مع بداية الإسلام كان الرسول الكريم حريصا على جمع القلوب على الدين الجديد، وإزاحة كل العوائق التي قد تمنع الناس من اتباعه، سواء كانت تلك العوائق عوائق تمنع الجماعات أم عوائق تمنع الأفراد، ومن ذلك مبدأ أن «الإسلام يجب ما قبله» ونصيب «المؤلفة قلوبهم» ونحو ذلك.
أدى ذلك الحرص إلى أن الناس بدأوا «يدخلون في دين الله أفواجا»، ولم يمت الرسول الكريم إلا والإسلام في انتشار والمسلمون في ازدياد، وبقي الناس على هذه السبيل سنين عددا حتى أصبح الإسلام من أكثر الأديان انتشارا في الأرض، وقد وضع الشارع أحكاما قاسية تحذر من تكفير المسلمين أو تزهيدهم في دينهم عبر التشدد والتنطع في نصوص لا تحصى، وأحكام معروفة مثل تحريم إقامة الحد في الثغور ونحوها كثير.
ولكن بعد هذا كله فقد ابتدأ المشروع الجديد، «مشروع تقليل المسلمين»، فما هو هذا المشروع؟ هذا المشروع هو مشروع بدأ مع بعض الغلاة في وقت الرسول كما في حديث ذي الخويصرة التميمي الذي قال: «اعدل يا محمد»، وقال الرسول: «سيخرج من ضئضئ هذا أقوام..»، وتم تدشينه لاحقا مع فرقة الخوارج التي كانت تكفر صحابة الرسول وخيار الناس بعده، ثم ارتقى بها الحال إلى أن أصبحت تكفر بعضها بعضا لأدنى الأسباب وأقل الأخطاء، وتاريخ الخوارج معروف.
ومنذ ذلك الحين تطور هذا المشروع لدى الكثير من الفرق الإسلامية، وكل واحدة منها تصل إلى نفس النتيجة «تقليل المسلمين»، وذلك بالحكم على أكبر قدر منهم بالخروج من الدين.
تم طرح هذا المشروع بطرق مختلفة لدى كل فرقة، فالمعتزلة ــ مثلا ــ لهم طرائق في التكفير وتقليل المسلمين، وغيرهم من الفرق كذلك، ويكفي لمن أراد الاستزادة أن يراجع كتب العقائد وكيف تكفر الناس بالجملة وتخرجهم من الدين زرافات ووحدانا، أو يراجع كتب الفقه ليرى كيف أن المسلم قد يخرج من دينه ــ حتى دون أن يدري ــ لأسباب تافهة وعبارات تحتمل ألف تأويل وتأويل.
كانت الدوافع لهذا المشروع كثيرة، منها تضخم القطعيات على حساب الظنيات، وكانت القطعيات في بداية الإسلام قليلة جدا يأخذها الأعرابي في دقائق معدودة مع الرسول ولكنها لم تزل تتضخم عند جميع الفرق ــ كل بحسبه ــ حتى أصبحت هي الأصل والظنيات هي الفرع، وذلك خلاف ما جاء به الإسلام، والشواهد على هذا أكثر من أن تحصى.
ومن الدوافع لهذا المشروع «حب التميز» والرغبة لدى الأفراد والفرق والجماعات بالتميز عن غيرهم من المسلمين، ويتم هذا عبر ادعاء امتلاك المعرفة الحقيقية للدين معرفة يقينية في جميع المسائل، وبالتالي فليس للمخالف عذر أبدا ولا حل له إلا أن يلحق بمشروع تقليل المسلمين.
حتى لا نستغرق في أحاديث التراث ويأخذنا التيه في دهاليز التاريخ، فإن في الماضي القريب والواقع المعيش خير شاهد وأفضل مثال على ما نريد.
كل حركات العنف الديني والإرهاب المعاصرة والتي تدعي لنفسها الانطلاق من الإسلام واحتكار تمثيله، كانت تقوم على خطوتين أساسيتين هما عماد «مشروع تقليل المسلمين» ويمكن اختصارهما بـ «النظرية والتطبيق».
الخطوة الأولى: أي الخطوة النظرية في مشروع تقليل المسلمين يقوم عمادها على «التكفير» و«الإخراج من الملة» و«الحكم بالردة» كأصل تتفرع عنه فروع تدعمه وتغذيه، وهذه الخطوة يتم إصدارها عبر كتب مستقلة أو فتاوى مجنونة هنا أو هناك.
الخطوة الثانية: وهي الخطوة التطبيقية أو خطوة التنفيذ في مشروع تقليل المسلمين فعمادها «القتل» و«إقامة حد الردة» و«التصفية الجسدية»، عبر عمليات تفجيرية أو عمليات اغتيال أو نحو هذا.
كأمثلة على مشروع تقليل المسلمين بين النظرية والتطبيق في العصر الحديث، فلنأخذ النماذج التالية:
في النظرية: أصدر سيد قطب أحكاما عامة بتكفير المسلمين جميعا، حكاما (الحاكمية) ومحكومين (الجاهلية) واستثنى من أسماهم بـ«العصبة المؤمنة». وفي التطبيق: فقد جاءت بعده حركات تبنت تحويل هذه النظرية إلى تطبيق، وذلك عبر إنشاء جماعات عسكرية تقوم بتنفيذ الشق التنفيذي لهذه النظرية، فخرجت جماعات العنف الديني في مصر وفي غيرها.
في النظرية والتطبيق: محمد عبدالسلام فرج كان قائدا ميدانيا يريد أن يباشر تنفيذ مشاريع القتل والتفجير والاغتيال، وكانت تنقصه الخطوة الأولى أي النظرية، وهي خطوة «التكفير»، فبحث في التراث عن فتوى تمنحه ما يريد وانتزع فتوى لابن تيمية في أهل ماردين وأخرى في الطائفة الممتنعة وثالثة في التتار، فأخذها ووضعها في رسالته القصيرة جدا والمؤثرة في نفس الوقت لتمنحه النظرية لتطبيق ما أراد.
في النظرية: أصدر عبدالغفار عزيز «رئيس ندوة علماء الأزهر» فتوى بقتل فرج فودة فمنح الخطوة النظرية الأولى لمن يريد التنفيذ، وفي التطبيق: فقد جاء بالفعل بعض الشباب المتحمس فأخذ على عاتقه التنفيذ وقام بعملية الاغتيال.
في النظرية والتطبيق: أراد شكري مصطفى الجمع بين الأمرين، فأصدر فتواه بتكفير الشيخ الذهبي وأخذ على عاتقه إكمال المشوار وتنفيذ التطبيق فكلف بعض أتباعه باختطافه ثم تنفيذ القتل فيه لاحقا.
إن «مشروع تقليل المسلمين» بحر لا ساحل له، حين تخطو فيه خطوة فلا يمكنك التحكم بما يمكن أن تصل إليه، فلا حدود لهذا المجال ولا ضوابط لهذه المهلكة. والمصيبة اليوم لا تكمن في فتاوى فردية أو قتل فردي، فقد انتقلت النظرية في «مشروع تقليل المسلمين» من التجزئة إلى الجملة، ومن تكفير فرد ما إلى تكفير مجموعات شتى، وشرائح متنوعة، إذا كان تكفير مالك فضائية ما والحكم بقتله أمرا شنيعا فإن الأشنع منه هو الإفتاء بتكفير ملاك الفضائيات والحكم بتصفيتهم، وإذا كان تكفير أحد الكتاب والحكم بقتله جريمة بشعة، فإن الإفتاء بتكفير شرائح كبيرة من المجتمع تشمل فقهاء وعلماء شريعة ووزراء ومسؤولين وكثيرا من الشعب هو أمر لا يطاق وجريمة لا تغتفر.
الأكثر بشاعة هو أن المسائل الخلافية العادية والتي يرجحها غالب فقهاء المسلمين، ويعمل بها جميع المسلمين تقريبا تصبح مجالا لنظرية وتطبيق «مشروع تقليل المسلمين».
يعيش العالم اليوم معركة طويلة عريضة ضد الإرهاب والتطرف الذي يزعم أنه يمثل الإسلام، وأكثر الدول تضررا منه هي الدول الإسلامية، وأكثر ضحاياه وقتلاه هم من المسلمين في الرياض وإندونيسيا ومصر والمغرب وغيرها من بلدان المسلمين، وتسعى هذه الدول والمجتمعات للوقوف في وجهه بكل قوة ودرء شره وفتنته بأية طريقة ممكنة، وها نحن نرى أن البعض لا يطيق صبرا حتى ينفخ في جمره ليتقد.
بعد الحادي عشر من سبتمبر أنفقت كثير من الدول الإسلامية ميزانيات كبيرة جدا لتطويق الإرهاب وتجفيف منابعه، ولتحسين صورة المسلمين لدى العالم، وللأسف فإن كل هذه الجهود الجبارة سياسيا وإعلاميا وثقافيا تكاد تذهب سدى لمجرد فتوى عابثة خطرت في ذهن متطرف ما في مكان قصي عن العالم لا يدري ما يدور فيه ولا ما يجري من حوله.
إذا كان تعداد المسلمين اليوم يقارب المليار والثلاثمئة مليون مسلم، فإنهم لدى أرباب «مشروع تقليل المسلمين» لا يكادون يصلون لخمس هذا الرقم وأقل، كل بحسب جهده في المشروع!
Bjad33@gmail.com
للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 250 مسافة ثم الرسالة
أدى ذلك الحرص إلى أن الناس بدأوا «يدخلون في دين الله أفواجا»، ولم يمت الرسول الكريم إلا والإسلام في انتشار والمسلمون في ازدياد، وبقي الناس على هذه السبيل سنين عددا حتى أصبح الإسلام من أكثر الأديان انتشارا في الأرض، وقد وضع الشارع أحكاما قاسية تحذر من تكفير المسلمين أو تزهيدهم في دينهم عبر التشدد والتنطع في نصوص لا تحصى، وأحكام معروفة مثل تحريم إقامة الحد في الثغور ونحوها كثير.
ولكن بعد هذا كله فقد ابتدأ المشروع الجديد، «مشروع تقليل المسلمين»، فما هو هذا المشروع؟ هذا المشروع هو مشروع بدأ مع بعض الغلاة في وقت الرسول كما في حديث ذي الخويصرة التميمي الذي قال: «اعدل يا محمد»، وقال الرسول: «سيخرج من ضئضئ هذا أقوام..»، وتم تدشينه لاحقا مع فرقة الخوارج التي كانت تكفر صحابة الرسول وخيار الناس بعده، ثم ارتقى بها الحال إلى أن أصبحت تكفر بعضها بعضا لأدنى الأسباب وأقل الأخطاء، وتاريخ الخوارج معروف.
ومنذ ذلك الحين تطور هذا المشروع لدى الكثير من الفرق الإسلامية، وكل واحدة منها تصل إلى نفس النتيجة «تقليل المسلمين»، وذلك بالحكم على أكبر قدر منهم بالخروج من الدين.
تم طرح هذا المشروع بطرق مختلفة لدى كل فرقة، فالمعتزلة ــ مثلا ــ لهم طرائق في التكفير وتقليل المسلمين، وغيرهم من الفرق كذلك، ويكفي لمن أراد الاستزادة أن يراجع كتب العقائد وكيف تكفر الناس بالجملة وتخرجهم من الدين زرافات ووحدانا، أو يراجع كتب الفقه ليرى كيف أن المسلم قد يخرج من دينه ــ حتى دون أن يدري ــ لأسباب تافهة وعبارات تحتمل ألف تأويل وتأويل.
كانت الدوافع لهذا المشروع كثيرة، منها تضخم القطعيات على حساب الظنيات، وكانت القطعيات في بداية الإسلام قليلة جدا يأخذها الأعرابي في دقائق معدودة مع الرسول ولكنها لم تزل تتضخم عند جميع الفرق ــ كل بحسبه ــ حتى أصبحت هي الأصل والظنيات هي الفرع، وذلك خلاف ما جاء به الإسلام، والشواهد على هذا أكثر من أن تحصى.
ومن الدوافع لهذا المشروع «حب التميز» والرغبة لدى الأفراد والفرق والجماعات بالتميز عن غيرهم من المسلمين، ويتم هذا عبر ادعاء امتلاك المعرفة الحقيقية للدين معرفة يقينية في جميع المسائل، وبالتالي فليس للمخالف عذر أبدا ولا حل له إلا أن يلحق بمشروع تقليل المسلمين.
حتى لا نستغرق في أحاديث التراث ويأخذنا التيه في دهاليز التاريخ، فإن في الماضي القريب والواقع المعيش خير شاهد وأفضل مثال على ما نريد.
كل حركات العنف الديني والإرهاب المعاصرة والتي تدعي لنفسها الانطلاق من الإسلام واحتكار تمثيله، كانت تقوم على خطوتين أساسيتين هما عماد «مشروع تقليل المسلمين» ويمكن اختصارهما بـ «النظرية والتطبيق».
الخطوة الأولى: أي الخطوة النظرية في مشروع تقليل المسلمين يقوم عمادها على «التكفير» و«الإخراج من الملة» و«الحكم بالردة» كأصل تتفرع عنه فروع تدعمه وتغذيه، وهذه الخطوة يتم إصدارها عبر كتب مستقلة أو فتاوى مجنونة هنا أو هناك.
الخطوة الثانية: وهي الخطوة التطبيقية أو خطوة التنفيذ في مشروع تقليل المسلمين فعمادها «القتل» و«إقامة حد الردة» و«التصفية الجسدية»، عبر عمليات تفجيرية أو عمليات اغتيال أو نحو هذا.
كأمثلة على مشروع تقليل المسلمين بين النظرية والتطبيق في العصر الحديث، فلنأخذ النماذج التالية:
في النظرية: أصدر سيد قطب أحكاما عامة بتكفير المسلمين جميعا، حكاما (الحاكمية) ومحكومين (الجاهلية) واستثنى من أسماهم بـ«العصبة المؤمنة». وفي التطبيق: فقد جاءت بعده حركات تبنت تحويل هذه النظرية إلى تطبيق، وذلك عبر إنشاء جماعات عسكرية تقوم بتنفيذ الشق التنفيذي لهذه النظرية، فخرجت جماعات العنف الديني في مصر وفي غيرها.
في النظرية والتطبيق: محمد عبدالسلام فرج كان قائدا ميدانيا يريد أن يباشر تنفيذ مشاريع القتل والتفجير والاغتيال، وكانت تنقصه الخطوة الأولى أي النظرية، وهي خطوة «التكفير»، فبحث في التراث عن فتوى تمنحه ما يريد وانتزع فتوى لابن تيمية في أهل ماردين وأخرى في الطائفة الممتنعة وثالثة في التتار، فأخذها ووضعها في رسالته القصيرة جدا والمؤثرة في نفس الوقت لتمنحه النظرية لتطبيق ما أراد.
في النظرية: أصدر عبدالغفار عزيز «رئيس ندوة علماء الأزهر» فتوى بقتل فرج فودة فمنح الخطوة النظرية الأولى لمن يريد التنفيذ، وفي التطبيق: فقد جاء بالفعل بعض الشباب المتحمس فأخذ على عاتقه التنفيذ وقام بعملية الاغتيال.
في النظرية والتطبيق: أراد شكري مصطفى الجمع بين الأمرين، فأصدر فتواه بتكفير الشيخ الذهبي وأخذ على عاتقه إكمال المشوار وتنفيذ التطبيق فكلف بعض أتباعه باختطافه ثم تنفيذ القتل فيه لاحقا.
إن «مشروع تقليل المسلمين» بحر لا ساحل له، حين تخطو فيه خطوة فلا يمكنك التحكم بما يمكن أن تصل إليه، فلا حدود لهذا المجال ولا ضوابط لهذه المهلكة. والمصيبة اليوم لا تكمن في فتاوى فردية أو قتل فردي، فقد انتقلت النظرية في «مشروع تقليل المسلمين» من التجزئة إلى الجملة، ومن تكفير فرد ما إلى تكفير مجموعات شتى، وشرائح متنوعة، إذا كان تكفير مالك فضائية ما والحكم بقتله أمرا شنيعا فإن الأشنع منه هو الإفتاء بتكفير ملاك الفضائيات والحكم بتصفيتهم، وإذا كان تكفير أحد الكتاب والحكم بقتله جريمة بشعة، فإن الإفتاء بتكفير شرائح كبيرة من المجتمع تشمل فقهاء وعلماء شريعة ووزراء ومسؤولين وكثيرا من الشعب هو أمر لا يطاق وجريمة لا تغتفر.
الأكثر بشاعة هو أن المسائل الخلافية العادية والتي يرجحها غالب فقهاء المسلمين، ويعمل بها جميع المسلمين تقريبا تصبح مجالا لنظرية وتطبيق «مشروع تقليل المسلمين».
يعيش العالم اليوم معركة طويلة عريضة ضد الإرهاب والتطرف الذي يزعم أنه يمثل الإسلام، وأكثر الدول تضررا منه هي الدول الإسلامية، وأكثر ضحاياه وقتلاه هم من المسلمين في الرياض وإندونيسيا ومصر والمغرب وغيرها من بلدان المسلمين، وتسعى هذه الدول والمجتمعات للوقوف في وجهه بكل قوة ودرء شره وفتنته بأية طريقة ممكنة، وها نحن نرى أن البعض لا يطيق صبرا حتى ينفخ في جمره ليتقد.
بعد الحادي عشر من سبتمبر أنفقت كثير من الدول الإسلامية ميزانيات كبيرة جدا لتطويق الإرهاب وتجفيف منابعه، ولتحسين صورة المسلمين لدى العالم، وللأسف فإن كل هذه الجهود الجبارة سياسيا وإعلاميا وثقافيا تكاد تذهب سدى لمجرد فتوى عابثة خطرت في ذهن متطرف ما في مكان قصي عن العالم لا يدري ما يدور فيه ولا ما يجري من حوله.
إذا كان تعداد المسلمين اليوم يقارب المليار والثلاثمئة مليون مسلم، فإنهم لدى أرباب «مشروع تقليل المسلمين» لا يكادون يصلون لخمس هذا الرقم وأقل، كل بحسب جهده في المشروع!
Bjad33@gmail.com
للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 250 مسافة ثم الرسالة