يعد الموسيقار محمد شفيق محل اهتمام المستمع والمتابع لضجيج الحياة الفنية على المدى البعيد، كذلك زملائه الفنانين. ذاك لكونه واحدا من دارسين قلائل للموسيقى أكاديميا في الخارج قد لا يبلغون عدد أصابع اليدين مثل العميد طارق عبد الحكيم، غازي علي، عبده مزيد، أحمد عنبر، عدنان خوج، عبد الله ماجد، محمد شاكر، وحامد عمر. وتجدد اهتمام العامة بالموسيقار قبل توجهه للعلاج في الخارج، بعد أن تبنى الأمير متعب بن عبد الله علاجه في أي مكان تحدده الفحوصات. ارتبط محمد شفيق بذاكرتنا الوطنية، فمعظم الوطنيات الناجحة (أوبريتات وأغنيات دوما) من ألحانه، وعلى وجه الخصوص أربعة من أوبريتات الجنادرية الافتتاحية التي جمعت عمالقة الغناء السعودي بقيادة طلال مداح ومحمد عبده كانت من ألحانه.
شفيق الفنان ليس ابنا وفيا للمملكة فحسب، بل هو ابن الوطن العربي موسيقيا من الأزرق إلى الأزرق، حيث إنه قدم ألحانا ممهورة بعبق العطر وسطوع الصحو. ورغم حضوره الفني إلا أنه لا يحب الأضواء الإعلامية، بل إنه يخجل من التعامل معها، أو إنه على وجه الدقة لا يعرف التعامل معها بسبب ذاك الخجل، (وأزعم أننا في «عكاظ» وطوال ثلاثين عاما مضت، استطعنا أن نفك شفرة شفيق المليئة في دواخلها بالبراءة الصادقة حد الابتعاد عن الأضواء، وكنا أكثر قربا من غيرنا في التعامل معه كفنان حساس مليء ومترع بالإبداع الموسيقي حتى الثمالة).
يقول الملحن محمد شفيق «رغم تواجدي في دنيا الإبداع لم أكسب ثروة ضخمة من الفن، لكني اكتسبت محبة الناس وهذه منحة عظيمة من الله جلت قدرته».
شفيق يعمل في صمت وصريح حتى الوجع، ويحاول بدبلوماسيته أن يرضي كل الأطراف، رغم صراحته المعهودة التي قد لا تسمح له بذلك.
أصوات عديدة
برزت عبر ألحان شفيق أصوات عديدة، منهم المطربة سارة قزاز، وهي من الأصوات السعودية التي تمازجت مع الوجدان رغم قصر عمرها في الحياة الفنية، حيث قدم لها الكثير مثل تحويله للموال الشهير «يا من هواه أعزه وأذلني» إلى أغنية أجادت أداءها، وقدم لها من أشعار بدر بن عبد المحسن «من جرحك بالله ياقلبي خبرني»، ومن كلمات محمد العبد الله الفيصل «يسألوني عليه عيوني، حبيبي الغالي، تلقاني هناك»، وأغنية من أشعار الخفاجي «يسألوني عليه عيوني»، والراحل محمد السراج رحمه الله الذي قدم له الكثير من الأعمال في الفترة التأسيسية لحياته الفنية، وكان أشهرها «هذا جزاي» لمحمد العبد الله، و«أي الطريق أقرب»، و«ترى على بالي» كلمات مصطفى زقزوق.أما مع طلال سلامة فأدى محمد شفيق دور المكتشف والمقدم لصوته لجمهور الأغنية، بالاشتراك مع زميله الراحل محمد صالح نوار، وذلك في «الله الله يا منتخبنا» و«جيل ورا جيل» وغيرهما، كما ساهم في تقديم علي عبد الكريم، محمد عمر، عبد المجيد عبد الله، والفنان عبد الله رشاد.
كفاح أجيال
تعاون شفيق مع خالد عبد الرحمن، وإبراهيم حبيب، والنجم عبادي الجوهر في أوبريت افتتاح مهرجان الجنادرية «كفاح أجيال» للشاعر صالح الشادي، وأوبريت «ما ننساك» للشاعر نواف بن فيصل بن فهد (أسير الشوق). وبعض العاطفيات منها «نصيتك من سموم غدري، قضى ربيع العمر، موجة ألم» للشاعرة غدير، و«الله على شوف المها» للشاعر صالح الشادي، و«الحل.. حبك لا يضيع» للشاعر إبراهيم خفاجي، و«يا ملاك» من كلمات السامر، وأوبريت «إلا القدس» عن جدة، إلى جانب محمد عبده، عبد الرب إدريس، عبد الله رشاد، علي عبد الكريم، محمد عمر، رابح صقر، راشد الفارس، ومحمد إحسان، و«ناسيني» و«سيب لي الليالي» كلمات الأمير بدر.
توج شفيق مع الراحل طلال مداح الكثير من الأعمال، وفي هذا يقول: «عندما كنت في أمس الحاجة لدعم من كبيري الساحة الفنية عندما دلفت إليها موسيقيا وملحنا، أستطيع القول أيضا «موهوبا»، كان مداح أول من أخذ بيدي وشدا بلحن لي أدخلني في دائرة الكبار، هو لحن نص «يا شوق طير بي وروح» من كلمات ثريا قابل».
ومن المصادفات أن آخر ألبوم قدمه الراحل مداح جاءت جميع أغنياته من ألحان شفيق، ومنها: «أسبوع» لأسير الشوق، «لا جديد» للراحل محمد الغامدي (ساري)، «يسعدك» لعبد الله الجودي، «بكيفك» لسعد الخريجي، و«نشوفك» لحيدر الجنيد.
وبين بداية تعامل شفيق وطلال، وختامه هناك الكثير من الأعمال الكبيرة منها أوبريتات الجنادرية، ونشيد «الله البادي» من كلمات البدر ومشاركة محمد عبده، وأغنيات عديدة أبرزها «فاتر اللحظ، عشب الفخر، أحبابك سروا» لبدر بن عبد المحسن، و«شبل الأسود» لسعود سالم، و«يا سعودي يا سعودي» لإبراهيم غازي.
وآلة الكمان التي احتضنها محمد شفيق أثيرة بالنسبة له، وهو بلا شك يعد أحد رموز العازفين على هذه الآلة في فرقة الإذاعة والتلفزيون، حيث كان طوال حياته العملية، وقبل تقاعده، عنصرا مهما في فرقة الإذاعة والتلفزيون الموسيقية في إذاعة وتلفزيون جدة، التي سبق له قيادتها كثيرا كما أنه قاد الفرقة الموسيقية في إذاعة وتلفزيون الرياض لعدة سنوات، إلا أنه عاد إلى العمل في جدة.
لم يقدم الموسيقار محمد شفيق الأغنية العاطفية فقط، بل قدم مختلف ألوان وأشكال الغناء مثل الأغنية الرياضية، الوصفية، الوطنية، الدينية لعل من أبرزها 30 أغنية بصوت الفنان البحريني إبراهيم حبيب لصالح إذاعة أبو ظبي، والكثير من أغنيات الأفراح العامة والخاصة، وعلى وجه الخصوص مع محمد عبده، ومن أشهر هذه الأعمال ما طرحه في ألبوم (شرعة ونصة.. زفة وصبحة)، وألبوم (أحلى الليالي) لزفاف ابنته الأولى أنغام.
وقدم المونولوجات، وكان أول عمل ظهر به مونولوج «أنا منحوس» من كلمات محمد رجب وأداء الفنان الراحل عبد الإله نوار. كما قدم مجموعة من الأوبريتات منها أوبريت «العيد والزواج ورمضان» التي أداها عبد الإله نوار ومحمد صالح نوار. وقدم شفيق بعض هذه الأعمال بصوته في تلك الفترة، وشارك في تمثيل بعضها كلوحات مسرحية ومنولوجات. ولحن العديد من المقدمات الموسيقية، وأعد الموسيقى التصويرية لكثير من الأعمال التلفزيونية، ومقدمات ومؤثرات للأعمال الإذاعية، ومن أشهر هذه الأعمال، مقدمة وموسيقى مسلسلي «أصابع الزمن»، و«دموع الرجال» للفنان محمد حمزة، وموسيقى لبعض المسرحيات المحلية. وسبق له المشاركة في تقديم موسيقى وألحان فوازير الأطفال في الإذاعة بصوته من كلمات الراحل هاني فيروزي، وفوازير الأطفال في التلفزيون بصوته وكورال من كلمات خالد زارع، كما لحن للأطفال العديد من الأعمال التي بقيت طويلا في ذاكرتهم.
الملحن شفيق يحرص على التراث، فهو يستلهم من هذا المخزون إيقاعاته، ولأنه فنان طموح سعى لتأسيس ستوديو خاص به، وذلك لخدمة الحركة الفنية في جدة (ستوديو المنصور).
من الأغنيات الوطنية التي لحنها محمد شفيق وكانت ضمن عقد كبير من الوطنيات جمعته مع صديقه وزميل مشواره محمد عبده، «توأم الجود، عهد الفهد، هبت هبوب الجنة، مدها يمناك، حبيبتي» لمحمد العبد الله الفيصل، رواية «حنا للخليج رجال» لسعود سالم، وأوبريت «عقد الخليج» لوليد العميران، و«حنا جنود الله» لسعود بن عبد الله، «سور البلد عالي» لناصر بن جريد، و«الله أكبر ياوطن، ما علينا» لبندر بن فهد بن سعد. و«نحمد الله سلم الفهد» لعبد الرحمن بن مساعد، وكثيرة هي العاطفيات التي جمعت المحمدين عبده وشفيق كان منها «آه وآهين، الله يمسيك بالخير» من أشعار إبراهيم الخفاجي، و«الساعات الحلوة» من أشعار الراحل محمد طلعت عام 1969 لمسلسل أغاني في بحر الأماني، و«أهل المرابع والديار» لفهد بن محمد، و«هلا بالطيب الغالي» لعبد اللطيف البناي، و«ليالي نجد» لخالد الفيصل، و«لا تسرق الوقت» لبدر بن عبد المحسن، و«سلم عليا بعينك» لسعود سالم، إضافة إلى عدة أوبريتات في مهرجان الجنادرية، وكانت معظم هذه الألحان من نصيب الفنان محمد عبده.
وعلى الرغم من أن محمد شفيق يعد من الجيل الكلاسيكي إلا أنه من أنصار الأغنية الخفيفة. وهو يرى أن هذا العصر هو زمان الأغنية المعبرة بسرعة عن المطلوب، حيث أصبحت الأغنية الشبابية سيدة الموقف.
تغنت أصوات عربية كثيرة بألحان شفيق، منها؛ الكويتي عبد الكريم عبد القادر، سميرة سعيد، شريفة فاضل، محمد المحرقي، زهيرة سالم، سميرة توفيق، نادية مصطفى، سوزان عطية، وعماد عبد الحليم، ومما يذكر أنه لحن أيضا أغنيات سينمائية؛ واحدة للنجمة يسرا في أغنية لأحد أفلامها السينمائية من كلمات محمد العبد الله الفيصل، وأخرى لنيللي من أشعار عبد الوهاب محمد.
وعن الأغنية الرياضية، يقول محمد شفيق: «البداية مع هذا النوع من الغناء، كانت مع طلال سلامة التي كانت ولادته كمطرب وصنعت نجوميته وجماهيريته عند تحقيق المنتخب كأس آسيا للمرة الأولى عام 1984م».
ولا يزال محمد شفيق يركض في فضاء الفن، ويقدم الألحان التي تنبثق منها نفحات الإبداع والمصداقية.
أعمال جديدة
يفكر محمد شفيق هذه الأيام في الإقامة الدائمة مجاورا في المدينة المنورة، والاكتفاء بتلحين أغنيات دينية وابتهالات وأناشيد وأوبريتات وطنية، وأغنيات المناسبات والأفراح التي يشارك فيها المجتمع مناسباته السعيدة، ومن أحدث أعماله أناشيد بصوته وصوت الفنان محمد ثروت منها «أتيتك ربي» من أشعار وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبد العزيز خوجة.
الزواج والبنات
محمد شفيق محمد رفيق جهتاي من مواليد جدة في 2/2/1948م، تزوج مرتين، له من الزواج الأول ابنة واحدة (أنغام)، ومن الزواج الحالي ابن واحد (عبد الله)، وأربع بنات (ألحان، أسرار، أزهار، وأشعار)، وهذه الأخيرة اسمها الأصلي في الوثائق «سعادة» على اسم والدته، إلا أن إصرار شقيقاتها استوجب تغيير الاسم ليتوافق وأسماءهن موسيقيا.
شفيق واحد من أنجح الفنانين الذين تعاملوا مع الموسيقى أكاديميا فهو خريج المعهد العالي للموسيقى العربية في القاهرة، وهو من الأسماء التي مثلت المملكة رسميا في العديد من المؤتمرات والمهرجانات الموسيقية، ولعل أهم هذه المناسبات؛ تمثيل المملكة في المجمع الموسيقي العربي في اجتماعات بغداد 1983 ـــ 1984م (1403 ـــ 1404هـ)، وهو العام نفسه الذي اختير فيه العميد طارق عبد الحكيم رئيسا للمجمع، كما حصل في عام 1999، إلى جانب عدد من زملائه الموسيقيين السعوديين والعرب، على درع الرواد العرب التقديري من مهرجان الرواد الذي نظمته الجامعة العربية في القاهرة، وشارك في مؤتمر الموسيقى التقليدية في دول مجلس التعاون الذي أقيم في دولة قطر 1996م.
قصة طريفة
شفيق الذي عرف برعايته وتقديمه للمواهب في مجال الموسيقى والغناء، له قصة طريفة أحب أن أروجها في هذا السجل المتواضع لشخصيته.. والقصة بإيجاز هي:
«شهدت السنوات الثلاث الأخيرة من حياة العندليب الراحل عبد الحليم حافظ (1975 ـــ 1977م)، علاقة وثيقة مع محمد شفيق، وصلة دائمة ووثيقة وطدها صديق الطرفين صاحب السمو الملكي الأمير طلال بن منصور بن عبد العزيز الذي عرف شفيق أثناء دراسته للموسيقى آنذاك في القاهرة على صديقه حافظ. في تلك الفترة انشغل شفيق بتقديم صوت سعودي شاب إلى المستمع العربي في هوليوود العرب القاهرة (محمد السراج)، وهو المطرب الذي احتجب طويلا قبل وفاته العام قبل الماضي.
رأى شفيق أن يستثمر هذه العلاقة التي بلغت مبلغ الصداقة مع عبد الحليم لصالح خدمة هذا الصوت، وكان عبد الحليم وقتذاك يستعد لحفل كبير يحييه في الإسكندرية مع المتعهد حسن أبو داوود، فطلب شفيق من الأمير طلال بن منصور أن يطلب بدوره من عبد الحليم تقديم محمد السراج في فقرة ما بين الفترتين التي يغني فيها، فما كان من عبد الحليم إلا أن رحب بالفكرة رغم أنه لم يتبق إلا عدة أيام على الحفل، وأعطى لشفيق خطابين؛ الأول للمتعهد الذي وافق بدوره على مشاركة السراج، وألغى الفقرة التي كانت تعتبر استراحة لعبد الحليم بين الفترتين الرئيستين، التي كان من المقرر أن تكون لأحد المطربين المصريين كما هي العادة، على أن يكون السراج هو مطرب تلك الفترة من الحفل، وكان الخطاب الثاني للموسيقار الراحل أحمد فؤاد حسن لإنجاز البروفات الخاصة بأغنيات محمد السراج على ميزانية الحفل، إلا أن السراج رفض، وقال إنه يحب العمل مع الفرقة التي يعمل معها دوما، وهي فرقة الراحل حمادة النادي، فلم يعترض عبد الحليم، ولم يعترض أحمد فؤاد حسن، ولا المتعهد، طالما أن الفرقة ستأتي على حساب المطرب، بينما كان السراج غير معني بدفع أي مبلغ مع فرقة حسن (الماسية).
ولأن الوقت لم يسعف المتعهد جيدا لتقديم السراج إعلانيا بما يتناسب معه كصوت جديد وضيف، ولأن الإعلانات بدأت منذ فترة، ألحق المتعهد اسم السراج ببنط أصغر تحت عبد الحليم حافظ، وكان هذا كافيا لغضبة عاشها السراج فورا، واعتذر عن المشاركة، وفي صباح يوم الحفل اعتذر السراج عن الحفل الأمر الذي أحرج الأمير طلال مع صديقه حافظ الذي وافق من أجله، كما أحرج شفيق الذي لم يذهب إلى الإسكندرية لحضور حفل صديقه حافظ».
فترة السنوات الثلاث الأخيرة من حياة عبد الحليم حافظ، مليئة بصداقة كبيرة كانت الموسيقى فيها عنصرا مهما، وحضر شفيق إلى جانب الأمير طلال الكثير من تلك الحفلات والبروفات والأمسيات واللقاءات.
ومن أبرز هذه اللقاءات، يقول شفيق: «كان الأهم حضوري البروفات العديدة للكثير من أعماله، وأهمها بروفات أغنية (قارئة الفنجان) مع ملحنها الراحل محمد الموجي، وأذكر أنه حتى يوم التسجيل كنت والأمير طلال بن منصور إلى جانبه في الاستوديو، حيث سجلت بحضورنا في ستوديو 46 في ماسبيرو مع مهندس الصوت الشهير زكريا عامر. وهنا أحب أن الفت إلى مثابرة الراحل عبد الحليم حافظ، حيث بقي طوال 13 ساعة متواصلة من السادسة مساء وحتى السابعة من صباح اليوم التالي يعيد ويسجل حتى وصل إلى النتيجة الأجود».
يشار إلى أن محمد شفيق أطلق اسم (المنصور) على الاستوديو الذي يمتلكه في جدة، تقديرا وعرفانا لصداقة أخوية وحميمة جمعته مع الأمير طلال بن منصور.