجال الرياضيات والكيمياء وعلوم الحاسب الآلي، هذا بالإضافة إلى النظرة المغلوطة للمجتمع الأمريكي قاطبة إزاء جزء كبير من قضايا وشعوب العالم نتيجة عدم الانفتاح على الشؤون الدولية من جهة, والتعتيم الممارس في حقه بهذا الخصوص من جهة أخرى.
كما أن النموذج الديموقراطي لهذا البلد، لم يعد ذلك النموذج العالمي الناجح والرائد، بعد أن وصل التضييق على الحقوق والحريات أوجه في أعقاب أحداث الحادي عشر من شهر سبتمبر 2001.
في مقابل من يرى أن الولايات المتحدة أضحت القوة العظمى الوحيدة في العالم بعد انهيار الإمبراطورية السوفيتية، يعتقد هنري كيسنجر أن النظام الدولي الجديد قيد التشكيل هو شيء أشبه ما يكون بنظام الدول الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وسيكون في هذا النظام الجديد ستة مراكز قوى أساسية على الأقل هي: الولايات المتحدة الأميركية، وأوروبا، والصين ، واليابان ، وروسيا واحتمالا الهند بإضافة مجموعة من الدول الأصغر.
ومن المحتمل ان تتشكل المجموعة الاخيرة من دول من العالم الثالث والتي تتمتع بالثروات المالية والقوة العسكرية النووية والسكان، وبقية العناصر التي تعتبر مؤثرة فى تشكيل القوة على الساحة الدولية.
سمات النظام الدولي ومقومات القوة
وفي نظرة إجمالية وكلية نرى بوضوح تام أن التحولات التي طرأت على أسس وبناء القوة في العالم كانت على حساب الآلة والقوة العسكرية التي كانت تضبط العلاقات الدولية من خلالها في فترة الحرب الباردة ، ولصالح العوامل الاقتصادية والخبرات الفنية. ولكننا يجب ان لا نستبعد عن الاذهان هذه الحقيقة وهي ان القوة العسكرية ما زالت تتمتع بدور كبير في الوقت الراهن في سلسلة مراتب العناصر التي تشكل القدرة الوطنية. وبعبارة اخرى فما دامت المباحثات الطويلة والمتعلقة بنزع الاسلحة النووية لم تصل بعد إلى نتيجة نهائية وقطعية فاننا سنشاهد ولسنوات طويلة جداً نظاماً ثنائي القطبية في بناء القوة العسكرية المرعبة في العالم. والدليل على ذلك هو انّه رغم انهيار الاتحاد السوفيتي الذي كان يمثل زعيم القطب الشرقي السابق، تمتلك جمهورية روسيا 1035 صاروخاً بالستياً عابراً للقارات من طراز ICBM مقابل 1000 صاروخ باليستي تمتلكه الولايات المتحدة الأميركية بل إن أوكرانيا وكازاخستان وروسيا البيضاء تمتلك بالترتيب 176 و104 و72 صاروخا في حين تملك بريطانيا 96 وفرنسا 452 والصين 324 ولا يخفى ان هذا التوزيع للاسلحة الاستراتيجية يعكس نوعاً من توازن القوى في المعايير العالمية.
وعلى صعيد القوة الاقتصادية يبلغ إجمالي الناتج القومي الأمريكي حاليا 6 تريليونا دولار وهو ما يوازي 25 بالمائة من إجمالي الناتج القومي العالمي الذي بلغ أكثر من 26 تريليون دولار عام 1995. وبالنظر إلى هذه الإمكانيات والقدرات التي يتميز بها الاقتصاد الأمريكي الذي أصبح مبينا على الاتصالات والمعلومات والإعلام والترفيه.
وعلى المستوى العسكري, تمتلك الولايات المتحدة أكبر قوة عسكرية في العالم، فهي تخصص ميزانية سنوية ضخمة لاستثمارها في هذا المجال تصل إلى حدود 270 مليار دولار، أي ما يوازي 30 بالمائة من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي والذي يقدر بحوالي 900 مليار دولار ، بل إن الإنفاق العسكري الأمريكي وصل مؤخرا إلى ما يربو نصف الإنفاق العسكري العالمي وعشرة أضعاف الميزانية العسكرية الروسية، وإلى ما يوازي إنفاق الدول الخمس عشرة الأولى في العالم مجتمعة في هذا المجال.
فقد تمكنت هذه الدولة من مراكمة ترسانة عسكرية ضخمة كما ونوعا، بدءا بالأسلحة التقليدية ثم النووية وصولا إلى الأنظمة الدفاعية المتطورة والتي ليس بإمكان دول كالصين واليابان وأوربا وروسيا امتلاكها, فهي»الأولى من حيث عدد الرؤوس النووية التي تقدر بحوالي 15 ألف رأس نووي، وهي الأولى من حيث عدد الغواصات النووية الذي يقدر بحوالي 700 غواصة نووية، وهي الأولى من حيث عدد القاذفات الاستراتيجية البعيدة المدى التي تزيد على 500 قاذفة استراتيجية، كما أنها الدولة الوحيدة التي تمتلك برنامج حرب النجوم الذي يوفر للولايات المتحدة دون غيرها من دول العالم، حماية ضد أي هجوم نووي من الخارج».
الحضور السياسي والدبلوماسى
على مستوى الحضور الدبلوماسي والسياسي على الساحة الدولية فهو حضور فعال منذ نهاية الحرب الباردة، تعزز مع حرب الخليج الثانية وتأكد في عدة أزمات وقضايا دولية عديدة أخرى، فكل العوامل السابق ذكرها أسمهت بشكل كبير في تعزيزه, وأتاحت لها القدرة على التدخل في المناطق النائية، وضبط بؤر التوتر الخطيرة واحتواء الأنظمة والجماعات الدولية المعادية لمصالحها، واحتكار إدارة أزمات دولية تنطوي على مصالح استراتيجية لهذا البلد (حرب الخليج الثانية، مشكلة الشرق الأوسط، أزمة البوسنة والهرسك، المشكلة الصومالية، أزمة «لوكربي»، قضية هايتي، التدخل في أفغانستان 2001، غزو العراق...).
ويمكن القول إن غياب بديل أو منافس قادر على كسر الهيمنة الأمريكية على شؤون العالم حتى الآن رغم تنامي قدرات بعضها بشكل لافت للنظر ، حيث نجد سعيا حثيثا لليابان نحو تأكيد تواجدها الدولي، حيث أصبحت تهتم بالشؤون الدولية وتشارك أحيانا ضمن عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام, فالثقل الذي يحتله اقتصادها ونفوذها المحتمل في المؤسسات المالية الدولية يؤهلها لهذا الدور، فيما يعرف الاتحاد الأوربي تطورا كبيرا على المستوى الاقتصادي والمالي والإستراتيجي، وإقدامه على الدخول في بعض المواجهات مع الولايات المتحدة بخصوص بعض السياسات الزراعية والثقافية والقضايا الدولية الكبرى.
اوروبا فى الطريق
يقدم الاتحاد الأوروبي نفسه من خلال مشروع دولة كونفدرالية بعد عملية التوحيد، وإطلاق اليورو بالإضافة للسياسة الخارجية الموحدة والأمن لتحقيق عدة أهداف أولها السعي لتأسيس أوروبا مستقرة ذات نفوذ قوي في العالم. وزيادة قدرته على المنافسة الدولية ، بالإضافة للتمكين من استخدام القوة حيثما تعرضت المصالح الحيوية للخطر وذلك بالإضافة إلى تعزيز القدرة على الاستجابة الأكثر عملية في مواجهة الصراعات والأزمات . إن أوروبا بأكملها ككل ستستفيد اقتصاديا وسياسيا وذلك من خلال خلق سوق محلية مؤلفة من 500 مليون إنسان. بعد أن توسع من ستة أعضاء ليشمل 25عضوا.
كذلك فإن الاتحاد الأوروبي وبعض دوله الأعضاء تقدم ما معدله 55% من أموال المساعدات الرسمية للتطوير (ODA) وأكثر من ثلثي منح المساعدات . وقد ارتفعت حصة المساعدات الأوروبية التي تمت إدارتها من قبل المفوضية وبنك الاستثمار الأوروبي من 7% قبل 30 عاما إلى ما نسبته 17% في الوقت الراهن . وفي المجموع العام فإن المفوضية تدير حقيبة للمساعدات الخارجية السنوية تبلغ حوالي 9.6 بليون يورو سنويا.
وبالنسبة للصين فقد كانت الصين السنوات الماضية من أسرع دول العالم نموا.. وشقت طريقها لتتبوأ مكانتها كواحدة من أكبر القوى الاقتصادية في العالم. وحددت حكومة بكين هدفا لها عام 2004 هو تضاعف الناتج المحلي الإجمالي أربع مرات خلال 20 عاما من خلال الاستفادة من التجارة الخارجية والاستثمارات والتكنولوجيا. وتهدف الحكومة الصينية عام 2020 لمضاعفة نصيب الفرد إلى خمسة أضعاف نصيبه الآن والذي يصل إلى ألف دولار.
ونتيجة لهذه التحولات زاد حجم التجارة الخارجية للصين خلال العام 2004 ليصل الى 587 مليار دولار وتزايدت صادرات الصين لتصل الى 266.1 مليار دولار بنسبة زيادة قدرها 6.8 بالمائة حيث تعد الولايات المتحدة السوق الرئيسية للصادرات الصينية إذ وصل إجمالي الصادرات الصينية إلى أميركا في عام 2000 إلى ما يزيد على 542 مليون دولار أي بنسبة عشرين بالمائة من الصادرات مقابل 16.9 بالمائة لليابان و15.3 بالمئة مع أوروبا، كما أن ميزان المدفوعات التجاري بين الصين وأميركا فاق 15 مليون دولار لصالح الصين لتحقق بعد اليابان هذه النسبة الضخمة من العجز في ميزان المدفوعات الأميركي.
وفي 17/2/2005 قال مسؤول من وزارة التجارة الصينية إن الصادرات الصينية الى الولايات المتحدة تجاوزت 120 مليار دولار أمريكى فى 2004 بينما بلغت الصادرات الصينية الى اليابان والاتحاد الأوربى 170.9 مليار و177.7 مليار دولار أمريكى, وذلك أظهر أن زيادة التجارة الصينية الخارجية اعتمدت على الأسواق اليابانية والأمريكية والأوربية التقليدية وان نسبة الأسواق التقليدية فى التجارة الصينية ما زالت تزداد.
نهاية توازن الرعب
وبالنسبة لروسيا القطب السابق فقد كانت علاقتها بالولايات المتحدة محكومة بتوازن الرعب النووي إبان فترة الحرب الباردة وكانت الحرب الباردة فى الماضى هى بمثابة مواجهة بين كتلة عسكرية وأخرى أما الآن فهي تتركز على التغلغل والتغلغل المضاد بين البلدين فى مجال كل دولة ، والتكالب بينهما على المكانة فى مجال الوضعية السياسية العالمية المستقبلية.
صحيح أن المصالح بين أميركا وروسيا تداخلت بعمق فى كثير من المجالات على خلفية عولمة الاقتصاد ، ولكن لا يزال يبقى مزيد من الاحتكاك . فالبيت الأبيض لم يتوقف منذ نهاية العام 2001 عن تسديد اللكمات المؤلمة للكرملين، وعن دفعه دفعاً إلى القيام بهجمات مضادة، على الأقل دفاعاً عن النفس والوجود.
القصة بدأت مباشرة بعد أحداث سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن. آنذاك، كان فلاديمير بوتين أول رئيس في العالم يتصل بالرئيس بوش ليضع إمكانات بلاده في خدمة الحرب العالمية الأمريكية ضد الإرهاب. وسرعان ما قرن بوتين القول بالفعل، فسمح للقوات الأمريكية بالتمركز في بعض دول آسيا الوسطى الإسلامية لتسهيل غزوها لأفغانستان، ثم قدم لواشنطن تسهيلات لوجستية واستخبارية واسعة النطاق. كما أن الرئيس الروسي، الذي تحوّل حينها إلى نجم شعبي أمريكي بسبب مواقفه هذه، حرص على تنسيق كل سياساته الإقليمية والعالمية مع واشنطن. الهدف: التحول إلى حليف استراتيجي لأمريكا، ممنياً النفس بأن هذا قد يسمح لروسيا باستعادة شيء من صحتها الاقتصادية ونفوذها الدولي، وإن تحت عباءة أمريكية.
لكن الولايات المتحدة قررت الإعلان فجأة في أواخر العام 2001 عن إلغاء معاهدة حظر الدفاع ضد الصواريخ( أي.بي. ام)، مما سمح لواشنطن بتطوير أنظمة دفاعية صاروخية متطورة تمكنّها من تدمير روسيا (أو الصين) في ضربة نووية أولى، من دون أن تخشى رداً في ضربة ثانية. مع بدايات العام ،2002 شنت واشنطن بقيادة نائب الرئيس تشيني حملة شاملة للسيطرة على النفط الروسي)، وذلك عبر تسهيل سيطرة شركات النفط الأمريكية، خاصة أكسون وشيفرون، على شركة النفط الروسية العملاقة «يوكوس» التي يملكها اليهودي خودوركوفسكي.
حين فشلت هذه المحاولة، بعد أن عمد بوتين إثر غزو العراق العام 2003 إلى سجن خودوركوفسكي وإعادة هيمنة الدولة الروسية على «يوكوس»، تحركت واشنطن للسيطرة على بحر قزوين وقطع دابر المصالح الروسية الكبيرة فيه، خاصة في مجال نقل البترول. الهجوم الأمريكي هناك لا يزال مستمراً.
في أواخر ،2003 أشعلت واشنطن «ثورة الورود» في جورجيا لإطاحة الرئيس شيفاردنازدة، وأرسلت فرقة القبعات الخضر إلى هناك لدعم النظام الجديد. الهدف الظاهر الديمقراطية والباطن فصل جورجيا عن روسيا، وتأمين المناطق التي يمر بها خط أنابيب النفط من باكو في أذربيجان إلى سيحان على السواحل التركية، والذي بني لتجنب نقل النفط عبر روسيا.
بعد ثورة ورود جورجيا، جاءت ثورة قرنفل أوكرانيا العام 2004 بدفع من واشنطن، والتي ألهبت بشكل حاد المشاعر القومية الروسية، بسبب العلاقات التاريخية والثقافية بين الروس ونصف الأوكرانيين على الأقل.
ولم يكن للروس من خيار سوى الرد بهجوم مضاد. وهذا ما فعلوه، أولاً داخل روسيا نفسها، حين اطبقوا على خودوركوفسكي وبقية السرب الاقتصادي السياسي الموالي للغرب، ثم حين تحركوا بقوة لوقف تداعي المواقع في الاتحاد السوفييتي السابق مستخدمين للمرة الأولى سلاح النفط، ونجحوا في ذلك في جورجيا وأوكرانيا وقيرغيستان وإلى حد ما في كازاخستان وأذربيجان. والآن، هم ينشطون في أمريكا اللاتينية (بيع الأسلحة لفنزويلا وغيرها) ويستعدون للعب أدوار أكبر في الشرق الأوسط عبر الإيرانيين والسوريين والفلسطينيين وبعض اللبنانيين.
ثانيا: الزعامة الأمريكية في مواجهة التحديات. رغم توافر مجموعة من المؤهلات التي تمنح للولايات المتحدة مكانة متميزة ورائدة في المجتمع الدولي، فإن هناك العديد من التحديات التي تواجهها، ويمكن تصنيف أهم التحديات التي تواجه الزعامة الأمريكية إلى تحديات داخلية وأخرى خارجية. فعلى الصعيد الداخلي، بدأت تعتري الاقتصاد الأمريكي في السنوات الأخيرة عدة صعوبات من بينها الركود، فقد وصل عجز الميزانية الأمريكية في العقد الأخير من القرن الماضي ما يناهز 350 مليار دولار، وبلغ حجم الديون الخارجية 3,5 تريليونا دولار, وزادت ديون الأفراد بنسبة 12 بالمائة، في حين لم يرتفع دخل الفرد إلا بنسبة 7 بالمائة، كما ارتفعت معدلات البطالة إلى 6,6 في المائة، وهبطت معدلات البيع في أسواق السيارات والعقارات هبوطا حادا (14)، وخلال فترة التسعينيات أصبحت سرعة الإنتاجية تقل ثلاث مرات عن مثيلاتها في اليابان ومرتين عنه في أوربا الغربية، هذا بالإضافة إلى التردي الذي تعرفه الخدمات الصحية والتعليمية, وتزايد نسبة الإقصاء والتهميش في أوساط الفئات الفقيرة، وهو الأمر الذي أفرز أصواتا عديدة داخلية تندد بالعولمة.
وتشهد المدارس والجامعات الأمريكية حالات من التدهور يبرزها تراجع طلابها أمام الطلاب الأجانب وخاصة في مجال الرياضيات والكيمياء وعلوم الحاسب الآلي، هذا بالإضافة إلى النظرة المغلوطة للمجتمع الأمريكي قاطبة إزاء جزء كبير من قضايا وشعوب العالم نتيجة عدم الانفتاح على الشؤون الدولية من جهة, والتعتيم الممارس في حقه بهذا الخصوص من جهة أخرى.
كما أن النموذج الديموقراطي لهذا البلد، لم يعد ذلك النموذج العالمي الناجح والرائد، بعد أن وصل التضييق على الحقوق والحريات أوجه في أعقاب أحداث الحادي عشر من شهر سبتمبر 2001.