-A +A
عبدالله بن بجاد العتيبي
كان لاكتشاف البترول في الخليج نعم لا تحصى، ومنافع لا تقدر بثمنٍ، وكان له الفضل في قدرة دول الخليج على بناء اقتصادات قوية مكنتها من السعي لخطط تنموية فاعلة، ومنحتها القدرة على انتشال شعوبها ودولها من وحل التخلف والضعف إلى رحاب التطور والقوة.
لقد كانت للبترول آثار إيجابية لا يمكن أن تنمحي بسهولة من ذاكرة أجيال الخليج، ولا يستطيع كاشح مهما كان شعاره وأيا كان دثاره من إلغاء هذه المنحة العظيمة أو التقليل من شأنها ودورها، فهي نعمة منحت المنطقة قنطرة العبور إلى مستقبلٍ أزهى وغد أجمل.

غير أن هذا النفط وهذا البترول وهذه النعمة لم تخل من شوائب، ولم تعدم آثارا مؤذية وردود فعل مؤلمة على كافة الصعد داخليا وخارجيا، سياسيا واجتماعيا، تنمويا وثقافيا، وغيرها من المناحي والتأثيرات.
لقد كان البترول وقيمته حجرا ضخما ألقي في المنطقة على حين غفلة وتأخر وقلة خبرة من أهل المنطقة أنفسهم، وذلك أمر طبيعي لمن يحسن التقاط مسار التاريخ وطبيعة التطور وقدرات البشر ضمن ظروفهم الموضوعية وعلمهم المتوارث.
غير أن قادة المنطقة كانوا بحجم الحدث، وكان لهم من الوعي الفطري والعقل الراجح والقدرة على استقراء المستقبل ما مكنهم من استيعاب تلك الصدمة وذلك الحجر والتعامل معه بما يستحق، وإن اختلفت طرقهم فلم تتغاير نتائجهم وغاياتهم، فقد منحوا الحدث ما يستحق من الاهتمام ورعوه حق رعايته وكان لاتزانهم الكبير بين أطماع العارفين من الغرب والشرق وطبيعة الشعوب التي يحكمون بما تعاني من تخلف وفقر دورا مهما في رعاية كل متناقضات تلك المرحلة وتحدياتها.
غير أن للنفط والبترول سلبيات أخرى، سلبيات في الداخل والخارج، نظرا لطبيعة الحراك التاريخي، والثقافة المسيطرة حينذاك، في الخارج كثر الحساد لما ينعم به الخليج من رفاه مادي وقدرة في التأثير السياسي وسرعة في النمو والترقي تثير الحسد أكثر مما تشعل الغبطة، وبخاصة حين نعلم أن عرب الماء كانوا ولقرونٍ هم المسيطرين على المشهد العربي وصناع الحراك فيه، وقد وجدوا أنفسهم في لحظة تاريخية مفاجئة يعيشون على شيء من نجاحات الخليج الاقتصادية والتنموية، وطرحت في تلك الفترة مقولات مشهورة من مثل «نفط العرب لكل العرب» ونحوها، وتبنى هذا الطرح كتاب كبار من عرب الماء منهم على سبيل المثال لا الحصر محمد حسنين هيكل في عموده الشهير في الأهرام «بصراحة» وغيره من الكتاب والمثقفين.
رغم استقدام الخليج لكثير من الكفاءات العربية ومنحها الفرص الكبرى للاستفادة والتأثير فقد بقي شيء من الحسد يحوك في بعض النفوس النخبوية والشعبية تلك التي لم تستوعب قوة الفرق الذي أحدثته لحظة اكتشاف النفط والبترول، فثار كثير منها حسدا ومات بعضها كمدا، ولم يزل لهؤلاء وأولئك بواقٍ تتحرك في إطار الثقافة والإعلام لتنال من الخليج ومن طفراته التنموية ومساحات النجاح التي حظي بها.
غير أن من السلبيات التي حدثت داخليا هو منح النفط والبترول والثروة بعض المجتمعات المحافظة القدرة على الحفاظ على ما كانت عليه، ليس هذا فحسب بل القدرة على التراجع للخلف وفرض كثير من العادات الاجتماعية التي لم تكن ممكنة قبل اكتشاف النفط وتدفق الثروة، والأمثلة الاجتماعية والسياسية على هذا أكثر من أن تحصر.
على سبيل المثال، فإن الطبيعة الإنسانية والمناخية والتنموية، أي الفقر والعوز وقلة الحيلة كانت تجعل المجتمعات الخليجية تعيش حالا من الاختلاط الطبيعي بين الأسر والتجمعات في القرى والمدن كما في البوادي والقفار، وهو ما كان للنفط واكتشافه تأثير سلبي عليه، مكن بعض المحافظين من وضع الكثير من الحواجز والموانع تحت ذرائع شتى لم يكن لها أن تنجح في إقناع أحد لو لم يكن النفط وثروته موجودين يسهلان المهمة ويزيحان العوائق.
هذه النعمة النفطية التي حلت على منطقة الخليج والتي أصبحت بسببها واحدة من أكثر مناطق العالم حيوية وتأثيرا نظرا لاحتفاظها بأكثر منابع الطاقة في العالم وحفاظها عبر سنوات طويلة على تدفقٍ مستمر وسلس لهذه الطاقة منح دول الخليج قوة ومصداقية لدى أكثر دول العالم، وإذا كانت المصلحة هي التي تقود سياسات العالم فإن دول الخليج قد برهنت بما لا يدع مجالا للشك بأنها تحافظ على مصالح العالم التي تمثل في الوقت ذاته مصالح دول الخليج وشعوبها.
اليوم، وحين تسعى بعض الدول الإقليمية بمنطقها العنصري للتهديد بإغلاق مصدر هذه الطاقة ضمن سياسات عامة لم تزل تنتهجها منذ سنوات لإخضاع العالم ودول المنطقة لمنطقها الثوري الخرافي وتنسى أو تتناسى موازنات القوة في المنطقة وحاجات العالم بأسره لموارد الطاقة الخليجية، حين تسعى لذلك فإن عليها أن تحسب لمثل هذا التصرف ألف حسابٍ، فإغلاق مضيق هرمز على سبيل المثال سيجعل كل دول العالم عدوا مباشرا لها، لأنها تقطع بذلك عن العالم مشاريعه التنموية ومصالحه الاستراتيجية، والعالم لن يقف مكتوف الأيدي أمام مثل هذه التصرفات الرعناء، بل إنه سيرد وسيكون رده قويا ومجلجلا.
مخطئ في تلك الدول الإقليمية من يحسب أن العالم ضعيف أمام طموحاته التي تدعمها الخرافة أكثر مما تؤكدها الحقائق على الأرض، ومخطئ أكثر من يحسب أن التعلق بخرافات ستحميه من مواجهة موازين القوة ومصالح الأمم، على صانع القرار في هذا الإقليم أن يعلم أن السيل قد بلغ الزبى وأن الشعارات الرنانة وإن كان لها دور في الماضي فإنها لا تغني فتيلا في الحاضر، وأن الآيديولوجيا لا يمكن أن تواجه التكنولوجيا، وأن قوة الاعتقاد لا تجدي شيئا أمام قوة السلاح.
على بعض الدول الإقليمية ــ أيضا ــ أن تعلم أنها حين تناور اليوم دوليا وإقليميا فإنها تناور في مساحة شديدة الضيق والحرج، فالعالم لن يصمت أمام عنادها الأيديولوجي المتصلب وغير العقلاني، ولن يقف مكتوف الأيدي أمام مناورتها غير محسوبة العواقب في طول المنطقة وعرضها، وسيكون على صانع القرار فيها أن يعرف موضع أقدامه قبل الإقدام على أي عمل متهور سيجني نتائجه حنضلا صافيا.
ثمة قلق خليجي مبرر تجاه بعض الأطماع التي يطالهم شررها من بعض الدول الإقليمية، وثمة صفقات ضخمة للتسلح تم عقدها مع كثير من دول العالم، وثمة اتفاقيات للدفاع المشترك مع العديد من قوى العالم المتحضر في الغرب والشرق، وثمة دعوات متكررة من هذه الدول لتحكيم العقل وتقديم الحكمة في التعامل مع مشكلات المنطقة، لم تزل هذه الدعوات تصدر فلا يجيبها إلا الصدى فالبعض قد اختار أن يضع أذنا من طينٍ وأذنا من عجينٍ، وهو في غواية الأيديولوجيا سادر وخلف أوهام القوة سائر.
أخيرا فإن من نعم البترول الكبرى على المنطقة وأهلها أن العالم كله مربوط بهذه الطاقة المخزونة تحت أقدامنا، والتي ستتوقف كل نهضته إن تعثر تصديرها أو تاخرت عنه بأي شكل من الأشكال، ولهذا فإنه حين يتساعد مع دولها فإنه يحمي نفسه، ولن يخذل العالم نفسه.
Bjad33@gmail.com
للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 250 مسافة ثم الرسالة