-A +A
رصدها عبد الجبار أبو غربية : عمان
توقفنا في الحلقة السابقة من سيرة الشخصية الوطنية القيادية الفلسطينية المحامي يحيى حمودة، عندما اختلف مع خليفته فى رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، وكيف تقدم حمودة باستقالته من رئاسة المجلس الوطني عندما وجد أن رئاسته للمجلس شكلية، مع انه أثناء رئاسته لمنظمة التحرير مهد الطريق أمام حركة «فتح» ورئيسها ياسر عرفات للسيطرة على المنظمة، بكامل مؤسساتها، ولم تبق غير مؤسسة المجلس الوطني الذي يفرز من بين أعضائه اللجنة التنفيذية التي تقود المنظمة، ولهذا اضطر حمودة على الاستقالة ليتم اختيار خالد الفاهوم خلفا له، والفاهوم مقرب من حركة فتح ورئيسها ياسر عرفات.
في هذه الحلقة نعرض لأهم ملامح حياته بعد استقالته من المنظمة، ونتعرف على رأيه فيما تم من اتفاقيات مع العدو الصهيوني.

لا كراهية لليهود وإنما للصهيونية
كان يحيى حمودة «أبو اسماعيل» يقول باستمرار انه لا توجد كراهية لليهود في فلسطين، ويقصد اليهود الذين كانوا يقيمون عادة في فلسطين، وإنما الكراهية هي للصهاينة المحتلين الذين اغتصبوا فلسطين وأقاموا عليها دولة لهم بعد أن قتلوا وشردوا الفلسطينيين الذين هم أصحاب الأرض الحقيقيين، ويقول في إحدى المقابلات الصحفية النادرة التي كان يجريها، حيث لم يكن مغرما بالتصريحات الصحفية ولا بالمقابلات، وكل من يعرفه يقول إن «ابو اسماعيل يحب العمل بصمت وبعيدا عن الأضواء»، قال في تلك المقابلة، لا كراهية لليهود في فلسطين، وإنما الكراهية للمحتلين الصهاينة، نعم لقد عشنا مع اليهود في فلسطين حياة عادية، وأذكر أنهم كانوا يلبسون «الطرابيش» و«القنابيز»، أي اللباس العربي، ويتكلمون اللهجة العربية الدارجة في مناطق فلسطين، ولم يلبسوا «البرانيط والقبعات الغربية» أبدا قبل دخول الإنجليز إلى فلسطين، لقد كنا نتبادل وإياهم الهدايا في الأعياد، نرسل لهم البيض الملون المسلوق، ويرسلون لنا «الخبز الفطير» ولم نفكر أبدا أن يجري ما جرى ويتشرد شعبنا في أنحاء الدنيا.
وفي ذلك إشارة واضحة على أن التعايش بين المسلمين واليهود في فلسطين كان قائما تماما كما هو قائم بين المسلمين والمسيحيين، ولكن بعد أن وقعت أنظار مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هيرتزل على فلسطين لتحقيق مشروعه الصهيوني بتجميع يهود العالم فيها وجعلها وطنا لهم على حساب أصحاب الأرض الحقيقيين، بدأت الكراهية تظهر للحركة الصهيونية وأتباعها ولكل من يعمل على تحقيق مشروعها في فلسطين، لأنه يتمثل بزرع اليهود في فلسطين وخلع الفلسطينيين من أرضهم.
ومن هنا كان يحيى حمودة الذي عاصر المؤامرة منذ بدايتها، حيث انه كما بينا من مواليد عام 1909م، فهو بالتالي من أكثر الذين يعرفون الخطر الحقيقي الذي تمثله الحركة الصهيونية في مشروعها هذا على فلسطين، ومن ثم على المحيط العربي وخاصة أن الشعار الذي ترفعه الحركة الصهيونية يقول «حدودك يا إسرائيل من النيل إلى الفرات» وللتعبير عن هذا الشعار فقد تم تصميم العلم الإسرائيلي لدولة الاحتلال بوضع خطين أزرقين متوازيين في منتصفه وبينهما مساحة بيضاء، وترمز دولة الاحتلال بهذين الخطين إلى نهري «النيل والفرات»، كتأكيد من دولة الاحتلال على أطماعها التوسعية والتي لن تكتفي باحتلالها لفلسطين العربية، بل تنظر إلى أبعد من ذلك كما هو واضح من مشروعها المعلن في مؤتمر بازل المنعقد في سويسرا عام 1897م.


رفض التسوية السياسية للقضية
انطلاقا من إدراك يحيى حمودة وقناعته بأن القضية الفلسطينية لا تحل بالعمل الدبلوماسي والسياسي فقط، وإنما يتم ذلك من خلال تغذية وتنمية الثورة المسلحة التي توجع العدو، فقد وجه رسالته الشهيرة الى ياسر عرفات يطلب منه فيها الابتعاد عن كل خطوط التسوية، والابتعاد بالمنظمة عن العمل السياسي، وتركيز جهودها فقط في العمل الفدائي الذي يجب أن يكون هو استراتيجية العمل، وأن ترفض منظمة التحرير الفلسطينية الخوض في أية مبادرات أو مشاريع سياسية تسووية الغرض منها تصفية القضية الفلسطينية ومصادرة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
وكان حمودة أكد موقفه هذا المتمثل بأن الثورة المسلحة هي الوسيلة الوحيدة التي تحرر الوطن وليس العمل الدبلوماسي والسياسي الذي لا يكون مصحوبا بقوة تعطيه منعة التفاوض لاستعادة الحقوق، لا للتنازل عنها بالطبع، ذلك من التفاوض لا يكون في مفهوم حمودة لغايات التفاوض وإنما لغايات تحرير الوطن كل الوطن، ولذلك لاحظنا أنه قدم جهدا مميزا خلال ترؤسه منظمة التحرير الفلسطينية لغايات جعل قوات التحرير الشعبية التي أسستها المنظمة كقوة فدائية فاعلة إلى جانب جيش التحرير الفلسطيني كما أنه عمل على ضم جميع التنظيمات الفدائية العاملة ضد العدو الصهيوني، إلى منظمة التحرير الفلسطينية، بعد جهد كبير بذله هو أعضاء اللجنة التنفيذية مع قيادات تلك المنظمات إلى أن اقتنعت تلك التنظيمات ودخلت عضوية المنظمة، مما جعل منها أغلبية، وتنتخب من بينها رئيس حركة فتح (أكبر تلك التنظيمات وأنشطها) ياسر عرفات رئيسا للمنظمة خلفا لرئيسها يحيى حمودة، الذي جاء بهم إلى المنظمة.
وبعد أن كانت المنظمة في عهد حمودة تعتبر الاعتراف بدولة العدو الصهيوني «خطا أحمر» وكل من يتحدث به يصنف «خائنا»، التزاما بنصوص الميثاق الوطني الفلسطيني التي تؤكد أن تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964م هو لغايات العمل على تحرير كل فلسطين، مشددا على أن الحقوق الفلسطينية كل لا يتجزأ، أصبحت المنظمة في مرحلة ما بعد رئاسة يحيى حمودة تنحو منحى سياسيا مختلفا، هو ما دفع حمودة إلى الاستقالة واعتزال العمل في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية.
وبعد أن استقال حمودة من المنظمة، عاد لينشط في عمله المهني «مكتب المحاماة» الذي كان مكانا مناسبا للقاءات شخصيات وطنية مرموقة تجتمع لتناقش ما وصلت إليه القضية وكل المستجدات على الساحة السياسية.

كل الفلسطينيين في معركة التحرير
كان يحيى حمودة يعي أن المعركة مع العدو الصهيوني الغاصب والمحتل لفلسطين لن تكون معركة سهلة، أو قصيرة المدى، ولذلك كان يدعو إلى دمج كل من يستطيع من أبناء الشعب الفلسطيني في الثورة، وكذلك كان يحذر باستمرار من أن تصاب الثورة وقيادتها بالملل لطول أمد معركة التحرير والثورة على المحتل الغاصب، وفي رسالة تعتبر بمثابة الوثيقة التاريخية الهامة تلك التي وجهها يحيى حمودة في إبريل من العام 1970م إلى ياسر عرفات الذي خلفه برئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، يؤكد موقفه هذا بقوله:
«إن نجاح عملنا الثوري يتوقف على مقدار ما نستطيع تحقيقه من تعبئة قوى شعبنا تعبئة كاملة وجعل كل فرد من أفراده يعمل في الحقل الذي يوضع فيه مكرسا جهده للهدف الأول وهو تحرير الوطن السليب واستنقاذه من يد العدو الغاصب، وبالطبع لا يعني هذا أن يصار إلى استثارة الهمم والتعبئة والتجنيد بمعزل عن الفكر الثوري، ومن ألزم الواجبات أن يحدد الفكر الثوري تحديدا دقيقا في هذه المرحلة، فلا ينبغي أن يخلق تناقضا بين صفوف الشعب وإنما يخلق أملا في العيش في ربوع الوطن في مجتمع ينفي الاستغلال ويحقق العدالة الاجتماعية دون اللجوء إلى التفاصيل التي هي في الحقيقة والواقع من مهمات المرحلة المقبلة، مرحلة ما بعد التحرير، ولا شك أن الاسترسال في بحث التفاصيل في هذه المرحلة نوع من استباق الأحداث ولا يخلو التركيز عليه من خطر التفتيش عن بديل عن أرض الوطن، كما يخطط المستعمرون والغزاة الصهيونيون، إذ إن الشعور بالذات القومية في هذه المرحلة هو العامل الفعال الأساسي في بقاء أو عدم بقاء الثورة، كما ان شعار التحرر الطبقي على المدى الطويل، حيث ينتظر ان يطول نضالنا فترة زمنية ليست بالقصيرة، قد تؤدي إلى الملل، واستعجال تحقيقه قد يؤدي إلى الاندماج والتخلي بالتدريج عن فكرة التحرير واستعادة الوطن، وبالتالي قد تؤدي المغالاة فيه في هذه المرحلة إلى شبه استجابة لما يهيئه أعداؤنا من مشاريع عمرانية يغمروننا بها لتكون بديلا عن الوطن، ولعل هذه الخطة من أبرز خططهم، وقد قامت وكالة الغوث الدولية بكل ما تستطيع من جهد وعمل وإغراء من اجل إذابة شعبنا، وظنت انه من السهل تنفيذ خططها الاستيطانية بسبب أن الشعب الفلسطيني شعب عربي يسهل اندماجه في أمته العربية التي يقيم في أقطارها الآن».
ويتابع حمودة في رسالته «إن تحرير الوطن تحريرا تاما من أرجاس الصهيونية، يتطلب زج الشعب الفلسطيني بأسره في المعركة والكف عن رفع شعارات من شأنها أن تفرقه طبقات متنازعة في وقت ليس هنالك ما نتنازع عليه بعد أن استولى عليه العدو، فالتحرير أولا للأرض، ويتبع ذلك حتما تحرير الإنسان، لأن طبيعة ثورتنا وملابساتها، ومرحلة التطور التاريخي التي تمر بها تحتم طبيعتها التقدمية».
ويختم حمودة رسالته الهامة إلى عرفات بالقول «من البديهي ان انتصار ثورتنا يتطلب أولا وقبل كل شيء توحيد قوى لثورة كاملة، بحيث تكون الأداة المعبرة عن إرادة شعبنا في التحرر الكامل، إذ بدون ذلك لا تقوى على البقاء، وكذلك الاتساع والتحول إلى ان تصل إلى مرحلة الحرب الشعبية الشاملة التي تعبأ فيها قوى وإمكانات الوطن العربي الكبير بكل أقطاره، ولا ريب أن نجاح ثورتنا في توحيد قوى وإمكانات شعبنا الفلسطيني وتعبئتها تعبئة شاملة سيكون النصر الحقيقي، العملي لفكرة الوحدة العربية، والمحرك والمجسد لهذه الفكرة، لأن العقبة التي تحول دون توحيد العمل الفلسطيني هي مع التحقيق نفس العقدة التي تحول دون تحقيق الوحدة العربية وانتصارنا بالتغلب عليها هو انتصار مبدئي للوحدة العربية ومن هنا نجد أن تحرير فلسطين سيكون دون أدنى ريب هو الطريق إلى الوحدة العربية، وعلينا ان ندرك ان مهمتنا التاريخية في هذا المجال، مهمة قومية أساسية، وكما يكون نضالنا مفتاحا للوحدة العربية، فإنه كذلك الطريق للنفاذ إلى جماهير أمتنا العربية في كافة أقطارها يذكي وينشر الوعي الصحيح ويعبئ وينظم، فهي بحكم كونها قضية جزء من الوطن العربي الكبير يتعين أن تشترك جماهير أمتنا في النضال من أجل استرداده، ، وستكون النتيجة تحقيق النصر على جبهة استنقاذ الأرض وتحرير الإنسان العربي، وبإيجاز سيكون النضال في سبيل استعادة فلسطين الطريق المؤدي إلى انتصار الثورة العربية ، ثورة التحرير الوطني».

انقلاب فى الثوابت
كما أن يحيى حمودة الذي بقي على موقفه الثابت فيما يتعلق بالحقوق الوطنية الفلسطينية التاريخية المشروعة، وهي الحق العربي الفلسطيني بكامل حدودها التاريخية الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، فإنه كان بعد أن ابتعد عن مؤسسات منظمة التحرير يراقب ذلك التحول السياسي الذي شكل انقلابا في الثوابت الوطنية، والذي بدا باعتراف المنظمة بالقرار 242 الذي يعني ضمنا الاعتراف بدولة الاحتلال الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية، فإنه عندما بدأ الحديث عن اتفاق « غزة - أريحا أولا» في العام 1994م أعلن موقفه الرافض لهذا الاتفاق، وقال حينها في تصريحات صحفية « الحل المطروح بما يسمى مشروع غزة - أريحا أولا ليس حلا، وفي رأيي أن من يوافق عليه ليس وطنيا، بل هو يقوم طائعا بتسليم الأرض لليهود».
ويتابع حمودة تعليقه على موافقة المنظمة على الاتفاق بقوله: «يقولون أننا وافقنا على مشروع غزة أريحا أولا لأن الظروف التي يمر بها الشعب الفلسطيني والأمة العربية أيضا، صعبة جدا، وأنا أقول لا يهم ذلك، فالزمن معنا إضافة إلى العدد والمساحة، نعم عددنا كبير حوالى 300 مليون عربي وأرضنا واسعة، بينما اليهود يتجمعون في مساحة صغيرة من الأرض وعددهم قليل حتى لو هاجروا كلهم إلى فلسطين فهم أقل من 15 مليونا، ولهذا فلا حل الا بإرجاع فلسطين، ولا حل غيره، نحن لنا أرض عربية مغتصبة في فلسطين التي تقع ما بين مصر والشام، ويجب أن تعود، وما ضاع حق ووراءه مطالب».
ويضيف «يقولون إن الاتحاد السوفيتى انهزم وأقول لهم، ما لنا وللاتحاد السوفيتى، هذا كلام فارغ، أي اعتراف بإسرائيل هو جريمة لا تغتفر».
ولتأكيد أن الزمن مع العرب والفلسطينيين، بل والحاضر أيضا، فإن يحيى حمودة يستشهد بيهودي أمريكي زاره في منزله بالعاصمة الأردنية عمان، وقال اليهودي لحمودة «لقد زرت الأرض المحتلة فرأيت بأم عيني طفلا فلسطينيا يقف على ظهر طابونة وبجانبه كومة من الحجارة وكلما مرت سيارة عسكرية إسرائيلية يقوم برشقها بهذه الحجارة».
ويقول اليهودي لحمودة «إن أي شعب فيه مثل هؤلاء الأطفال يردون على ما قاله في الماضي دافيد بن غوريون أول رئيس لدولة الاحتلال الإسرائيلي الذي قال «الكبار في السن من الفلسطينيين سيموتون أما الصغار فسينسون».

لا توقع ولا تصالح
واعتبر يحيى حمودة أن منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت مرتفعة في نضالها، أصبحت بمواقفها السياسية المتهادنة والمستسلمة وبموافقتها على توقيع اتفاقيات الاعتراف بالعدو الصهيوني وبدولتهم على الأرض الفلسطينية أصبحت الآن ويقولها آسفا «تحت» فإلى أين سائرون بنا؟
هذا السؤال وضعه يحيى حمودة في العام 1994م عندما بدأت ملامح اتفاق أوسلو تأخذ طريقها عبر اتفاق غزة أريحا أولا.
ويقول حمودة معلنا موقفه من تقسيم فلسطين الذي كان قد صدر عن الأمم المتحدة في العام 1947م، ويعطي الفلسطينيين أراضي فلسطينية أكثر من تلك التي بقيت بعد احتلال عام 1948م، لم أكن يوما مع التقسيم لفلسطين ولن أكون، وبهذه المناسبة أقول لأبي عمار لا توقع ولا تصالح على فلسطين وكفى، الثورة يجب أن تبقى غاية لتحرير جميع فلسطين، ليعيش اليهود كما عاشوا معنا سابقا في فلسطين آمنين مطمئنين يلبسون لباسنا «القمباز» ويتكلمون لغتنا، نزورهم في أعيادهم ويزوروننا في أعيادنا، وكذلك هو حالهم في باقي الأقطار العربية التي كانوا يقيمون بها.
أكرر بأنني لست أكره اليهود كيهود، ولكنني أكرههم كصهاينة محتلين لبلادي، لقد كانت المدن العربية في القدس وبغداد والقاهرة ودمشق والرباط هي الأمكنة الوحيدة في العالم التي أمنوا فيها على حياتهم وعلى مدى قرون عديدة من اضطهاد العالم لهم خاصة في أوروبا.
فلماذا نكون نحن الفلسطينيين والعرب الذين يدفعون الثمن لهذا الاضطهاد لليهود؟
ويختم حمودة بالقول، وكأنه يقدم وصية في حضرة الموت «قضيتنا لا مثيل لها، أقول للقاصي والداني ولقيادة منظمة التحرير بالذات، لنا وطن مغتصب وعلينا أن نسترده، وفلسطين معروفة من البحر الأبيض المتوسط غربا إلى نهر الأردن شرقا».