حاول الطالب السعودي خالد، المبتعث ضمن برنامج ابتعاث خادم الحرمين الشريفين للدراسات العليا، قصارى جهده في أن يسخر أبحاث ودراسات تخصصه الهندسة البيئية في مواضيع تدور حول الوضع البيئي في السعودية، فلديه ــ كما يقول ــ الكثير من الأفكار والحلول الهندسية البيئية التي تعلمها خلال دراسته في بريطانيا، خصوصا في كيفية تعامل الدول الأوروبية مع موضوع النفايات بطرق سليمة، بل الاستفادة منها في إنتاج الطاقة الكهربائية. مع الأسف أحلام خالد «البيئية» باءت ــ على الأقل لحد الآن ــ بالفشل.
أراد خالد خلال دراسة الماجستير أن يقوم بدراسة معالجة مياه الصرف في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة كخيار أول ثم كخيار ثانِ في دراسة بحيرة المسك كخيار للبحث عن طرق معالجتها أو التخفيف من آثارها المدمرة. كلا الخيارين لم يتحقق، لماذا ؟ لأنه ــ كما كتب لي ــ «قوبل بتجاهل وبيروقراطية فوق الوصف» ومنع من تلقي أي بيانات ومعلومات، فهي «أسرار» ــ على حد وصف المسؤولين. قابل خالد خمسة أكاديميين من جامعة أم القرى وجامعة الملك عبدالعزيز بالإضافة إلى زيارات وصفها بـ«مضيعة للوقت» لمصلحة المياه والصرف والأمانات. آخر نصيحة تلقاها من من أحد الأكاديميين الذي أوضح له أنها «نصيحة أب وأخ كبير» ــ على حد قوله ــ هي الآتي: «يا ولدي ما لك وما للكلام هذا .. خليك في دراستك واترك الأبحاث اللي تتعلق بـ (فضائحنا) ولا تنشرها بره». فالأبحاث العلمية ــ على حد وصف الأكاديمي الفذ ــ «تفتح عيون الأجانب عن الكوارث اللي عندنا». داهم الوقت خالد ولم يتوصل لأية معلومات أو أي خيط يفيده في بحثه الذي يتطلب خلفية جيدة وتعاونا من الجهات المختصة في بلده الأم؛ لذلك قرر أن يختار بحثا يفيد بريطانيا وأن «لك الله ياوطني"، تذكر خالد متحسرا بعد كارثة جدة الأخيرة.
نجح خالد في دراسة الماجستير، وبدأ أخيرا في رسالة الدكتوراه إلى لآن لم يحدد موضوع دراسته بشكل قاطع، فهو ما زال في أولى المراحل، ورغم العوائق ما زال شديد الحرص على ربطها بالوضع البيئي الحالي في السعودية. هل ينجح خالد في سعيه؟ أتمنى ذلك رغم أن الواقع ينفيه.
القصة أعلاه قد ينظر إليها كمثال على مكانة البحث العلمي لدينا، فإذا كانت عقليات بعض الأكاديميين الجهابذة تصنف الدراسة العلمية الموثقة بـ«فضائح» ما بالك، إذا، بموظفي المياه والصرف الصحي وغيرها من الجهات الحكومية. ولكن بالنظر للصورة الأكبر، أعتقد أن المغزى الرئيسي لهذه القصة له تأويل آخر أراه أشد إلحاحا وأهمية من الأول. لو كان لدينا منظمة مدنية بيئية فاعلة لاستطاع خالد وغيره من الباحثين التوجه إليها مباشرة للحصول على كافة المعلومات، التي ستتوفر لديها سواء من بلاغات المواطنين المباشرة أو من الجهات الحكومية، ولوفرت عليه الكثير من الوقت والبيروقراطية والإحباطات، بل ربما عرضت عليه بأن تكون شريكة معه في بحثه العلمي. المنظمة البيئية المستقلة عن مؤسسات الحكومة ستقوم بدور المراقب المحايد، صوت المواطن ضد أي تلاعب بيئي من أية جهة خاصة كانت أم حكومية كالأمانة ــ مثلا ــ أو غيرها، هذا عدا حملات التوعية البيئية التي ستقوم بها على مدار السنة لكافة شرائح المجتمع.
قصة خالد هي واحدة من آلاف القصص لمواطنات ومواطنين أرادوا خدمة وطنهم سواء بالبحث العلمي، بالتطوع، بمنظمات الخدمة الاجتماعية للعجزة والمعوقين، بالتوعية البيئية، بمراكز أبحاث مستقلة، بالمنظمات القانونية التي توفر خدمات لمن لا يقدرون على نفقات المحامين، بالمنظمات الشبابية وتلك النسائية لتوعية المرأة بحقوقها التي تكفلها أنظمة البلد وغيرها الكثير من مؤسسات المجتمع المدني التي يقع على عاتقها تطور أي مجتمع والإسهام بشكل مباشر في الحراك الاجتماعي وتنمية حس المواطنة لدى المواطنات والمواطنين، عدا عن كونها شبكة حماية وطنية تساهم في سد الفراغات التي لا تقدر أن تسدها المؤسسات الحكومية لوحدها.
والأهم أننا ما زلنا ننتظر تفعيل نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية، الذي أقره مجلس الشورى في ديسمبر العام الماضي وذهب إلى هيئة الخبراء في مجلس الوزراء للتعديل والتنقيح، فهي الجهة المعنية بمراجعة جميع الأنظمة قبل إقراراها نهائيا بمرسوم ملكي. وعلى الرغم من أن النظام تشوبه بعض النواقص منها إنشاء جهة حكومية تدعى «الهيئة الوطنية للجمعيات والمؤسسات الأهلية» مهمتها مراقبة وتنظيم عمل الجمعيات والمؤسسات، رغم أن شرط الاستقلالية هو أهم ما يميز هذه الجمعيات، إلا أن الحاجة ملحة جدا الآن أكثر من أي وقت مضى إلى تفعيله وربما لاحقا تعديله بناء على ما تقتضيه التجربة العملية والمصلحة العامة.
حان الوقت لتسخير طاقات الشابات والشبان الخاملة لميادين العمل والحراك الاجتماعي، الثقافي، البيئي، العلمي، وحتى القانوني. هم يريدون فرصة حقيقية لتفريغ طاقاتهم والمشاركة فيما بينهم ومع الأكثر علما منهم لتبادل الخبرات في جو يشجع على إبداء الرأى والإتيان بأفكار خلاقة بعيدا عن رتابة الحياة اليومية. ولنا فيما حدث في جدة بعد كارثة السيول أفضل مثال، حينما ضرب الشابات والشبان أروع مثال على قدرات الجيل الشاب في التطوع والتنظيم وكانوا أول من ساعد الأهالي في محنتهم وما زالوا، آن لك يا وطني أن تثق بهم. أجمل ما سنقدمه لوطننا هذا العام الجديد هو سواعد فتية وعقول مبدعة ستدهشنا أعمالهم فور إقرار نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية الذي طال انتظاره، وكل عام ونحن والوطن بألف خير.
ebtihalus@gmail.com
للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 249 مسافة ثم الرسالة
أراد خالد خلال دراسة الماجستير أن يقوم بدراسة معالجة مياه الصرف في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة كخيار أول ثم كخيار ثانِ في دراسة بحيرة المسك كخيار للبحث عن طرق معالجتها أو التخفيف من آثارها المدمرة. كلا الخيارين لم يتحقق، لماذا ؟ لأنه ــ كما كتب لي ــ «قوبل بتجاهل وبيروقراطية فوق الوصف» ومنع من تلقي أي بيانات ومعلومات، فهي «أسرار» ــ على حد وصف المسؤولين. قابل خالد خمسة أكاديميين من جامعة أم القرى وجامعة الملك عبدالعزيز بالإضافة إلى زيارات وصفها بـ«مضيعة للوقت» لمصلحة المياه والصرف والأمانات. آخر نصيحة تلقاها من من أحد الأكاديميين الذي أوضح له أنها «نصيحة أب وأخ كبير» ــ على حد قوله ــ هي الآتي: «يا ولدي ما لك وما للكلام هذا .. خليك في دراستك واترك الأبحاث اللي تتعلق بـ (فضائحنا) ولا تنشرها بره». فالأبحاث العلمية ــ على حد وصف الأكاديمي الفذ ــ «تفتح عيون الأجانب عن الكوارث اللي عندنا». داهم الوقت خالد ولم يتوصل لأية معلومات أو أي خيط يفيده في بحثه الذي يتطلب خلفية جيدة وتعاونا من الجهات المختصة في بلده الأم؛ لذلك قرر أن يختار بحثا يفيد بريطانيا وأن «لك الله ياوطني"، تذكر خالد متحسرا بعد كارثة جدة الأخيرة.
نجح خالد في دراسة الماجستير، وبدأ أخيرا في رسالة الدكتوراه إلى لآن لم يحدد موضوع دراسته بشكل قاطع، فهو ما زال في أولى المراحل، ورغم العوائق ما زال شديد الحرص على ربطها بالوضع البيئي الحالي في السعودية. هل ينجح خالد في سعيه؟ أتمنى ذلك رغم أن الواقع ينفيه.
القصة أعلاه قد ينظر إليها كمثال على مكانة البحث العلمي لدينا، فإذا كانت عقليات بعض الأكاديميين الجهابذة تصنف الدراسة العلمية الموثقة بـ«فضائح» ما بالك، إذا، بموظفي المياه والصرف الصحي وغيرها من الجهات الحكومية. ولكن بالنظر للصورة الأكبر، أعتقد أن المغزى الرئيسي لهذه القصة له تأويل آخر أراه أشد إلحاحا وأهمية من الأول. لو كان لدينا منظمة مدنية بيئية فاعلة لاستطاع خالد وغيره من الباحثين التوجه إليها مباشرة للحصول على كافة المعلومات، التي ستتوفر لديها سواء من بلاغات المواطنين المباشرة أو من الجهات الحكومية، ولوفرت عليه الكثير من الوقت والبيروقراطية والإحباطات، بل ربما عرضت عليه بأن تكون شريكة معه في بحثه العلمي. المنظمة البيئية المستقلة عن مؤسسات الحكومة ستقوم بدور المراقب المحايد، صوت المواطن ضد أي تلاعب بيئي من أية جهة خاصة كانت أم حكومية كالأمانة ــ مثلا ــ أو غيرها، هذا عدا حملات التوعية البيئية التي ستقوم بها على مدار السنة لكافة شرائح المجتمع.
قصة خالد هي واحدة من آلاف القصص لمواطنات ومواطنين أرادوا خدمة وطنهم سواء بالبحث العلمي، بالتطوع، بمنظمات الخدمة الاجتماعية للعجزة والمعوقين، بالتوعية البيئية، بمراكز أبحاث مستقلة، بالمنظمات القانونية التي توفر خدمات لمن لا يقدرون على نفقات المحامين، بالمنظمات الشبابية وتلك النسائية لتوعية المرأة بحقوقها التي تكفلها أنظمة البلد وغيرها الكثير من مؤسسات المجتمع المدني التي يقع على عاتقها تطور أي مجتمع والإسهام بشكل مباشر في الحراك الاجتماعي وتنمية حس المواطنة لدى المواطنات والمواطنين، عدا عن كونها شبكة حماية وطنية تساهم في سد الفراغات التي لا تقدر أن تسدها المؤسسات الحكومية لوحدها.
والأهم أننا ما زلنا ننتظر تفعيل نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية، الذي أقره مجلس الشورى في ديسمبر العام الماضي وذهب إلى هيئة الخبراء في مجلس الوزراء للتعديل والتنقيح، فهي الجهة المعنية بمراجعة جميع الأنظمة قبل إقراراها نهائيا بمرسوم ملكي. وعلى الرغم من أن النظام تشوبه بعض النواقص منها إنشاء جهة حكومية تدعى «الهيئة الوطنية للجمعيات والمؤسسات الأهلية» مهمتها مراقبة وتنظيم عمل الجمعيات والمؤسسات، رغم أن شرط الاستقلالية هو أهم ما يميز هذه الجمعيات، إلا أن الحاجة ملحة جدا الآن أكثر من أي وقت مضى إلى تفعيله وربما لاحقا تعديله بناء على ما تقتضيه التجربة العملية والمصلحة العامة.
حان الوقت لتسخير طاقات الشابات والشبان الخاملة لميادين العمل والحراك الاجتماعي، الثقافي، البيئي، العلمي، وحتى القانوني. هم يريدون فرصة حقيقية لتفريغ طاقاتهم والمشاركة فيما بينهم ومع الأكثر علما منهم لتبادل الخبرات في جو يشجع على إبداء الرأى والإتيان بأفكار خلاقة بعيدا عن رتابة الحياة اليومية. ولنا فيما حدث في جدة بعد كارثة السيول أفضل مثال، حينما ضرب الشابات والشبان أروع مثال على قدرات الجيل الشاب في التطوع والتنظيم وكانوا أول من ساعد الأهالي في محنتهم وما زالوا، آن لك يا وطني أن تثق بهم. أجمل ما سنقدمه لوطننا هذا العام الجديد هو سواعد فتية وعقول مبدعة ستدهشنا أعمالهم فور إقرار نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية الذي طال انتظاره، وكل عام ونحن والوطن بألف خير.
ebtihalus@gmail.com
للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 249 مسافة ثم الرسالة